هل تكون الملكية الاردنية اولى الساقطات في الربيع العربي
فيصل جلول:
في الثامن من كانون الثاني الجاري، كتب ديفيد شينكر مدير برنامج السياسة العربية في “معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى” (The Washington Institute for Near East Policy) مقالا بالعنوان أعلاه،([1]) يناقش فيه حال الملكيات العربية بعد “الربيع العربي”، متسائلا إن كان الأردن سيغدو أولى الملكيات العربية المنهارة، موردا أسباب اعتقاده. لكنه فيما أورد من أسباب قيّد نفسه في الحدود التي تفرضها الولايات المتحدة على أتباعها في العالم. وهذا أمر طبيعي لباحث في معهد يُقدِّم أبحاثه للبيت الأبيض ليهتدي بها في سياساته تجاه العالم. ولقد استهلَّ الكاتب المقال بقوله: “هذا المقال هو جزء من سلسلة من المقترحات السياسية للفترة الثانية من ولاية الرئيس الأمريكي بعنوان «أوباما والشرق الأوسط: الفصل الثاني»، يقدمها زملاء معهد واشنطن.”
وددت هنا أن أناقش بعض ما ورد في مقال ديفيد شينكر حول حقيقة الحال في الأردن من وجهة نظري ونظر رفاق لي مهتمين بمناقشة أحوال الأردن وفلسطين والوطن العربي، باعتبارها أحوالا متداخلة بعضها ببعض، مؤثرة بعضها على بعضها الآخر، فلا انفصام لها، حتى لو رفعت الأنظمة القطرية العربية شعاراتٍ هجينةً كشعارات “الأردن أولا” و”لبنان أولا” و”مصر أولا”، وهي شعارات فرضتها علينا السياسة الأمريكية لما نعرف من أسباب.
بطبيعة الحال، لا يريد الكاتب الأمريكي لهذه المَلَكيات المتحالفة مع واشنطن أن تسقط خشية أن “تحلَّ محلَّها أنظمة إسلامية معادية.” هنا سأقفز عن أنه يعدُّ الأنظمة الإسلامية وحدها هي المعادية لواشنطن، خاصة بعد أن رأينا ما رأينا من الإسلاميين فيما سُمِّي بالربيع العربي. لكن هذا حديث يطول. بيد أن الكاتب يعتقد أن “الخط الأحمر للأنظمة المَلَكية لن يدوم إلى الأبد.” وهو يظن أن “نهاية النظام الملكي في الأردن سوف يشكل صفعةً بالغةَ الخطورة لمصالح الولايات المتحدة”، لأن واشنطن سوف تخسر “أفضل حلفائها العرب الباقين، كما ستخسر إسرائيل آخر شريك موثوق في عملية السلام.” وهذا وصف صحيح قطعا.
يرى الكاتب، كالكثرة من الغربيين الذين كثيرا ما ينظرون إلينا من ثقب الباب، أن النظام في الأردن كان دائما يعتمد على من أسماهم “سكان الضفة الشرقية – وهم الأردنيون الذين سكنوا المنطقة قبل وصول اللاجئين الفلسطينيين الأوائل عام 1948″، باقتباس كلمات الكاتب. وقد وصف الباحثُ وقوف أردنيي الضفة الشرقية مع النظام لخوفهم من ذوي الأصول الفلسطينية. هذا قول فيه سطحية في التفكير أحيانا – خاصة فيما يتعلق بالمحللين الغربيين – كما أنّ فيه خبثاً متعمداً أحيانا أخرى، خاصة فيما يتعلق بمن يريد بثَّ الفتنة بين مكوِّنات الشعب الواحد، عملا بمبدأ “فرق تسد”.
صحيح أن الفلسطينيين التجأوا إلى الضفة الشرقية من نهر الأردن حين أُخرجوا عام 1948 من ديارهم في ضفة النهر الغربية، التي أطلقت عليها معاهدة سايكس-بيكو بين بريطانيا وفرنسا اسم “فلسطين”. لكنّ الحقيقة أن هؤلاء اللاجئين الفلسطينيين قد استقبلوا استقبالا أخويا وإنسانيا من أشقائهم في الضفة الشرقية. بل إذا اطّلع المرء على كيفية استقبال “الأردنيين” لأشقائهم “الفلسطينين” عام النكبة، استشفَّ نوعا من شعور الناس بالذنب أنهم لم يستطيعوا الدفاع عن ذلك الجزء من الوطن الذي احتله الأعداء. هذا الشعور بالذنب لا يعني، طبعا، أن ملامة التقصير تقع على عاتقهم، فكلنا يعرف الأسباب الحقيقية للنكبة. بل أستطيع القول، بصفتي من أهل الجزء من “فلسطين” الذي لم يُحتلَّ عام 1948، إن استقبال أهل الضفة الشرقية للاجئين الفلسطينيين لم يقلَّ دفئاً عن استقبال اللاجئين الذي هُجِّروا من الجزء المحتل من فلسطين ونزلوا في الجزء غير المحتل منه – الذي انضم إلى الضفة الشرقية لاحقا تحت اسم المملكة الأردنية الهاشمية. فذلكةُ القول إن أهل الضفة الشرقية لم يكونوا قطُّ متخوفين من اللاجئين الفلسطينيين. وإذا برز لاحقا تنافس بين الفئتين، فقد كان تنافساً بين أشخاص لا بين فئة وأخرى، وأغلبه تنافس اقتصادي يُلبَس لبوسا جهويا أو إقليميا. واليوم تعيش هاتان “الفئتان” تعايش الأهل، إلى أنْ يأتي من يثير الحساسية بينهما في مجالات كثيرة، تطبيقاً أيضاً لمبدأ “فرق تسد”.
يُعرِّج الكاتب على الفساد في الأردن، قائلا إن الأردنيين حانقون “على غياب الشفافية في بيع الأراضي الحكومية”، ضاربا مثلا في بيع مقر القوات المسلحة في عمان، وأظنه يعني منطقة العبدلي التي كانت تملكها الدولة وبيعت بما لا يعرف أسراره إلا الصفوة المستفيدة. كذلك يتطرق الباحثُ للفساد في عمليات الخصخصة، كما حدث في شركة الفوسفات، مثلا. هنا يشير الكاتب إلى ما أسماه “التصور المتنامي بأن الفساد والانحلال وصلا إلى القصر. فقد بدأت المشكلة بعد فترة وجيزة من اعتلاء العاهل الأردني العرش، حيث اتهمه بعض الأردنيين بالاستيلاء على بعض الأراضي “القبلية” بشكل غير مشروع”، إلى غير ذلك من تبذير لا يتناسب مطلقا مع وضع البلاد الاقتصادي، في مواجهة عجز “في الميزانية يبلغ نحو 30 بالمائة هذا العام”. ويرى الكاتب أن التقشف الذي لجأت له الحكومة، و”الذي فاقم من حدته إسراف القصر المتصور، إلى دفع البعض إلى الدعوة لـ “الثورة”.” هذا طبعا صحيح، والاحتجاج على الفساد هو الشعار الأهم في مطالب “الحراكيين” الذين ما فتئوا يتظاهرون في الشوارع كل يوم جمعة تقريبا.
لكن “الخوف من الفوضى،” حسب تعبير الكاتب، “قد ثبط عزيمة العديد من الأردنيين الذين كان يحتمل أن يكونوا من المحتجين.” هذا أيضاً صحيح، إذ ليس في الأردن من يريد أن يهرب من الدلَف إلى المزراب، بعد أن رأى الناسُ الفوضى التي حلَّت بليبيا خاصة، والدمارَ الذي حلّ بسوريا. ذلك أن الناس في الأردن، وهم مُسيَّسون في أغلبهم، قد سمعوا بـ”الفوضى الخلاقة” التي أطلقتها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، كندليزا رايس، ثم رأوا بأعينهم تطبيقها في دول الربيع العربي بأشكال متفاوتة. لكن علينا أن ندرك أن السياسة الأمريكية، وهي سياسة لا يتغير جوهرها بتغير الحزب الحاكم، لا تريد لفوضاها الخلاقة أن تحطّ في الأردن، ما دامت وظيفته الرئيسية أن يكون عازلا للدولة الصهيونية على الجانب الغربي من نهر الأردن. لهذا يرى المرء أن هذا المقال إنما هو تحذير من لدن كاتبه للبيت الأبيض لكي يعير الأردن اهتماما يجنِّبُه التغيير الذي قد يؤدي إلى الفوضى، ناصحا بالقول “ينبغي على واشنطن أن تشجع الملك عبد الله على المضي قدماً في محاكمة الفساد … بهدف تحسين صورة العاهل الأردني المشوهة في الداخل وزيادة احتمالات نجاته من الاضطرابات الإقليمية الحالية.” فإن لم تجد من الملك أذنا صاغية، وجب عليها “خلع الملك عبد الله واستبداله بأخيه الأصغر غير الشقيق، الأمير حمزة.” ذلك أن الكاتب يرى أن شباب ما سُمِّي بالحراك الشعبي “متماسكون وأبدوا وقاحة غير عادية في انتقاد الملك عبد الله”، إلى درجة “وصفه بأنه يمثل “علي بابا والأربعين حرامي“.” وهذا خط “غير مطَمئِن،” كما يقول الكاتب.
غير أن الكاتب يرى، في سبيل إقالة عثرة الأردن الاقتصادية، أن باستطاعة إدارة أوباما إقناع مجلس التعاون الخليجي بتقديم مساعدة مالية لهذه الدولة، “بما في ذلك تقديم مدفوعات نقدية إلى الملك، لمساعدته على تعزيز قاعدته القبلية.” صحيح أن باستطاعة مجلس التعاون الخليجي تجنيب الأردن الوقوع في مزالق الضيق المالي وما يتبعه من انتفاض أغلبية شعبه الفقيرة. لكن إلى متى؟ ولا نقصد بسؤالنا هذا أن نقول ما قد يقوله الخليجيون، بل إنه سؤالنا نحن في الأردن الشعبي، لا الرسمي. كذلك يعيدنا قول الكاتب بضرورة “تقديم مدفوعات نقدية إلى الملك” لـ”تعزيز قاعدته القبلية” إلى ما كان يفعله كلوب باشا، القائد البريطاني للجيش الأردني في خمسينات القرن الماضي وما قبلها، حين كان يزور العشائر البدوية حاملا معه المعونات العينية لاستمالتها. نعم، لقد نجحت تلك السياسة في ذلك الزمن الغابر. لكننا نتساءل إذا كانت لا تزال ذات نفع كبير في أيامنا هذه، وقد بلغ الجيلُ الجديدُ من أبناء تلك العشائر شأوا عاليا في العلم والثقافة، وما عادت صفة البداوة تنطبق عليهم. بل لعلنا نتساءل إن كانت تلك العشائر لا تزال تعيش حالة البداوة التي كانت عليها أيام كلوب. ولو دققنا في الحراكات الشعبية لوجدناها أشد ما تكون في جنوب الأردن، حيث تقطن من وصفها الكاتب بـ”القاعدة القبلية” للملك. صحيح أننا نرى كثيرا من المال يُنفق لشراء ذمم الناس في الانتخابات البرلمانية. لكن هذا لم يعد يغيِّر آراء الناس الذين أخذوا ينفضُّون عن الانتخابات، ويستهزئون بمجلسها المنتخب زورا. فما العمل؟
تطالب المظاهرات بمجموعة من الإصلاحات، تبدأ بوقف الفساد والمحسوبية، وتنتهي بتقليص صلاحيات الملك بحيث يصبح كملكة بريطانيا، لأن المنطق يرفض أن يُعفَى من المسؤولية من يمارسها. كذلك بلغت مطالب المتحمسين حدَّ المطالبة بتغيير النظام، وقد أتى عليها الباحث الأمريكي أيضاً.
لكن السؤال الجوهريَّ هو: أيمكن كل هذا أن يحل مشكلة الأردن حقاً؟ والجواب هو نعم، شرط أن تغدو المسكنات علاجاً شافياً للسرطان. لكن المشكلة أن أدوية واشنطن المُسكِّنة تشبه ما يفعله شيخ في قرية نائية يعالج الناس بأن يقرأ على رأس مرضاه مزيجاً من أوراد وأدعية وآيات قرآنية، ثم يجد من يُقسم أنه يشفي مرضاه حتى من الأمراض التي استعصت على الطب الحديث. (ألم يكن سيدنا المسيح يفعل ذلك؟) لم يزل هؤلاء الشيوخ يُقدمون براعتهم الشفائية، كما أن واشنطن لا تزال تقدّم للأردن ولغيره من دول العالم الثالث مُسكِّناتها التي تفاقم المرض وإن خففت أعراضه ساعة أو بعض ساعة.
حلُّ مشكلة الأردن لا يناسب البيتَ الأبيض، وتميمةُ هذا البيت لم تعد تُجدي. ذلك أنّ التبعية لواشنطن هي بيت الداء، والتحرر الوطني هو أصل الدواء.
تريدنا واشنطن، كما أرادتنا قبلها دول الاستعمار القديم، دولا مفتتة ضعيفة، فلا تقبل بحاكم يسعى للوحدة العربية، حتى لو كانت محض اتفاقيات تجارية بين أقطار متجاورة. هذا ما يجعل كاتب هذه السطور يتحفظ حتى على اسم “فلسطين”، لأن الحقيقة التاريخية، كما أسلفنا، أنه اسمٌ أطلقته معاهدة سايكس-بيكو على الجزء الجنوبي الغربي من بلاد الشام الذي اقتطعته هذه المعاهدة لتسليمه لليهود المجلوبين من أوربا الشرقية، لإقامة خلية سرطانية في خاصرة الوطن العربي، تكون كتيبة متقدمة للإمبريالية في المنطقة، وعاملا مُفتِّتاً لوحدة العرب.
كما أن واشنطن، وقبلها دول الاستعمار القديم، تريدنا دولا مستهلِكةً غيرَ منتجة، فكانت مهمة أتباعها في مؤسسات الدولة قتلَ الإنتاج الزراعي والصناعي. من ذلك أن الثروات الطبيعية، كالفوسفات، مثلا، تُصدَّر خاماتٍ غيرَ مصنَّعة. ومن ذلك أيضاً وجود ثروات معدنية أخرى كالصخر الزيتي، الذي يُقدِّر الخبراء أنه يكفي حاجة البلاد من الطاقة، وقد يزيد. كذلك يؤكد الخبراء وجود الغاز النفطي. وأمام استنكاف الحكومات الأردنية المتعاقبة عن استغلال الثروات الطبيعية، يعتقد الناس أن واشنطن ترى أنه لم يأنِ أوان إنتاجه، فهي التي تُقرِّر، لا نحن. أما الزراعة فحدِّث ولا حرج عن الإهمال المقصود أو الغبيِّ، حيث ينظر لها المسؤولون من زاوية نسبة مشاركتها في الدخل الوطني، ولا يأخذون في الاعتبار الخدمات التي تقوم على الزراعة، ولا المشكلة الاجتماعية التي تتأتى عن هجرة شباب الريف إلى المدن، دعك مما أصبح العالم يسميه الأمن الغذائي، فنحن في مأمن ما دامت واشنطن ترعانا كالغنم. ولا ننسى انتهاك الأراضي الزراعية الخصبة، إذ تتحول امتداداً غير ضروري للمدن، فتُقلع الأشجار لتُغرَس مكانها الأحجار، وعندنا امتداد صحراوي متاخم للمدن، إذا امتد إليه البناء، امتدت إليه الخضرة بالضرورة.
ما كتبه المحلل الأمريكي قد يصلح هدايةً للبيت الأبيض الذي يريدنا تابعين له، والبيت الأبيض، بالرغم من لونه، غيرُ معنيٍّ إلا بمصالحه وبالتأكد من أننا لا نزال أتباعا له مطيعين. فمتى نكسر نير التبعية، لنخطو أولى خطوات حل مشاكلنا؟