هل تتوارى دعوات التطبيع بالتوازي مع إنحسار مكانة أميركا دولياً؟
موقع قناة الميادين-
السيد شبل:
وصل التطبيع العربي مع “إسرائيل” إلى درجة متقدمة خلال عهد ترامب، وكان يفترض أن تتطور الأمور بالمنحى نفسه، لكن هذا المسار أصابه الجمود. وفي بعض المواطن، أصابه الشّلل.
لم يكن تهافت قادة العواصم العربية طوال العقود الماضية إلى “تل أبيب” والتودد إلى قادة الاحتلال منفصلاً بأي حال عن طموحهم لنيل رضا البيت الأبيض، وضمان عدم انقلاب زعماء واشنطن عليهم، ومن ثمّ السعي لتخريب أنظمة حكمهم بما يُفضي إلى عزلهم عن مناصبهم وخسارتهم كراسيهم في نهاية المطاف.
يدرك الجميع أنَّ الشعب العربي لديه موقف عدائي تجاه الكيان الإسرائيلي، وهو موقف عقلاني تماماً، وقائم على أساس المصلحة، ولم يكن بيوم من الأيام نتاج عاطفة مهتاجة تأثراً بخطاب بلاغي أو قصيدة شعرية أو صورة فوتوغرافية، كما يروج دعاة التطبيع.
هناك وعي متوارث لدى عموم العرب بأن نشوء هذا الكيان بمساندة ومباركة استعمارية غربية كان سطواً على أرضٍ عربية تم انتزاعها من مُلّاكها، كما يُعدّ سبباً مباشراً في تعطيل مشاريع الوحدة بما يتبعها من منافع اقتصادية ومكاسب سياسية، إذ كان جداراً من نار يمنع التواصل الجغرافي بين عرب أفريقيا ونظرائهم في آسيا، بل إنَّ “إسرائيل” في حد ذاتها كانت الردّ الغربي المباشر على مشروع النهضة والتمدد الإقليمي الذي حاول محمد علي تحقيقه انطلاقاً من مصر في مطلع القرن التاسع عشر.
ورغم رفض الشارع العربي أي علاقات مع “إسرائيل”، فإن عدداً لا بأس به من الأنظمة الحاكمة ذهب باتجاه التطبيع، والحقيقة أن هذه الأنظمة ما كانت لتعاند المزاج الشعبي العربي إلى هذا الحدّ وتخسر رضا مواطنيها إلا لو كانت تخشى قوة أكبر من الشعوب ذاتها؛ “قوة” يمكن لها أن تؤذي الخارجين عن طوعها، وتكافئ المنضوين تحت عباءتها، وليست هذه “القوة” سوى الولايات المتحدة؛ وريثة الاستعمار الأوروبي وحاضنة “إسرائيل”.
العلاقات الأميركية الإسرائيلية
لا يخفى على أحد من العوام أو المهتمين بالعلوم السياسية الرعاية التي قدمتها واشنطن لـ”إسرائيل” منذ نشأتها؛ فحتى شباط/فبراير العام الماضي، تكون الولايات المتحدة الأميركية قد قدمت 150 مليار دولار أميركي كمساعدة مباشرة لحكومة الاحتلال.
وكانت الإدارة الأميركية قد أبرمت اتفاقية عام 1999 التزمت فيها بتزويد “إسرائيل” بما لا يقل عن 2.67 مليار دولار أميركي سنوياً. وفي عام 2009، تم رفع المبلغ إلى 3 مليار دولار أميركي. ولاحقاً عام 2019، تم رفع المبلغ مرة أخرى، وهو يقف الآن عند مستوى نحو 3.8 مليار دولار أميركي تلتزم بها الولايات المتحدة الأميركية لـ”إسرائيل” كل عام كمساعدة عسكرية.
أما سياسياً ودولياً، فتكفي الإشارة إلى أنَّ الولايات المتحدة، حتى أيار/مايو 2022، تكون قد استخدمت حق النقض (الفيتو) 82 مرة. وفي الغالبية العظمى من المرات، كان “الفيتو” دعماً لـ”إسرائيل” أو منعاً لاتخاذ قرار أممي يدينها؛ آخرها في حزيران/يونيو عام 2018، ضد مشروع قرار تقدمت به الكويت يدعو لتوفير حماية دولية للفلسطينيين، وفي كانون الأول/ديسمبر 2017، بعد تصويتها ضد مشروع قرار تقدمت به مصر يرفض إعلان ترامب القدس “عاصمة لإسرائيل” ونقل السفارة إليها.
هذه الأرقام الضخمة لا تثير الدهشة إذا فُهمت في سياق رصد ثوابت العلاقة بين كلٍّ من الولايات المتحدة الأميركية و”إسرائيل” التي جعلت هذه الروابط “حالة استثنائية” بين دولة عظمى وأخرى إقليمية، إذ تستند العلاقة بينهما إلى:
أولاً، النظر أميركياً إلى “إسرائيل” باعتبارها الاحتياطي الإستراتيجي لمنظومة القيم والمصالح الغربية في المنطقة العربية وعموم الشرق الأوسط. وبناء عليه، يتم تزويدها بما يلزم بشكل دوري، بحيث تتمكن من القيام بدورها كقاعدة عسكرية متقدمة لتحجيم أي قوى مناوئة للمصالح الغربية في المنطقة.
ثانياً، النظريات الغربية التي رسخت لدى المواطن الأميركي فكرة “المظلومية اليهودية”، جنباً إلى جنب مع التعاطف مع “إسرائيل” باعتبارها كياناً متفوقاً على محيطه العربي وغريباً عنه ومكروهاً منه، لأنه “امتداد ثقافي وسكاني لأوروبا المتحضرة”.
ثالثاً، جماعات الضغط اليهودي المنتشرة في مختلف الولايات الأميركية، والتي تتدخّل في كل تفاصيل صنع القرار الأميركي، وتوجّهها لمصلحة “إسرائيل”. وقد أدت هذه الجماعات دوراً بارزاً في صرف الرأي العام الأميركي عن تبنّي أي رؤية متعاطفة مع القضايا العربية عموماً.
وقد تميّزت السياسة الأميركية منذ نشأة “إسرائيل” بتطور إيجابي على مر عقود، وبقدرتها على تجاوز الخلافات والقفز عليها، لأنها جاءت تعبيراً عن دوافع حقيقية في صلب الإستراتيجية الأميركية الشاملة تجاه منطقة الشرق الأوسط. وقد عملت واشنطن طوال تلك السنوات على “الدفاع عن أمن إسرائيل، والحفاظ على تفوق المؤسسات الإسرائيلية، ومحاولة دمج إسرائيل في المنطقة بما يحقق المصالح الأميركية في الهيمنة”.
العالم يتغير.. ووعود التطبيع تتهاوى
خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، قطع دعاة التطبيع شوطاً طويلاً إلى الأمام بانخراط دول خليجية، مثل الإمارات والبحرين، في علاقات معلنة مع العدو الصهيوني، إذ زار الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ كلاً من أبو ظبي والمنامة، وكان من المفترض اتساع رقعة التطبيع أكثر عبر جذب دول أخرى إلى هذا الخندق أو عبر تعميق العلاقات القائمة أصلاً بين حكومة الاحتلال وعدد من الحكومات العربية.
لكنّ هذه الخطوات المتسارعة نحو التطبيع يبدو أنها ستتعطّل قليلاً في السنوات المقبلة، ليس بسبب صحوة ضمير القائمين على هذا النوع من الملفات، ولكن لأنَّه لا مفرّ من تأثّر العلاقات الدبلوماسية الشائكة داخل منطقة الشرق الأوسط بالأحداث الجارية دولياً، ولا شيء يحتلّ الصدارة حالياً بقدر الحديث عن انحسار الحضور الأميركي عسكرياً واقتصادياً، بالشكل الذي يحدّ من قدرة البيت الأبيض على فرض إرادته على حلفائه، ويمنحهم درجة أعلى في المراوغة والإفلات والتفكير في مصالحهم الذاتية.
تاريخياً، بدأ مسار التطبيع العربي مع “إسرائيل” في نهاية سبعينيات القرن الماضي. وعندما أرادت الحكومة المصرية توقيع معاهدة “السلام”، بشّر الإعلام الرسمي المواطنين بـ”أنهار من العسل المصفّى” ستجري جنباً إلى جنب مع مياه النيل، لا لأنَّ الاقتصاد الإسرائيلي “جبّار” و”استثنائي” وسيقدّم المعونات، ولكن بسبب قوة “الرب الأميركي” الذي سيمنح مباركته التي تم حرمان المصريين منها طوال سنوات التحديّ الناصرية.
وبعد 40 سنة ونيفاً منذ توقيع معاهدة “كامب ديفيد”، ما زال المصريون مهددين بالحرمان من النيل ذاته، والجنيه تتراجع قدرته الشرائية بشكل يحرم الملايين من القدرة على تناول وجبة صحية تحوي كمية معقولة من البروتين الحيواني.
وفي ملف التطبيع، عندما أعطاه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قبلة الحياة خلال فترة ولايته من عام 2017 وحتى عام 2021، كانت الوعود ذاتها هي مُحفّز العواصم العربية للاندفاع بهذا الاتجاه.
الخرطوم، مثلاً، “وُعدت” برفع العقوبات التي أرهقت اقتصادها لعقود طويلة، و”بُشرت” بأن المستثمرين الأجانب سيتراصّون على الحدود لاستثمار مليارات الدولارات في داخل البلاد، وها هو السودان اليوم يعاني ويلات الاقتتال بين أهم مكوّنين عسكريين فيها. وعوضاً عن طوابير المستثمرين، تراصّت طوابير اللاجئين والنازحين.
أما الرباط، فقد تزامن تطبيع حكومتها مع إقرار الإدارة الأميركية بقيادة ترامب بسيادة المغرب على الصحراء المتنازع عليها مع البوليساريو منذ عقود، لكن نتيجة المماطلة الإسرائيلية وموقف “تل أبيب” المتردد بشأن النزاع في الصحراء، تأجّل افتتاح السفارة الإسرائيلية في الرباط حتى اليوم.
الدول الخليجية ذاتها بدأت تدرك أن تحقيق مصالحها يفرض عليها أن تتحلل من واجبات الطاعة المفروضة عليها من جانب واشنطن (وذيولها). ولا بد من أن عواصم الخليج التي جمعت ثروات ضخمة بفعل بيع النفط، وراكمت الكثير من عوامل القوة، آخذة في التفكير في تنويع علاقاتها الدولية، بما يضمن منافعها الذاتية، مستغلة أيضاً تراجع الدور الأميركي في بقاع العالم.
تراجع واشنطن.. وصعود بكين وموسكو وطهران
لا تخلو صحيفة أو مركز بحثي في العالم من مقال يتناول “الحرب الباردة الجديدة” التي تدور رحاها بين الولايات المتحدة الأميركية من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى.
ورغم أن وسائل الإعلام الأطلسيّة دأبت على توصيف الأمر بأنه “صراع بين الديمقراطية الغربية والاستبداد الشرقي”، فلا يصدّق أحد ذلك، ويبدو واضحاً أن السبب وراء ما يحصل من عنف أميركي وتصعيد على كل المستويات هو رغبة الولايات المتحدة في الحفاظ على سيادتها العالمية ووضعها كقطب أوحد يدير الأمور بلا رادٍّ أو صاد.
يشعر الأميركيون الآن بالتهديد نتيجة نمو قوة الصين الاقتصادية التي بدأت تنعكس على نشاطها السياسي الدولي، الأمر الذي وصل إلى حدّ رعاية اتفاقيات الصلح في الشرق الأوسط والتوسّط في الحرب الدائرة في أوكرانيا. إضافة إلى ذلك، ينتابهم القلق من تعزيز مكانة روسيا دولياً، وانتصارها في العديد من بؤر التوتر في العالم، وقدرتها على جذب العديد من حلفاء أميركا التقليديين في العالم الثالث.
أما إيران، خصم أميركا اللدود منذ نهاية السبعينات، فقد ضربت بصمودها نموذجاً لكل دول الجنوب، واستطاعت بإمكانات محدودة أن تُطوّر اقتصادها وتنمّي قوتها العسكرية وتبني شعباً متعلماً ومنتجاً، فأصبحت رقماً مهماً في المعادلة الدولية، رغم الحصار والتآمر والتدخلات الخارجية التي لا تنقطع.
صحيح أن من السابق لأوانه الحديث عن انهيار كامل لمكانة الولايات المتحدة، فهي الآن تتمتع باقتصاد نابض بالحياة مدعوم بالثقل المالي، ناهيك بقوتها العسكرية، لكن في الآن ذاته يمكن بضمير راسخ أن نتحدث عن تراجع كبير في الحضور والتأثير الدولي مقارنة بعقد التسعينيات على الأقل، حين كان الاتحاد السوفياتي قد توارى، ولم يكن منافسو الولايات المتحدة قد طوّروا إمكاناتهم مثلما هي الحال اليوم.
على سبيل المثال، إذا ما قورن الاقتصاد الأميركي بنظيره الصيني، يتبين حجم التراجع، إذ انخفضت حصة الولايات المتحدة من الناتج المحلى الإجمالي العالمي من 50% عام 1950 إلى 14% عام 2018، في حين تجاوزتها الصين بنسبة 18%. كذلك، فإن الاقتصاد الصيني ينمو بمعدل أسرع بثلاث مرات.
كذلك، شكلت الحروب في منطقة الشرق الأوسط ما بعد “الربيع العربي”، ثم التوترات اللاحقة في منطقة القرم وشرق أوكرانيا، تحديات خاصة.
وفي الوقت الذي كانت روسيا كياناً متواضعاً بالنسبة إلى الولايات المتحدة خلال سنوات حكم بوريس يلتسن، تمكّن فلاديمير بوتين ورفاقه من تطوير قوات بلادهم على مدار عقدين، ولم تكتفِ موسكو بانتزاع مناطق نفوذ كانت مضمونة لحساب البيت الأبيض، بل أصبحت تبثّ إعلاماً وأفكاراً ونظريات تهدد سلطة الولايات المتحدة المعنوية، وتبشر بعالم متعدد الأقطاب، وتؤكّد أن “الهيمنة الأميركية” تلفظ أنفاسها الأخيرة.
ملفّ التطبيع العربي مع “إسرائيل”: المُفترض والمُتغيّر
لا يستطيع أحد الجزم بما يمكن أن يرسم خريطة العمل داخل منطقة الشرق الأوسط مستقبلاً، وخصوصاً أن الأحوال الإقليمية والدولية باتت سريعة التبدّل، لكن يمكن استنتاج عدة أمور ستحدد ملامح مسار تطبيع الأقطار العربية مع “إسرائيل”، وخصوصاً إذا ما استمرت الأوضاع العالمية بالسير في المنحى نفسه الذي تسير عليه اليوم:
أولاً، وصل التطبيع العربي مع “إسرائيل” إلى درجة متقدمة للغاية خلال عهد دونالد ترامب، وكان يفترض أن تتطور الأمور بالمنحى نفسه، لكن هذا المسار أصابه الجمود، وفي بعض المواطن الشلل، وذلك مع وصول جو بايدن إلى كرسي الرئاسة، وبحكم المتغيّرات الدولية التي تراكمت طوال سنوات وبدأت بالإعلان عن نفسها اليوم.
ثانياً، الشعب العربي في مختلف الأقطار العربية، حتى الخليجية منها، يواصل التشبث بموقفه الرافض للعلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية مع “إسرائيل”. ورغم كل الجهود التي عملت عليها دوائر غربية ثقافية طوال العقود الماضية، فإن الموقف الشعبي لم يتبدّل، ولا بد من أن الحكومات ستراعي ذلك، وخصوصاً إذا تحررت، بدرجة أو أخرى، من الضغوط الأميركية.
ثالثاً، انفتاح العواصم العربية على كلٍ من بكين وموسكو وطهران سيمنحها الفرصة للتركيز على مصالحها الخاصة التي لا يمكن بأي حال أن تتحقق عبر التطبيع مع “إسرائيل”، فالكيان، رغم الدعم الغربي المهول، لا يستطيع انتشال دولة عربية من كبوتها الاقتصادية أو دعمها بالاستثمارات مثلما قد تفعل الصين أو روسيا، حتى الترسانة العسكرية الإسرائيلية -التي كانت بعض العواصم الخليجية تراهن عليها- تعجز عن “تأمين” الأراضي المحتلّة ذاتها من تهديدات المقاومة.
رابعاً، الضّغط الأميركي مثّل أهم عامل في دفع الأنظمة العربية باتجاه التطبيع. صحيح أنّ ثمة عوامل أخرى نفسية أو مادية حكمت علاقة بعض المسؤولين العرب بحكومة الاحتلال، لكن ظلّ العامل الأميركي هو الأبرز في هذا السياق. وبانحسار دور الولايات المتحدة، فإن المشهد برمته سيتغير.
خامساً، شرع عدد من الباحثين الدوليين في الحديث صراحةً عن حاجة العالم إلى الإقرار باستحالة دمج “إسرائيل” في المنطقة العربية، وأن كل الجهود التي قامت بها واشنطن وعواصم غرب أوروبا في هذا السياق باءت بالفشل، لأن “إسرائيل” ببساطة ليست جزءاً من هذه المنطقة، ولأن مستوطنيها أنفسهم يشعرون بغربتهم عن أجواء الشرق الأوسط وثقافته، ويتوقون إلى الهجرة إلى دول الاتحاد الأوروبي وأميركا وكندا. هذا الرأي البحثي الناضج سيوفّر للعرب مجالاً أكبر لتجنّب التورّط أكثر في ملفّ التطبيع.
سادساً، تشعر حكومة الاحتلال بأنّ كلّ مخططات التطبيع باتت مهددة بالفشل، وخصوصاً أن الرقبة العربية تتحرر رويداً رويداً من السكين الأميركي، بل إنَّ الأنظمة العربية صارت أقرب إلى دمشق وطهران، حتى إن الخطاب المذهبي الكريه انزوى بشكل شبه كامل، أي أن الأمور انقلبت رأساً على عقب، ومحور المقاومة (بأفكاره حول الممانعة ورفض التطبيع) يكسب أرضاً جديدة على حساب خصومه.