هل أوشكت حرب غزة على الانتهاء؟
جريدة البناء اللبنانية-
د. علي أكرم زعيتر:
قبل أسبوع من اليوم، صرح المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دنيال هغاري قائلاً: إن الجيش الإسرائيلي بصدد تسريح عدد من جنود الاحتياط لدواعٍ اقتصادية. ومنذ تصريح هغاري ما زالت التقارير الإعلامية حول تسريح مزيد من الضباط والعناصر تتوالى، فهل يعدّ ذلك مؤشراً على قرب انتهاء العدوان على غزة؟
ما لم يقله هغاري، قالته الصحف الإسرائيلية: إن استدعاء الاحتياط كلف الخزينة الإسرائيلية ما معدله 600 مليون دولار للأسبوع الواحد. هذا الرقم المهول ليس بمقدور «إسرائيل» ولا أي دولة أخرى تحمّله، لذا كان أن أوعز الجيش للضباط وعناصر الاحتياط غير الضروريين بالعودة إلى بيوتهم، لا سيما أنّ عدداً كبيراً منهم كان يعمل في مؤسسات حكومية وخاصة، وقد أدى استدعاؤهم إلى توقف عمل تلك المؤسسات، ما أرهق الاقتصاد الإسرائيلي، المترنح أساساً بفعل صولة 7 تشرين الأول، وبفعل العمليات العسكرية الدائرة في غزة، وفرَض عليه مزيداً من الأعباء.
بعد مضيّ أكثر من خمسين يوماً على اندلاع الحرب في غزة، بات صنّاع القرار في كيان الاحتلال مدركين للحقيقة التي تقول، إنّ القضاء على حماس ضرب من ضروب المستحيل، ولعلّ أول من سارع إلى تلقف ذلك هو رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق إيهود باراك الذي قال: لا يمكن الإجهاز على حماس لأنها حركة إيديولوجية متجذرة في نفوس الناس.
إيهود باراك الذي كان شاهداً على اندحار جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000 يدرك تماماً أنّ القضاء على الحركات والتنظيمات العسكرية ذات الإيديولوجيا الدينية أشبه بالأماني المستحيلة. إنّ القضاء على حركة حماس قد يستلزم بالضرورة القضاء على مليوني ومئتي ألف غزاوي، لأنّ آراء وأفكار وتعاليم وأطروحات حماس متجذرة في نفوس هؤلاء.
هذه القناعة التي وصل إليها قادة الاحتلال والتي عمقتها تجربة القتال لخمسين يوماً، دفعت طيفاً واسعاً من وزراء حكومة نتنياهو إلى البحث عن بدائل وافية لـ«مشروع تدمير حماس أو إسقاط حكمها». حتى الآن لم تفلح كلّ محاولات هؤلاء لإيجاد بدائل، فالحرب التي بدأها نتنياهو في 8 تشرين الأول بقصف جوي تمهيدي، أضاع على ما يبدو مفاتيحها أو جهاز التحكم بها في غمرة البحث عن أنفاق حماس في شمال القطاع ووسطه، وما عاد بمقدور الرجل أن يلتفت إلى الخلف، أو يوقف صخب المعركة قليلاً ريثما يجد ضالته.
أمام نتنياهو الآن خياران لا ثاني لهما، إما الاستمرار في المعركة، وبالتالي تكبّد مزيد من الخسائر التي لا طائل منها، وإما إيقافها حالاً، وهذا يعني نصراً محتماً لحماس لأنه لم يحرز أيّ إنجاز حتى الساعة. هذا الأمر يدركه نتنياهو جيداً، ولكن لم يعد أمام الرجل ما يفعله الآن. فالوقت يضيق ولا حلول في الأفق.
إذا ما عطفنا خيارات نتنياهو المرة على خبر تسريح عدد من ضباط وجنود الاحتياط، نصل إلى قناعة مفادها انّ حرب نتنياهو الآثمة على غزة أوشكت على الانتهاء، وما بعد هدنة الأيام الأربعة ثم تمديدها ليومين إضافيين، أيام قليلة تفصلنا عن نهاية المعركة. وإلا لو كانت المعركة ما تزال في أوْجها لما سرّحت قيادة الجيش أياً من ضباط وعناصر الاحتياط، فالقاعدة العسكرية تقول: حتى لو كانت مجريات المعركة تسير لصالحك، ومهما كنت ممسكاً بزمام الأمور، لا يمكنك في خضمّ المعركة الاستغناء عن أيٍّ من ضباطك أو جنودك. أنت بأمسّ الحاجة لكلّ واحد منهم.
هناك عدة سيناريوات متوقعة لمرحلة ما بعد الهدنة، أحدها يرجح استئناف جولات القتال، يتلوها هدن متفرقة، كلما دعت الحاجة إلى ذلك، أو كلما شعر الطرفان بجدواها. لم يذهب أيّ من المحللين أو المراقبين إلى توقع تمديد الهدنة، أو انتهاء المعركة فوراً. هذا السيناريو مستبعد كلياً لدى جمهور المراقبين، وهذا ما نحن عليه أيضاً. نحن نتوقع استئناف جولات القتال بعد انتهاء الهدنة ولكن بوتيرة أقلّ حدة وعنف، وذلك للأسباب الآتية:
أ ـ إنّ استمرار القتال بالوتيرة ذاتها التي كان عليها، قد يعطي ذريعة لحزب الله وأنصار الله لتوسعة دائرة الحرب بشكل غير مسبوق وصولاً إلى الحرب الإقليمية الكبرى، وهذا ما لا تريده الولايات المتحدة وإسرائيل في الوقت الراهن.
ب ـ لقد استنفدت إسرائيل جلّ أهدافها، ولم يبقَ في بنك الأهداف لديها إلا القليل، ما يعني أنها حتى لو استأنفت القتال، فلن يكون كما كان عليه قبل الهدنة.
ج ـ تصاعد الضغوط الدولية على إسرائيل، حيث بدأت تتعالى الأصوات داخل الأمم المتحدة وخارجها مطالبةً بكف يد إسرائيل، نظراً لحجم المجازر التي ارتكبتها خلال 50 يوماً.
بالطبع، نحن نعتقد بأنّ المجتمع الدولي فاقد لأبسط مقومات الشعور الإنساني، ولكن أمام هول الغطرسة الإسرائيلية، والجرأة المتمادية، وجدت العديد من الحكومات الغربية نفسها محرجة أمام شعوبها، منها على سبيل المثال إسبانيا، ما اضطرها إلى رفع الصوت بوجه كيان الاحتلال.
صحيح أنّ «إسرائيل» لا يعنيها رأي المجتمع الدولي كثيراً، ولا حتى ضغوطاته، ولكن في النهاية هي ملزمة بما تمليه إدارة بايدن، ويبدو أنّ الأخيرة مستاءة من إطالة أمد الحرب، جراء اللوم الشديد الذي تتعرّض له في المحافل الدولية، ما قد يدفعها إلى ممارسة مزيد من الضغط على نتنياهو حتى يوقف الحرب.
د ـ الأعباء الاقتصادية المتصاعدة، بفعل توقف الكثير من القطاعات المنتجة داخل الكيان، جراء الحرب، يضاف إليها التهديدات الجدية التي بدأ يشكلها الحيش اليمني على طرق الملاحة البحرية الإسرائيلية وما رافق ذلك من خشية إسرائيلية جدية من توقف الأنشطة التجارية من وإلى الكيان. الأمر الذي سيحدّ من خيارات نتنياهو وسيدفع به إلى تعجيل موعد انتهاء الحرب، وذلك خلافاً لما صرح به بداية انطلاق العدوان على غزة، حيث سبق وأشار إلى أن حربه على القطاع ستطول.
هـ ـ استمرار التظاهرات الداخلية الإسرائيلية التي ينظمها ذوو الأسرى الصهاينة، وعدد من الأحزاب السياسية المعارضة المتعاطفة معهم.
هذه التظاهرات، وإنْ كانت محدودة إلا أنها تشكل ملفاً حساساً وضاغطاً على حكومة نتنياهو، ما قد يدفع به إلى الإسراع في إنجاز ملف الأسرى، ولا يكون ذلك، كما نعلم، إلا بتهدئة الأوضاع في القطاع، إذ لا يمكن إنجاز صفقة تبادل تحت وطأة القصف.
قد تخالف حكومة نتنياهو توقعاتنا، فتُصعِّد من وتيرة اعتداءاتها بعد انتهاء الهدنة. هذا أمر محتمل. ولكن من حيث الجو العام، تبدو الأمور متجهة نحو مزيد من التهدئة، وصولاً إلى الوقف التام للحرب.