نهاية عام أم نهاية عقود؟
موقع قناة الميادين-
موفق محادين:
مثل هذا التوازن من لبنان وغزة إلى باب المندب، صار جزءاً من حرب الموانئ التي ترسم اليوم جانباً مهماً من شكل العالم المقبل.
مع نهاية عام 2021، يكون الشرق العربي والإسلامي، والعالم قد أغلق العقود المريرة التي تلت الانهيار السوفياتي والغزو الأميركي للمنطقة، وما تلاهما من ترتيبات أميركية فاشلة لملء الفراغ الثاني (السوفياتي) بعد الفراغ الفرنسي – البريطاني في أعقاب حرب السويس 1956 وصعود الناصرية وموسكو وخصمهما الإمبريالية الأميركية.
كان أخطر الترتيبات الأميركية هو تعميم كامب ديفيد مع العدو الصهيوني، عبر معاهدة وادي عربة مع الأردن واتفاقية أوسلو مع القيادة الفلسطينية، ومحاولات دفع قوى نحو الممانعة والمقاومة خلف الأسوار وإطباق الحصار عليها، بدءاً باستنزاف سوريا في لبنان وإخراجها منه، مروراً بالعدوان الفاشل على لبنان 2006 وصمود حزب الله في وجهه، وانتهاءً بالاشتباك الاستراتيجي الأميركي – الإيراني.
إلى جانب ذلك، راحت الإدارة الأميركية تحضر المنطقة لتضعها أمام مثلث جديد يستكمل الحلقة الصهيونية، وذلك على حساب الحرس البيروقراطي وعواصمه من جهة، كما على حساب معسكر وقوى الممانعة والمقاومة من جهة أخرى، وقد تمثّلَ المثلث المذكور في أشكال مختلفة من الإسلام الأطلسي الأميركي – البريطاني (المركز الإقليمي التركي – المركز المالي والإعلامي الخليجي وخاصة دولة الغاز المُسال وفضائيّتها – المركز الإخواني في الشارع).
وكان ملاحظاً أيضاً، بناء أقلام الاستخبارات الأطلسية لحلف موضوعي بين جماعات الإسلام الأطلسي، بشقّيه الناعم والخشن، وبين جماعات الثورة الملوّنة وأوساط ليبرالية مزعومة جرى اختلاقها وصناعتها، سواء عبر مراكز التمويل المعروفة مثل: “راند” ومركزها الإقليمي في الدوحة، و”كارنيغي”، و”نيد” و”فورد فاونديشن” والمجتمع المفتوح وغيرها، كذلك عبر شباب الفيسبوك المدرّبين في مركز “الآوتبور” وأكاديمية التغيير، كما كان ملاحظاً أن الغالبية الساحقة من محرّكي هذه الدمى والثورات الملونة، هم من اليهود، أمثال: سوروس، برنار ليفي، غراهام فولر، بيتر أكرمان، روبرت ساتلوف، نوح فيلدمان وغيرهم.
وقد تولّت هذه الجماعات استغلال الاحتقانات الشعبية الموضوعية وتوظيفها وإضفاء بُعد طائفي وجهَوي عليها وإطلاقها عبر ما عُرف بـ(الربيع العربي) وفق استراتيجية، أثر الفراشة، والأواني المستطرقة، والتي سرعان ما كشفت عن نفسها، وهي إطلاق فوضى عارمة وتحطيم البنى العربية وإغراقها في الدم باسم الديموقراطية والتغيير، فيما أكدت الأحداث أن استراتيجية الفوضى والتفكيك المذكورة لم تسفر عن مناخات مدنية ديمقراطية، بل عن مناخات من الفوضى الطائفية والجهوية الدامية.
بالتزامن، وعلى صعيد كوني، وانسجاماً مع طبيعتها المتوحشة العنصرية، لم تتورّع المتروبولات الرأسمالية عن استثمار وباء كورونا، أياً كانت أسبابه ومصادره، من أجل تجاوز أزمتها البنيوية وإعادة إنتاج هيمنة المنظومة الرأسمالية على العالم، من خلال إعادة إنتاج الاستراتيجيات والنظريات الإجرامية وحروب الإبادة المنظمة، مثل المالثوسية الجديدة والداروينية الاجتماعية، وأفكار مثل المثلية والتعقيم الجماعي، بما يؤدي إلى خرائط اجتماعية ديمغرافية على المستوى العالمي.
لكنّ العقود المذكورة لم تمرّ على الإمبريالية الأميركية والأوروبية وأدواتها وتحالفاتها كما تتمنى وتشتهي، بل جُوبهت بأشكال شتّى من ضروب المقاومة والممانعة حوّلتها بالتدريج إلى إرهاصات مضادة لعقود جديدة مقبلة.
وإذا كان من الصعب الحديث عن الدخول في حقبة جديدة مغايرة تماماً، فثمة معطيات تؤشر على أن العالم الرأسمالي وملحقاته، قد دخلت طوراً معقّداً من الأزمات المتفاقمة، ما يجعل العالم برمّته أقرب إلى سنوات مقبلة تحت عنوان انتقالي مثل (حافة الهاوية) وما تستدعيه من إدارة للأزمات أكثر منها اشتباكات ذات طابع استراتيجي، والتلويح بتهديدات اقتصادية وعسكرية وسياسية من الصعب ترجمتها على أرض الواقع، ومن ذلك ما يتعلق بالابتزازات الأميركية – الصهيونية لإيران في الملف النووي، ولروسيا عبر أوكرانيا، وللصين عبر تايوان.
صحيح أن الإمبرياليين، وخاصة الولايات المتحدة، لن يسلّموا بهذه الوقائع المتسارعة في ما يخصّ ميزان القوى الجديد في العالم، وسيواصلون لعبة الشرطي الوصي على العالم ودفن الرأس والإنكار بالاستناد إلى نظريات هايك وميلتون (الرأسمالية قادرة على تصحيح نفسها تلقائياً)، لكن هذا الإنكار لا ينفي الصيرورة الموضوعية لبداية العدّ العكسي لاستفرادهم بالعالم، كما اعترف بذلك بول كينيدي وبريجنسكي، الأول انطلاقاً من تبعات التفكك التي تلازم كل الإمبراطوريات التي تفقد التوازن بين البعد البحري والبعد البري، والثاني انطلاقاً من تبعات التفكك الناجمة عن الثورة الرابعة أو المعلوماتية.
ومن المفارقة هنا تطابق قراءات بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأميركي، لهذه الدولة الإمبريالية، مع نبوءات ماركس مؤسّس الاشتراكية وعقلها، والذي تحدث قبل قرن ونصف تقريباً عن التناقض الداخلي التاريخي في قلب الرأسمالية، حيث يؤدي التقدم العلمي إلى طرد متزايد للملايين من سوق العمل، وإلى الهرب نحو الخارج في مغامرات عسكرية تعمّق الأزمات بدلاً من حلّها.
أيضاً، وبالتزامن مع العولمة الاقتصادية، فإن المتروبولات الرأسمالية الكبرى بدلاً من أن تتجه نحو المزيد من الاندماج الاجتماعي، تتجه إلى المزيد من التصدّع: خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والنزعات الانفصالية القومية في إسبانيا وفرنسا وإنجلترا، وصعود اليمين العنصري.
ويلاحَظ هنا اتساع ميل الإمبريالية إلى الهرب من أزماتها البنيوية نحو العنصرية وتحميل العمال المهاجرين مسؤولية هذه الأزمات، كما حدث مع ترامب عند انتخابه في المرة الأولى، وكما يحدث في مناطق أخرى من العالم الرأسمالي.
في المقابل، ثمة مؤشرات على نهاية عقود ما بعد الانهيار السوفياتي والحرب الباردة، وعلى أن العالم لم يعد يدور على القرن الأعضب للثور الأميركي، ابتداءً من الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، كما رسمها مبدأ مونرو، مروراً بالشرقين العربي والإسلامي كما رسمهما مبدأ أيزنهاور، وانتهاءً بأوراسيا وطريق الحرير الجديد والشرق الأدنى، كما رسمها مبدأ بريجنسكي في (خطة لعب)، فأميركا اللاتينية اليوم تذهب يساراً وفي أقل تقدير نحو الديمقراطيات الاجتماعية، بما في ذلك المكسيك، كما تزداد فنزويلا تمرّساً وتجربة، وتتحوّل يوماً بعد يوم إلى كرة ثلج مناهضة لليانكي.
أما في الشرقين العربي والإسلامي، فمثلث الإسلام الأطلسي (التركي، الخليجي، الإخواني) يتراجع الحلقة تلو الأخرى، من سوريا إلى مصر وتونس والمغرب، فضلاً عن اندحار الموجات التكفيرية ومقتل عشرات بل مئات الآلاف من عناصرها، وتراجعها إلى دوائر صغيرة بحماية الأميركيين، على غرار الدواعش والقاعدة قرب قاعدة التنف.
كذلك تتسع الاحتمالات والقراءات حول السقوط الوشيك لإردوغان في تركيا نفسها، ويُظهر معسكر الممانعة والمقاومة، الرسمي والشعبي، قدرة غير عادية في تحصين تقدّمه العسكري والسياسي بصمود اقتصادي – اجتماعي أمام الحصارات المختلفة وتبعاتها الصعبة على الطبقات الشعبية.
أما الاختراقات المتواصلة على جبهة التطبيع الرسمي، فهي ليست جديدة ولا مفاجئة، إلا من حيث الإعلان عنها، الذي لم يكن أكثر من تأكيد للعلاقة الحتمية بين اختلاق الكيان الصهيوني ومحميّات النفط والغاز المسال.
ويشار كذلك إلى أن قوى المقاومة (حزب الله وقطاع غزة) نجحت في تشكيل توازن ردع مع العدو الصهيوني، وذلك في سابقة غير معهودة في الصراعات السياسية، وخاصة مع قوى مثل الكيان الصهيوني، وبالمثل ما حقّقه أنصار الله في اليمن مع تحالف العدوان وترسانته العسكرية، وبات واضحاً أن مثل هذا التوازن من لبنان وغزة إلى باب المندب، صار جزءاً من حرب الموانئ التي ترسم اليوم جانباً مهماً من شكل العالم المقبل، وكذلك من الحسابات السياسية لكل اللاعبين في المنطقة.
وليس من دون معنى أن يُنظَر إلى التهديدات الصهيونية لضرب المفاعل النووي الإيراني بعين هذا التوازن، إضافة إلى قوة الردع الإيرانية المتصاعدة؛ فالاعتداء الاستراتيجي على حزب الله أو سوريا أو إيران يضع العدو الصهيوني وآبار النفط والغاز في خطر استراتيجي في المقابل.
هذا على صعيد المنطقة، أما على الصعيد الدولي، فالانبعاثات الإمبراطورية في روسيا والصين أكبر من دوائر سياسية واقتصادية يمكن التأثير عليها بهذا التهديد أو ذاك، وبهذا التجمع أو ذاك، من طوابير الثورات الملونة، ولا عبر هذه الخاصرة أو تلك، مثل أوكرانيا وتايوان ومرتزقة الإيغور.
فروسيا الأوراسية مشروع تاريخي باعتراف مؤسسي الجغرافيا السياسية الحديثة، مثل راتسل الألماني وماكندر البريطاني، ومثل ذلك طريق الحرير الصيني، حيث لم تعد الصين الحالية تشبه إمبراطورية الفضة ومصيرها عبر حرب الأفيون في القرن التاسع عشر. فالصين اليوم، قوة موضوعية وشبح اقتصادي هائل من الصعب إطلاق النار عليه.