نداء استغاثة من أبناء قطاع غزة
د. مصطفى اللداوي:
لا تكادُ دولةٌ في العالم تخلو من مشكلة البطالة، حتى أكثر دول العالم تقدماً وثراءً ورخاءً فإنها تعاني من أزمة البطالة التي تتفشى وتزداد، ولا تكاد تتراجع حتى تعود أسوأ مما كانت، رغم الحلول الجذرية التي توصف، والبرامج العملية التي تنفذ، ومساعي الحكومات الجادة لامتصاص جيوش الخريجين والعاطلين والباحثين عن العمل، فضلاً عن النشاط الواسع والكبير لرجال الأعمال ومشاريع الاستثمار والشركات الخاصة، إلا أن هذه الجهود كلها تقف عاجزة أمام معضلة البطالة، التي أصبحت شبحاً يطارد كل مواطن، ورعباً يلاحق كل إنسانٍ يبحث عن عملٍ أو وظيفة، لهذا تتعالى الأصوات المطالبة بضرورة مواجهة هذا الخطر الداهم، وتحديه بالإرادة الجادة، والبرامج العملية الماصة المنتجة.
إلا أن العاطلين عن العمل في كثيرٍ من الدول يجدون عوناً من حكوماتهم، ومساعداتٍ حقيقية من مؤسسات بلادهم، فلهم ميزانياتٌ خاصة، تصرف لهم منها رواتبٌ شهرية، ومساعداتٌ دورية، وأخرى طارئة للعلاج والدراسة، كما تخلق لهم الحكوماتُ وظائفَ عامةٍ وخاصةٍ، برواتب جيدةٍ ومغريةٍ أحياناً، أو تساعدهم في فتح مشاريعَ صغيرة أو متوسطة، تمكنهم من الانطلاق والعمل المنظم، فلا يشعرون بالضيم، ولا يشكون من الحاجة، ولا يعانون من حرمان، ولا يخجلون من زوجاتهم، ولا يكتئبون من طلبات أطفالهم، ولا يهربون من دائنيهم، ولا يخشون من الطوارئ والمفاجئات، فالحكومة كفيلة بأن تقيل عثراتهم، وأن تستر عيوبهم، وتغطي كل احتياجاتهم، وتلبي ما يستجد عندهم ولهم من مطالب.
أما قطاع غزة فالوضع فيه مختلفٌ ومغاير، فالبطالة فيه متوحشة وقاسية، والحاجة فيه ملحةٌ وكثيرة، ومستلزمات الأطفال وطلاب المدارس والجامعات مرهقة، وفرصُ العمل ضئيلة، والعاملون أقل، والحصار خانق، والعقاب شامل، وقدراتُ الحكومة محدودة، والمؤسساتُ الخاصة قليلة، وحركة رأس المال فيه قد تكون معدومة إلا في آخر الشهر وأيامه الأولى، حيث توزع على بعضهم رواتبٌ محدودة، فتنشط الأسواق وتتحرك عجلة البيع والشراء، ما يحسن من الأوضاع العامة شكلاً، ويخدر النفوس أملاً، ولكن السكرة سرعان ما تزول، ويعود المواطنون إلى مرارة الحسرة، وألم الفقر والحاجة، انتظاراً لنهاية شهرٍ جديدٍ وراتب آخرٍ هزيل، وحركةٍ محدودةٍ وتبادلٍ تجاريٍ ضعيف.
آلافُ العائلاتِ في قطاع غزة ميسورةٌ مستورةٌ متعففة، تخفي حاجتها، وتعض على جراحها، وتسكت على آلامها، لا تئن ولا تصرخ، ولا تضج ولا تفزع، ولا تثور ولا تغضب، فهي تدرك أنها ما زالت تعاني من الاحتلال، الذي حرمها من فرص العمل والاستثمار، ومنعها من الصناعة والزراعة ومزاولة مختلف المهن والحرف، فضلاً عن أنه خرب أرضهم، ودمر بنيانهم، وقتل رجالهم، وأصاب الآلاف منهم بعاهاتٍ مستديمةٍ، أقعدتهم ومنعتهم من العمل، وجعلت من كثيرٍ منهم عالةً إلى الأبد، ولكن هذا الكبرياء لا يستطيع أن يخفي حقيقة الحال، فعزة المواطنين التي صنعت النصر لا تكفي لأن تستر حجم المعاناة، ولا أن تطمس آثارها ومظاهرها، ولا أن تعوض عن الحاجات والضرورات الملحة.
قطاع غزة الصغير في مساحته يكتظ بقرابة مليوني مواطنٍ فلسطيني، ينتشرون على شريطه الضيق الذي يمتد بطولٍ لا يزيد كثيراً عن أربعين كيلومتراً، يعاني أغلبهم من ضيق ذات اليد، والفقر والبطالة وانعدام فرصة العمل، ولكنهم يتطلعون جميعاً لأن تكون لكلِ مواطنٍ منهم مهنةً أو حرفةً أو وظيفة، فهم يؤمنون بقدسية العمل، ويقدرون اليد العاملة، ويكرهون أن يكونوا بطالةً أو عالةً على أحد، ولعلهم يكرهون وظيفة البطالة التي استحدثت لهم، وجعلت آلاف الشباب يتنافسون عليها، رغم أنها وظائفٌ وضيعة، وأجورها قليلة ومتدنية جداً، إلا أن الحاجة تدفعهم للقبول بها، والسعي لنيلها والاستفادة منها.
لا يتحمل الاحتلال وحده مسؤولية الأوضاع في قطاع غزة، ومعاناة شبابها ورجالها، وانعدام وظائفهم وتدمير مصالحهم، وإن كان هو سببُ كلِ مصيبةٍ، وعلةُ كلِ مرضٍ، إلا أن القيادة الفلسطينية تتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية، فهي المكلفة بإدارة شؤون المواطنين ومتابعة احتياجاتهم، وعليها يقع عبء ومسؤولية خلق وظائف لآلاف الخريجين الشباب، وإيجاد فرص عملٍ لآلافٍ آخرين من الموظفين والعمال والحرفيين وأرباب الأسر، فأبناء قطاع غزة ليسوا بحاجةٍ إلى كسرةِ خبزٍ أو بعض مالٍ ينفقونه في يومٍ أو أكثر، كما أنهم لا يقبلون الصدقة والإحسان، وإنما هم في حاجةٍ إلى وظيفةٍ دائمةٍ وعملٍ مستديم، وإلى حرفةٍ أو مهنةٍ تدر عليهم ما يكفيهم ويغنيهم عن السؤال، ولديهم من القدرة والطاقة ما يكفيهم للقيام بأي مهمة، وللنجاح في أي عملٍ، والتميز في أي وظيفة، وقد سبق لمئات الآلاف من أبنائهم العمل في دول الخليج العربية والمملكة العربية السعودية، فأبدعوا فيها وتميزوا عن غيرهم، وكان لهم فضلٌ كبير في رفعة البلاد وتطويرها وتحديثها، ما يؤكد أن أبناء قطاع غزةٍ أكفاء ونشطاء ومهرة.
إنها استغاثةٌ من الأعماق، نابعة من كل بيتٍ فلسطينيٍ حرٍ كريم، إنها بلسان كل شابٍ قد أنهى دراسته الجامعية، ويطمح أن يلتحق بوظيفةٍ أو عملٍ يبني بها مستقبله، بل إنها استغاثةٌ من كل أمٍ فلسطينية قلقة على أولادها، وتخاف عليهم من غول الفقر وذل الحاجة، وإنها استغاثةٌ من كل زوجةٍ تغار على زوجها وتحرص على كرامته، وإنها دعوةٌ من كل شابةٍ عروسٍ تطمح أن يكون لها بيت يؤيها وزوجها، ويكون لها ولأولادها دفئاً، فيه أثاثٌ بسيطٌ يزينه، وألعابٌ قليلة يلهو بها أطفالها، إنها استغاثة إلى كل عربيٍ ومسلمٍ غيور، لأن يستثمر في غزة، ويفتح مشاريعاً على أرضها، تشغل أبناءها، وتستر بيوتها، وتعود عليهم بالنفع والفائدة، وتساهم في رباطهم وثباتهم على أرضهم، وإن أرض غزة طيبة، والاستثمار فيها مجدي، والعمل فيها مربح، والخير فيها عميم، والتجارة فيها ومع أهلها وأبنائها بركة.