نحو شراكة نموذجية في زمن الحرب والحاجة
موقع قناة الميادين-
محمد حسب الرسول:
بعد الأزمة الأوكرانية وارتفاع أسعار القمح عالمياً، أصبح واجباً على مصر والسودان البحث عن مصدر بديل توفرا من خلاله حاجتهما من القمح، وهي حاجة كبيرة تبلغ نحو 15 مليون طن سنوياً.
لكلِّ حرب تداعيات تحدّد عوامل كثيرة أبعادها وآثارها، والحرب الروسية الغربية في أوكرانيا ليست بدعاً مما سبقتها من حروب في التاريخ المعاصر أو القديم، فقد بدأ العالم يشعر بتداعيات هذه الحرب وآثارها في نواحٍ كثيرة وأبعاد متعددة.
في كلِّ حرب، ثمة كاسب يشري انتصاره بأبهظ الأثمان. وفي كل حرب، ثمة خاسر يدفع كلفة خسارته على مدى الأزمان، بيد أن حرباً كالتي تدور رحاها على أرض أوكرانيا وداخل حدودها، تتعدى بتداعياتها وآثارها المتحاربين إلى غيرهم؟
ولعلَّ أسرع تداعيات هذه الحرب وآثارها هي التي تجلَّت في معيشة الناس في أوروبا وأميركا وأفريقيا وسائر قارات المعمورة، إذ ارتفعت الأسعار باطراد، واضطربت الأسواق، وارتفع مستوى التضخم في دول كثيرة، وفُرِضت العقوبات والعقوبات المضادة، وتأثر النظام المالي الدولي، وبدأ محور دولي جديد بوضع أسس جديدة لإدارة الكون، يقوم على القضاء على تفرد الولايات المتحدة بالقرار الدولي في أبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية، لكونها تحكّمت في القرار السياسي والدبلوماسي عبر سياساتها، ومن خلال توظيفها المؤسسات الدولية والإقليمية، كما تحكّمت في الاقتصاد الدولي عبر توجهاتها، ومن خلال الدولار الذي فرضته عملة دولية تتم عبرها المعاملات التجارية في كلِّ أنحاء العالم، وعبر نظام إدارة التحويلات المالية بين الدول، وأيضاً بتوظيف المؤسسات المالية الدولية.
كما عملت خلال العقود الثلاثة الأخيرة على فرض العولمة كنظام ثقافي أحادي، ليسود على كلّ الثقافات والخصوصيات الحضارية في بلدان العالم المختلفة، في مسعى لوضع نهاية للهويات الوطنية والخصائص الحضارية للدول.
في ظلِّ هذه الحرب، برزت إلى السطح ملامح أزمة في سلعة القمح، وهي سلعة ضرورية ترتبط بالنظام الغذائي في الكثير من الدول، بعد التغيير الذي أحدثته أميركا في الأنماط الغذائية لعدد من دول العالم الثالث، ومن خلال خطة استراتيجية أرادت أن تجعل عبرها القمح الذي تفيض به مزارعها الغذاء الرئيس لهذه الدول، لتتحكّم عبره في توجهاتها وسياساتها، وتؤثر في قرارها الوطني، فتسلب سلطانها وسيادتها.
وقد أفلتت دول كثيرة أو كادت من مصيدة القمح الأميركي، حين نوَّعت مصادر توفير هذه السلعة التي أصبحت سلعة سياسية بجدارة. وكانت دولتا وادي النيل السودان ومصر من الدول التي أفلتت من سيطرة مصيدة القمح الأميركي، حين اتّجهتا إلى مصادر أخرى تُوفر من خلالها احتياجاتهما، وكانت روسيا وأوكرانيا مصدرين رئيسيين لواردات السودان ومصر من القمح.
وبعد اندلاع الحرب الروسية الغربية في أوكرانيا وزيادة أسعار القمح في الأسواق العالمية، وبعد القيود التي فُرِضت على التجارة مع روسيا، وبالتالي أوكرانيا، التي يتوقّع خروجها بسبب الحرب من نادي الدول المصدرة للقمح في العام القادم… بعد كلّ ذلك، أصبح واجباً على دولتي وادي النيل البحث عن مصدر بديل توفّرا من خلاله حاجتهما من القمح، وهي حاجة كبيرة تبلغ نحو 15 مليون طن سنوياً.
وتشير البيانات إلى أنَّ روسيا وأوكرانيا تنتجان 32% من القمح المنتج عالمياً، وأنَّ مصر هي أكبر مستورد للقمح في العالم، إذ بلغ استيرادها في العام 2021 نحو 13 مليون طنّ تقريباً، كانت روسيا مصدر نحو 90% منها، في حين استوردت ما تبقّى من احتياجها من أوكرانيا.
أما السودان، فهو يستورد نحو مليون ونصف مليون طن من هاتين الدولتين أيضاً، ومن دول أخرى. وقد بلغت قيمة القمح الذي تستورده مصر نحو 2.9 مليار دولار في العام المنصرم. تدرك مصر حجم التحدي الذي يواجهها لتوفير القمح لمواطنيها، والذي برز كنتيجة وأثر للحرب في أوكرانيا.
وسبق أن اعتمدت عبر الهيئة العامة للسلع التموينية 15 دولة لاستيراد القمح، تشمل أميركا، وكندا، فرنسا، وأستراليا، وألمانيا، والأرجنتين، وكازاخستان، وروسيا، وأوكرانيا، ودولاً أخرى من أوروبا الشرقية، وستسعى إلى توفير حاجتها من القمح من بعض هذه الدول.
ولكنَّ زيادة أسعار القمح عالمياً بعد حرب أوكرانيا، وزيادة أسعار النفط، ستنعكس على القيمة الفعلية للقمح، الأمر الذي ينعكس بصورة مباشرة على أسعار الخبز في كلِّ الدول. وتترتب على هذه الزيادة تبعات اقتصادية وسياسية كبيرة.
ويستدعي تغطية العجز الَّذي تفرضه حرب أوكرانيا تغييراً في نمط التفكير، وخصوصاً عند دولتي وادي النيل، إذ إنهما تستطيعان تقديم مقاربة جديدة تسد النقص في سلعة القمح، بعيداً عن الخيارات التقليدية المحفوظة في أضابير دواوين الدولتين.
إنَّ الطّريق لمعالجة النقص في سلعة القمح في السودان ومصر يكمن في إقامة شراكة استراتيجية بين البلدين، يتحقَّق عبرها توطين زراعة القمح في السودان الذي يعد موطنه التاريخي، وتوظيف المشروعات الزراعية الخاصة والعامة المنتشرة في مناطق تنتج القمح، من خلال ما يُعرف بالزراعة التعاقدية التي يوفر عبرها أصحاب المشاريع الزراعية الأرض والمياه، وتوفر الدولة المصرية من القطاعين العام والخاص مدخلات الإنتاج والعمالة الماهرة والآليات الزراعية، ويتم اقتسام الإنتاج وفق النسب التي تتوافق عليها الأطراف.
عبر هذه الشراكة، يستطيع البلدان أن يزرعا في موسم زراعة القمح في شهر نوفمبر/تشرين الثاني القادم نحو 3 ملايين فدان، يمكن أن تنتج نحو 6 ملايين طن، تغطي احتياج السودان، وثلث احتياج مصر التي تعمل حالياً لزيادة إنتاجها المحلي ليغطّي ثلث حاجتها.
وإذا تحقّق لها إنتاج ثلث من أراضيها وثلث من زراعتها في السودان، ستقلّص عجزها إلى الثلث فقط، وهو العجز الذي يمكن أن تغطيه من السوق العالمي. حينها، ستتمكَّن من توفير حاجتها من هذه السلعة بقيمة معقولة، إذا وضعنا في الاعتبار أن كلفة الإنتاج في مصر والسودان أقل بكثير من قيمة السعر العالمي.
ولتغطية كلّ حاجات البلدين في العام التالي، على البلدين أن يشرعا فوراً في التخطيط والتحضير لزيادة الرقعة الزراعية في السّودان بالقدر الّذي يحقّق اكتفاءً ذاتياً للدولتين بدءاً من العام 2024.
إنَّ مثل هذه الشراكة يقدم حلولاً عملية لمشكلات البلدين، ويقدّم نموذجاً يحتذى بين الدول العربية التي لم يُسجل تاريخ العلاقات بينها نجاحاً يتناسب مع إمكانياتها في إقامة مشروعات مشتركة تخاطب عبرها قضاياها، وتعزّز من خلالها عرى العلاقات التي تربط بينها، وتخطو عبرها في مسارات الشراكة الاستراتيجية التي تعد خطوة مهمة نحو الوحدة المنشودة.