موسكو.. نحو إلغاء مفاعيل «التموضع» التركي ما بعد «فيلينوس»
صحيفة الوطن السورية-
عبد المنعم علي عيسى:
بعد تأجيل دام لأكثر من شهر، كان قد شهد في غضون أيامه الثلاثين أكثر من طلب، وإعادة للطلب، حط الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في منتجع «سوتشي» على البحر الأسود يوم الـ 4 من أيلول للقاء نظيره الروسي برفقة وفد ضم كلاً من وزراء الدفاع والخارجية والثقافة والمالية، فيما استبقت التقارير الصادرة عن أنقرة تلك الزيارة بتصدير إشارات مفادها أن المحادثات كانت تهدف لإحياء «اتفاق الحبوب» الموقع شهر تموز 2022 الذي قضى بتصدير الحبوب الأوكرانية بعد توقفه شهر تموز 2023، في الوقت الذي كانت تقارير غربية تشير إلى أن استمرار توقف العمل بذلك الاتفاق «يهدد بأزمة غذاء عالمية» في مؤشر يوحي بأن الغرب كان يريد تزويد الرئيس التركي بورقة ضغط من شأنها أن تفعل الكثير فيما هو ذاهب لأجله.
لا شك في أن «انزياحات» أنقرة نحو الغرب التي شهدتها قمة «ناتو» المنعقدة في العاصمة الليتوانية فيلينوس في الـ 11 من تموز الماضي كانت قد أرخت بظلالها على لقاء سوتشي، على الرغم من «الملطفات» التي راح يستخدمها الرئيس التركي من نوع قوله، قبيل يوم من توجهه للقاء نظيره الروسي، بأنه يحمل «رسالة مهمة للغاية» ستتلقاها دول العالم وخاصة الدول الإفريقية، لكن الكثير من المعطيات المتراكمة كانت تشير إلى أن اللقاء لن يحقق الكثير هذا إن لم نقل إن تلك المعطيات، كانت تشير إلى رجحان كفة الفشل على نظيره.
في تلك المعطيات من الراجح أن الرئيس التركي كان قد شد الرحال إلى سوتشي وهو على يقين بأن نظيره الروسي «جاهز» لتقديم التنازلات على مختلف الجبهات أو خطوط التماس العديدة، واليقين إياه كان قد تولد عنده من رؤية تقوم على رزمة من المؤشرات أبرزها أن التموضع التركي الجديد، ما بعد فيلينوس، كان قد أدى لكسر التوازن ما بين روسيا والغرب والذي عملت أنقرة للحفاظ عليه ما بين 22 شباط 2022 وبين 11 تموز 2023، ومنها أيضاً أن «البلبلة» التي مرت بها مجموعة «فاغنر» شهر تموز الماضي، سوف تدفع بموسكو نحو تخفيض سقوف أدوارها، وما يمكن لها أن تحققه، على مختلف الجبهات التي كانت تمثل مركزاً لنشاط تلك المجموعة، لكن حسابات «الحقل» لم تتطابق مع حسابات «البيدر» كما يُقال، والرئيس التركي لم يعد لبلاده «متأبطاً» موافقة موسكو القاضية بإعادة «إحياء الاتفاق» الذي حاول تصويره على أنه يمثل الهدف الأكبر من ذلك اللقاء، على الرغم من أن الأمر لم يكن كذلك، فأردوغان الذي حاول الإيحاء بما سبق كانت مراميه تتعدى المعلن، كانت المرامي الأهم تندرج في إطار تحديد واقع العلاقة التركية- الروسية ومستقبلها مما يمكن له فقط تحديد آفاق الدور التركي المستقبلي في ضوء «التموضع» التركي الجديد في فيلينوس، والشاهد هو أن أردوغان كان قد اصطدم بـ«حجر» وازن إبان محاولته تقديم الدور التركي كوسيط لحل الصراع الأوكراني الذي كانت محاولة «تقمصه»، في ظل المعطيات الراهنة، أشبه بـ«قفزة في الفضاء»، إذ لطالما كان من الصعب على بوتين تقديم «صك تقدير» لنظيره التركي على دور لم يعد يراه متوازناً، ما بعد فيلينوس، في صراع هو الأهم مما شهده القرن الواحد والعشرون، والذي من المقدر للمآلات التي سيصير إليها أن تكون راسمة للعديد من التوازنات ومعها ملامح صعود قوى وهبوط أخرى.
كان التركيــز على حجــم التبــادل التجــاري الـذي عمــد أردوغــان إلى تقديم أرقام فيه، مع الإشارة إلى طموحــــات بأن تحقق تلك الأرقام لمناسيب أعلــى، تعبيراً عن «الانســداد» الحاصـل على طرقات الملفات الكبرى، فعلى الرغـــم من أن العلاقات الاقتصاديــة تعطــي في غالــب الأحيان قاعــدة أســاسية تمنــع من اهتــزازات كبرى في العلاقات بين الدول التي تشـهد تبادلاتها التجــارية مستويات مرتفعة، لكن ذلــك يبقى أمراً ذا أهمية من الدرجة الثانيــة، أو الثالثة، في حالة الصراعات الكبـرى، الأمر الـذي ينطبــق راهنــاً على العلاقة الروســـية- التركيــة التــي يثقــل عليهــا الصراع الأوكراني.
هذا، جنباً إلى جنب النتائج التي تكشفت عن اللقاء والتي كان منها حدوث تباعد أكيد فيما بين طرفيه تجاه المسألتين السورية والليبية، يعطي انطباعاً بفقدان «جزئي» للانسجام ما بين الرئيسين، الأمر الذي جهد أردوغان لمنع خروجه إلى السطح، وما قاله بوتين حول تينك المسألتين كان كلاماً عاماً ولا يشير لحدوث اختراقات من النوع الذي يمكن البناء عليه، والشاهد هو أن الأخير كان قد اكتفى خلال عرضه للمداولات التي طالت الأزمة السورية بالقول: إنه «تبادل مع الرئيس التركي وجهات نظر» ومن خلالها تم التأكيد على «إعادة تشييد البنية التحتية».
لم ينجح أردوغان في تثبيت تموضعه الجديد، ولا هو نجح في تسويقه روسياً، والراجح، والحال هكذا، أن السياسة التركية سوف تشهد تقلبات وازنة في المرحلة المقبلة انطلاقاً من حالة «القلقلة» التي وجدت نفسها فيها بعد فيلينوس، ثم انطلاقاً من فقدان الانسجام الحاصل في سوتشي 4 أيلول.