من غزة إلى ما بعد بعد..
صحيفة السفير اللبنانية ـ
نصري الصايغ:
هذا هو المشهد في فلسطين: ذراع غزة وصلت إلى تل أبيب وأطراف القدس، وأصابت مدناً وبلدات كبرى في جنوب فلسطين المحتلة. حركات المقاومة الإسلامية تفرض على «إسرائيل» استدعاء عشرات آلاف جنود الاحتياط. الملاجئ مكتظة بالهاربين من القصف العشوائي أو المركّز. الإدارة السياسية الصهيونية تبحث عن نهاية سريعة. حكومة إسماعيل هنية ومن معها تسعى إلى تغيير المشهد: فتح معبر رفح، هدنة مشروطة بالتوازن، محاولة إسقاط الحصار، صمود حتى تنهك القوات الإسرائيلية.
المشهد العربي مربك: حكومة «الإخوان المسلمين» في مصر، تتصرف كصليب أحمر، كدولة أجنبية. لغتها السياسية من خشب. إنما، قلب مصر فلسطيني جداً. والغلبة للقلب في ما سيأتي من أيام. الجامعة العربية تهرب إلى مجلس الأمن، إلى المجتمع الدولي، إلى الولايات المتحدة الأميركية. ليس في جدول أعمالها واهتماماتها ما هو من اختصاصها فقط وما هو من ممتلكاتها، كأن تسحب سفراءها، كأن تجمد اتفاقيات، كأن تلوّح بخطاب متشدد، كأن تدعم غزة، مالا ومالا ومالا (لا يتجرأون على تقديم العون العسكري. أسلحتهم الحديثة والمتطورة عاقر، لا تنجب طلقات). المشهد العربي فولكلوري جداً: لقاء وزاري، زيارات انتهازية، شخصيات لكل المواسم، والحصاد: «أهل غزة أدرى بحالها». أما المشهد السري، فمعلن من أزمنة عربية مديدة، فنصه يدور في مجمله على مقولة التعويل على الولايات المتحدة الأميركية، حامية إسرائيل بالتمام والكمال.
المشهد الدولي لا جديد فيه. الغرب، أوروبياً وأميركياً، مع إسرائيل، فهي صاحبة حق دائم تدافع عنه. وفلسطين صاحبة حقٍّ رخو، حقٍّ مائع، يمكن التخلي عنه بلا تبعات، فأعراب فلسطين من العرب «الساكنة» و«السائبة»، ليسوا أهل عقاب أو عتاب. بل هم مع الغرب، حذو النعل بالنعل وحذو الذيل بالذيل… الغرب، إذا تغيّر، ففي التفاصيل. هو يخاف إسرائيل ولا يحبها. أعراب فلسطين، لا يخيفون أحداً البتة، ويخافون من تقطيبة حاجب أميركي مسؤول، من الدرجة الثانية.
المشهد الإسلامي محيِّر. كان متوقعاً أن يستنفر العدوان حمية إسلامية سياسية، على الأقل. كان متوقعاً أن تكتظ الشوارع في العواصم والمدن، بجماهير «الربيع الإسلامي»، لكن ذلك لم يحدث. كان مفترضا أن يقف الرهط الإسلامي إلى جانب «حماس» الإخوانية، و«الجهاد» الإسلامية، على الأقل، لكن ذلك لم يحدث. يبدو أن السلطة أهم من فلسطين، والسلطة أهم من الإسلام، والسلطة أهم من القيم… ويبدو أن معركة «الشريعة الإسلامية» لها الأولوية على سواها، وان محاربة الخمرة، جهاد ليس فوقه جهاد، وتكديس المرأة داخل ثيابها وحجبها، جهاد يثاب المرء عليه. أما فلسطين، فلها «الأبابيل»، من عند ربك…
المشهد الخليجي منصرف إلى ترتيب المعارضة السورية، وهذه حسنة ناقصة جداً. المعارضة السورية لا شك بفلسطينيتها، على العموم، إنما أن تدفع المعارضة إلى المعركة وتدعم بالسلاح لإسقاط نظام فتّاك، فهذا إسهام في تدمير سوريا، اللهم إلا إذا كانت الشهور العشرون الأخيرة غير مقنعة بدروسها: لا حسم عسكرياً في سوريا. وحدها أبواب الجحيم مفتوحة إلى المزيد من نيران الحرب. النظام السوري انتهى سياسيا، ويصعب إنهاؤه عسكرياً. هو ذاهب إلى شمشونية لا تبقي ولا تذر. «عليَّ وعلى أعدائي»، ولو بلغ الدم قامة سوريا برمتها… المشهد الخليجي مخضّب بدماء السوريين، ملوك وأمراء مستبدون، تبعيون، متخلفون، لا دين لهم غير النفط، ولا عقيدة لهم غير المال، ولا وظيفة لهم غير طاعة «أولي الأمر». يأتيهم الأمر من بعيد، إلى سوريا در، أو إلى إيران در، فينفذون ويدفعون ويموّلون وينجون بفعلتهم عبر رشوة شعوبهم بمزيد من مسروقاتهم الفائقة… المشهد الخليجي. لا فلسطين فيه. ان «الربيع العربي» تغيّب عربياً وإسلامياً عن فلسطين، عمداً، وتحديداً، بعدما تم القبض عليه، «إسلامياً» وخليجياً. والاثنان واحد في هذا الشأن.
المشهد من الجانب الإيراني على حاله. مع غزة وشعبها وسلاحها. معها كما تشاء وكما تصوّب. لا يبدو أن المعركة في غزة إيرانية الصنع، وإن كان السلاح إيراني العناية. لا ينافس فلسطين في إيران، أي بلد في الكرة الأرضية. إيران فلسطينية، وان كانت أكثريتها على المذهب السني، وإن كانت «إخوانية» تفضل ولاية السعودية على ولاية إيران الفلسطينية.
إسلامية إيران، فلسطينية جداً، وبشجاعة نادرة وبكلفة عالية. المشهد الإيراني لم يتبدّل إزاء فلسطين، ولا إزاء إسرائيل، ولا إزاء الولايات المتحدة الأميركية. قسم من إنتاجها العسكري، للدفاع عن إيران، وقسم آخر، للدفاع عن فلسطين. وحيثما تصل أسلحتها، تقوى المنعة. فغزة التي دمرت وحوصرت وأنهكت ولُعنت، ظلت «قبلة إيران» تذخيراً وتسليحاً ودعما.
المشهد اللبناني لا يعوّل عليه. هو مشغول بتوفير المزيد من الأزمات والصراعات الداخلية. وحدها، المقاومة الإسلامية تراقب باهتمام، تذخّر ليوم قادم، يفرح قلب القدس وقلب الله أيضا. مشهد المقاومة، هو في طيفها الجنوبي. «إسرائيل» تحس بوطأته وتعرف مداه وتقدّر الأحوال التي يمكن ان تندلق عليها، إذا…
يبقى المشهد من داخل «إسرائيل»، أكثرية تريد استمرار المعارك للانتهاء من غزة، قادة «إسرائيل» الأوائل، كانوا يحلمون بيوم تغرق فيه غزة في البحر. يأتي البحر ويلتهمها. أكثرية الرأي العام الاسرائيلي ترغب بأن تلتزم هذه الحكومة بحلم الأجداد، والانتهاء من غزة. إنما، في قعر الذهن الإسرائيلي سؤال: إذا كانت صواريخ غزة هذه، قد بلغت ضعاف المدن وقلب البلدات، فكيف تكون الحال، مع صواريخ إيران وصواريخ «حزب الله».
سؤال يستبعد الجواب عليه. المعركة الراهنة، قد تعيد بعض العقل لإسرائيل، لتبدأ بالتفكير، ولو متأخرة، بمرحلة ما بعد الصهيونية، لأن الصهيونية أوصلت اليهود إلى مأزقهم المصيري في فلسطين.
سؤال يستبعد الجواب عليه علنا.. المعركة الراهنة، إذا قرأها الاسرائيلي كمقدمة لحرب قادمة، فقد يعود إليه بعض الوعي. أمام اسرائيل امتحان الفرصة الأخيرة، امتحان التفكير الجريء، بمرحلة ما بعد الصهيونية، التي أدخلت اليهود في المأزق المصيري. الصهيونية، لم تكن ولن تكون مشروع الخلاص لليهودي. بعد كل الجهود الصهيونية، هنا وهناك وهنالك وفي كل مكان في العالم، وبعد كل الحروب والمعارك والمَقَاتِل، فلسطين لم تمت. هذه قلة منها في غزة، تتصدى وتنظر إلى ما بعد غزة وما بعد حيفا وما بعد بعد… لتلتقي مع السيد حسن نصر الله، بما بعد وما بعد بعد… وصولا إلى فلسطين… كل فلسطين.
ولا أحلام في ما جاء أعلاه… وإذا كانت الآن مجرد أحلام، فهي أفضل بآلاف المرات، من أضغاث الاستسلام.