من جدة إلى جنيف.. «حزب الله» ليس إرهابياً
صحيفة السفير اللبنانية ـ
كتب المحرر السياسي:
لبنان بلا رئيس للجمهورية لليوم التاسع والثلاثين بعد المئة على التوالي.
جلسة نيابية لانتخاب رئيس تحمل الرقم 13، لا تختلف عن سابقاتها إلا برقمها.
أما مجلس الوزراء، فيطغى الهم الأمني على جدول أعماله، ولا بأس أن تُستر العورات الحكومية، وخصوصاً ملف الكهرباء الذي يصح القول فيه إنه أكبر فضيحة سياسية ـ مالية منذ الاستقلال حتى الآن.
وبرغم بعض الاهتزازات الأمنية الداخلية، من تزايد الاعتداءات على الجيش اللبناني وآخرها في الريحانية في عكار، إلى أحداث عين الحلوة، فإن حدود لبنان الشمالية والشرقية والجنوبية والبحرية، بما تلامسه من قضايا كبرى قد تصل إلى حد ارتسام خرائط إقليمية وتوازنات دولية جديدة، تحتل أولوية عند الخارج، إلى حد تناسي الشغور الرئاسي المتمادي و«تطنيش» التمديد النيابي الآتي.
اكتفى الفرنسيون بسؤال رئاسي سريع للرئيس سعد الحريري. عنوان استوجب دقائق قليلة جداً في لقاء الـ45 دقيقة. باريس بدت مهتمة أكثر بصفقة السلاح السعودية للجيش اللبناني من مستودعاتها ومعاملها بقيمة 3 مليارات دولار، ولو تسنى لها أن تعود بالزمن إلى ما قبل 25 أيار الماضي، لكانت فرضت التمديد للرئيس ميشال سليمان، طالما أن هناك من يردد بثقة أن «الرشوة» السعودية للفرنسيين طارت يوم طار التمديد الميمون!
وجاء تصريح الحريري، غداة عملية مزارع شبعا، ليعيد الى الواجهة خطاب المغامرة والتخوين والتباكي على قرار الحرب والسلم، وهو الخطاب نفسه الذي كان اعتمد في الأيام الأولى لحرب تموز 2006، بدفع سعودي ودولي، الأمر الذي يطرح السؤال عما اذا كان هذا الموقف منسقاً مع السعوديين تحديداً، لكي يبنى على الجواب استنتاجات أولية حول المسار المرتبك للحوار السعودي ـ الايراني.
ومن يراجع مناخات زيارة الديبلوماسي المحترف حسين امير عبد اللهيان الى جدة ولقاء الوزيرين سعود الفيصل ومحمد جواد ظريف في نيويورك، لا بد أن يستغرب موقف الحريري، خصوصاً أن السعوديين فاجأوا الإيرانيين في الاجتماعين بإيجابية لافتة للانتباه في خطابهم، الى حد التغاضي عن كل التباسات المرحلة السابقة، لا بل شكل توجيه الفيصل دعوة رسمية لنظيره الإيراني لزيارة الرياض مؤشراً على نية سعودية بفتح حوار جاد وبنّاء يفترض أن يؤسس لمسار مستقبلي سواء على صعيد العلاقات الثنائية أو الملفات الاقليمية المشتركة.
كيف يمكن تفسير هذا أو ذاك؟
ينطبق هذا السؤال على مجريات الاجتماع التأسيسي لـ«التحالف الدولي» في جدة قبل شهر تماماً. يومها، أصرّ السعوديون، وبالتواطؤ مع جهات خليجية، على حشر اسم «حزب الله» في خانة «داعش» و«النصرة». رفض الأميركيون (جون كيري) هذا الطرح. تكرر الأمر في الخامس والعشرين من ايلول الماضي في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، الذي انعقد في مدينة جنيف السويسرية. طرح أمام الدول المشاركة مشروع قرار بإدانة انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا. رفض السعوديون والقطريون والأتراك أن تقتصر الإدانة على «داعش». ناوروا وصالوا وجالوا طمعاً بإضافة «حزب الله» بالاسم، لكن وبفعل المجهود الكبير للبعثة اللبنانية بالتنسيق مع دول أوروبية، وبالتواطؤ مع بعثات لعدد من الدول الكبرى، تم إســقاط اسم «حزب الله» نهائياً!
بعد ايام قليلة، ينبري المندوب السعودي في الأمم المتحدة لتعميم شكوى باسم «الائتلاف السوري» المعارض تندد بممارسات الجيش اللبناني ضد النازحين السوريين في مخيمات عرسال. سارع الأميركيون الى الاحتجاج. طلبوا من مندوبهم إحالة الشكوى «الى الأرشيف». تعمّد جون كيري خلال اجتماعه برئيس حكومة لبنان تمام سلام أن ينتقد خطوة «الائتلاف»، مؤكداً أنهم ليسوا «ذوي صفة» (الدول تقدّم شكاوى)، وفي الوقت نفسه، أشاد بأداء المؤسسة العسكرية اللبنانية. جرت لاحقاً مراجعات عاجلة بين جدة ونيويورك، فتقرر أن يتم التعويض عن «الخطأ السعودي» ببيان يصدره رئيس تيار «المستقبل».. لكأنه كان يرد على السعودية و«الائتلاف» معاً!
وكان لافتاً للانتباه أن تلك الشكوى استندت الى روحية خطاب «14 آذار» بالمطالبة بنشر مراقبين دوليين من قوات «اليونيفيل» مهمتها حماية تجمعات اللاجئين السوريين في المناطق الحدودية!
قد تكون الادارة السعودية مربكة. يسري هذا الأمر على الكثير من الدول في المنطقة لا بل في العالم. تقتضي الواقعية الاعتراف بأن لا أحد يملك استراتيجية واضحة في شأن كيفية مواجهة «داعش»، وفي الوقت نفسه، إيجاد توازن مع ملفات مفتوحة على مصراعيها في بلدان عدة أبرزها العراق وسوريا واليمن. أطراف اقليمية (تندرج في خانتها أطراف داخلية لبنانية) تعتبر «داعش» و«النصرة» وسيلة ضرورية لتحسين شروط التفاوض مع ايران وبشار الأسد. الأدلة كثيرة في هذه الدول الثلاث وعلامات الإرباك صارت جلية في الشيء وعكسه.
خرائط وحدود جديدة
المعضلة الكبرى هي الافتقاد الى «المايسترو» و«الاستراتيجية». المنطقة مشتعلة وتموج من مشرقها الى مغربها، وترتسم على أرضها خرائط وحدود جديدة، كما يقول مسؤول عربي كبير عائد من زيارة الى واشنطن التقى خلالها عدداً من صنّاع القرار في الادارة الأميركية. الحرب في المنطقة وعليها «هي حرب عالمية ستحدد خريطة النظام الدولي والاقليمي الجديد خلال مئة سنة»، يردد المسؤول العربي نفسه.
ماذا عن لبنان وموقعه في هذا المشهد الإقليمي؟
يتابع المسؤول العربي الكبير نفسه إن القول باستمرار المظلة الدولية والاقليمية الحامية للاستقرار اللبناني «لا ينفي وجود مخاوف أميركية وأوروبية متصاعدة من وجود خطر داهم على لبنان (والأردن بالمستوى نفسه)»، ويضيف أنه «شاء هذا الطرف الاقليمي أو الدولي أم أبى، ثمة تحالف موضوعي قائم على الأرض بين ايران و«حزب الله» والنظام السوري (ومعهما روسيا) وبين دول «التحالف الغربي»، في مواجهة محاولات تمدد تنظيم «داعش»، وهذا الأمر قد يؤدي الى تسريع الرغبة الأوروبية بـ«تشريع» الحرب دولياً تمهيداً لانخراط عواصم جديدة (خصوصا روسيا) في الحرب»!
يشير المسؤول الى أن الإجراءات والتدابير التي اتخذها الجيش اللبناني، وكذلك تلك التي يقوم بها «حزب الله» على طول الحدود الشرقية «بيّنت بما لا يقبل الجدل فعاليتها في الحد من انتقال المعركة الى أرض لبنان، فهذا البلد كان تاريخياً يشكل متنفساً لكل صراعات المنطقة، أما اليوم، فيشكل نقطة توازن، ولا مصلحة لأي طرف في القيام بدعسة ناقصة تؤدي الى الإخلال بموازين القوى الداخلية، فضلاً عن وجود تهيب كبير لدى القيادات السنية والشيعية، وخوف أكبر لدى المسيحيين والدروز، من خطورة الانزلاق الى أي عمل يهدد الاستقرار ويؤدي الى اشعال الفتنة».
ويقود هذا الكلام الى الاستنتاج بأن لبنان، وبرغم انقساماته الطائفية والمذهبية والسياسية المتصاعدة، وبرغم النيران التي تزنّر حدوده مع سوريا، وبرغم الخطر الاسرائيلي التاريخي عند حدوده الجنوبية، سيبقى واقفاً على قدميه، «ولكن المؤسف هو أن ثمة أطرافاً داخلية لبنانية ما زالت تعمل وفق «أجندة» قديمة تحتاج الى تحديث، وهذه الأطراف لا تدرك أن الزمن سبقها وأن ما قبل «داعش» ليس كما بعده»، والكلام هنا للمسؤول العربي نفسه.
لذلك، يردد المسؤولون في الادارة الأميركية أمام ضيوفهم العرب أنه من واجب اللبنانيين تقديم الأهم على المهم، وهذا الأمر يسري بالدرجة الأولى على القيادات المارونية، فهذا الزمن ليس زمن رئاسة قوية أو تنازع صلاحيات وسلطات. إنه زمن خطر داهم وجودي يطال المصير اللبناني برمته، ولذلك من واجب هذه القيادات وغيرها أن تبادر «وبطريقة ملحة جداً الى ضرورة انتخاب رئيس لبناني جديد لإعادة تفعيل المؤسسات الدستورية، وإلا ستبقى نظرة المجتمع الدولي كله ناقصة ومبتورة، ولا يجوز أن يسكر أي مسؤول لبناني بكلام معسول يسمعه هنا أو هناك.. أو باجتماع مجموعة دولية لأجله هنا في واشنطن أو هناك في نيويورك أو برلين أو باريس».