معركة بين واشنطن وموسكو في مجلس الأمن
صحيفة السفير اللبنانية ـ
ربى الحسيني:
لم يكن يتوقع وزير الخارجية الاميركي هنري كيسنجر، والذي تحول إلى أحد منظّري العلاقات الدولية، أن رحلة مختصرة إلى روسيا ستكون كفيلة بالتوصل إلى اتفاق حول قرار أممي لوقف إطلاق النار. ولكن يبدو أن الإسرائيليين لم يكونوا مستعدين لذلك، فالبرغم من أنه أبلغهم وبشكل مباشر في زيارة إلى تل أبيب بعد موسكو بالقرار، إلا أنهم لم ينتظروا 24 ساعة ليخترقوه. ومن هنا، دخلت الدوائر الديبلوماسية مجدداً في مناوشات، جعلت من وزارة الخارجية الأميركية والأمم المتحدة أرضاً لها. وهذا ما تنقله وثائق الخارجية الأميركية التي بدأت «السفير» بنشرها لتعكس رواية كيسنجر عن «حرب تشرين».
السفير السوفياتي لدى الأمم المتحدة ياكوف ماليك، كان أكثر من يثير جنون كيسنجر. فبالرغم من محادثات الأخير مع سفير موسكو في واشنطن أناتولي دوبرينن، والقائم بالأعمال الروسي يولي فورونتسوف، إلا أن ماليك كان الأكثر تزمتاً. وكان كيسنجر يتلقى الشكاوى دائماً من سفير بلاده لدى الأمم المتحدة جون سكالي، فالأخير لم يكن قادراً على مواجهة نظيره الروسي. وقد وصل الأمر بكيسنجر في إحدى المرات أن يقول لسكالي «قل لماليك أن يحفظ مياهه، وإلا أرسلته إلى سيبيريا. أعرف (الأمين العام للحزب الشيوعي ليونيد) بريجنيف أفضل منه. إسأله إذا كان بريجنيف قد قبّله في فمه من قبل مثل ما حصل معي».
وقف إطلاق النار
في الـ22 من تشرين الأول صدر القرار 338 عن مجلس الأمن الدولي، وكان ينص على وقف الأطراف لإطلاق النار وجميع الأعمال الحربية في مهلة لا تقل عن 12 ساعة بعد تبني القرار وفي مواقعهم الحالية، بالإضافة إلى تطبيق القرار 242 الصادر (1967)، وبدء المحادثات تحت الرعاية المناسبة من أجل التوصل إلى سلام في الشرق الأوسط.
ولكن في صباح الـ23 من تشرين الأول، خرق الإسرائيلون وقف إطلاق النار. ساعات تمر، وتصل رسالة من بريجنيف إلى واشنطن، ورد فيها الآتي أن «الرئيس المصري أنور السادات أبلغنا أنه في صباح الـ23 من تشرين الأول انتهكت القوات الإسرائيلية قرار مجلس الأمن عبر تجدد إطلاق النار في الضفة الغربية لقناة السويس، وهي تتجه جنوباً. ونؤكد أنه لدى موسكو معلوماتها الموثوقة والتي تثبت هذه الحقيقة، حيث يبدو أن الإسرائيليين قرروا التوسع في الضفة الغربية للقناة. وبالتالي، فإن إسرائيل تتحدى مجدداً قرار مجلس الأمن. وهذا مرفوض تماماً. ثانياً، يقترح الرئيس السادات أن يتفق الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة على إجراءات ملموسة تضمن التفرقة بين القوات المصرية والإسرائيلية بمساعدة مراقبي الأمم المتحدة. ثالثاً، يقترح السادات اللجوء مباشرة إلى مراقبي الأمم المتحدة، وأولاً العاملين الأممين الذين كانوا سابقاً في منطقة القناة، وتم نقلهم إلى القاهرة. وحول هذه النقطة الأخيرة، يعتقد بريجنيف أنه سيكون من الحكمة اللجوء إلى هؤلاء كونهم ليسوا بحاجة سوى إلى أوامر حتى يتوجهوا إلى منطقة النزاع».
وبناء على ما ورد، تقدم الاتحاد السوفياتي باقتراح لمشروع قرار ينص على الآتي «يؤكد مجلس الأمن، وبناء على القرار 338، أولاً على وقف فوري لإطلاق النار وكل العمليات العسكرية، ويطالب قوات الطرفين بالانسحاب إلى المناطق التي وصلوا إليها حين تم اتخاذ قرار وقف إطلاق النار. وثانياً، الاقتراح على الأمين العام للأمم المتحدة اتخاذ خطوات لإرسال مراقبين أمميين لمراقبة وقف إطلاق النار عبر اللجوء في المرحلة الأولى إلى العاملين الأممين في القاهرة».
ومن هنا بدأ يوم طويل من النقاش والأخذ والرد حول تفاصيل القرار، وإن كان يجب أن يتضمن «انسحاب القوات إلى المواقع التي وصلت إليها حين اتخذ قرار وقف إطلاق النار»، أو «العودة إلى المواقع التي وصلت إليها حين دخل القرار حيز التنفيذ».
وفي ظل ذلك كله، عمد الإسرائيليون، الذي احتلوا مدينة السويس، إلى إقناع كيسنجر بأن المصريين كانوا السبّاقين في انتهاك القرار.
على كل حال، بدا أن الإسرائيليين رفضوا الصيغتين. وقد قال سفيرهم في أحدى الوثائق «لن نتحرك مهما كان القرار… نرجوكم ألا تضعونا في موقف يكافأ عليه المصريون».
ولذلك لم يكن من كيسنجر سوى اللجوء إلى حل الامتناع عن التصويت، أي أنه إذا أصر الروس على الصيغة الأولى فإنهم سيواجهون الفيتو، وإن عدّلوه بحسب طلب الأميركيين، أي عودة القوات إلى المناطق التي وصلت إليها حين دخل القرار حيز التنفيذ، فإنهم سيمتنعون عن التصويت. وذلك، ببساطة لحفظ ماء الوجه أمام حلفائهم.
ولكن المشكلة هي أن هذا الأمر كان سيوقعهم في مشكلة مع الروس. وفي محادثة مع فورونتسوف يقول كيسنجر «أشكر الله أن الأمين العام (بريجنيف) خسر صوته (بسبب الزكام)، فالآن لا يستطيع أن يصرخ في وجهي».
ولكن بعد طول محادثات، ولأنهم في موقف وصف بـ«الحساس» ولتفادي الدخول في معركة مع السوفيات، قرر الأميركيون تقديم قرار مشترك مع السوفيات يتضمن الصيغة الثانية. وبالتالي، من الممكن القول إن الطرفين تنازلا إلى حد ما للتوصل إلى حل يرضيهما.
وفي الـ23 من تشرين الأول، صدر القرار 339، وينص على الوقف الفوري لإطلاق النار والأعمال العدائية، وعودة القوات المعنية إلى المواقع التي وصلت إليها حين دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، فضلاً عن اتخاذ الأمين العام الإجراءات اللازمة لنشر مراقبين دوليين، وفي مقدمتهم الموجودين أصلاً في الشرق الأوسط، وقبلهم الموجودين في القاهرة.