معذرة من حسين.. ورفقا بفاطمة
محمد العاملي –
موقع سلاب نيوز:
لحسين الحق في الرد على فاطمة، حق يكلفه العرف وتفرضه الأخلاق، لكن حسين لم يعد بيننا.
نحن نعرف عنه القليل، ونعرف عن عالمه الكثير! عالم المجاهدين في حزب الله. إنه عالم له ثقافته الخاصة، كلماته الخاصة، إشاراته الخاصة، تربيته الخاصة، وقناعاته الخاصة. لا يفرضونه على أحد شرط أن لا يفرض أحد عليهم شيئاً. لا يتوقعون من أحد فهمهم، ولا يكترثون كثيراً بمن ينتقدهم!
هكذا هم! بكلماتهم التي تجدونها على أطراف كتب الدعاء وكتب الدراسة معا! هكذا هم باقتباسات يتفننون في قصها ولصقها على ضحكاتهم اليومية، تجدونها مختفية من أحاديثهم حين يعودون من “الخدمة”. ثم تعود وتظهر على ألسنتهم ما أن يرجعوا إلى الجبال ليستنشقوا هواء الحرية ويلفوا سواعدهم حول خصر السلاح: فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِه.
لحسين وأخوته في السلاح قصص كثيرة؛ لا بد أنكم سمعتم بعضها! وإن لم تسمعوا فإليكم بعض عباراتهم. فقبل كل شيء، لا يمكن لعاقلين مثلنا -وإن كنا نخالفهم الرأي فرضاً- أن لا نحترم أفكارهم وعقيدتهم التي تستولد كل ذلك الكم الهائل من الزخم والثبات! فهم -وإن كنا في مواجهتهم فرضاً- سادة من سادات النزال، معروفون بشجاعتهم وإقدامهم، وشهد لهم العدو قبل الصديق، وكأنما يجري الرعب من أمامهم مسافة!
حسين وأخوته يتحدثون في الخوف والحياة ومعناهما؛ يقولون إن الخوف من الموت هو محصور بمن يعتبر الموت نهاية الحياة، ولا يخشى الموت إلا من يعتبر الموت فناءا أبدياً أو يخشى تحمل مسؤوليته وتقبل الثواب والعقاب، ولكن إذا ارتحلنا من الدنيا ونحن في سلامة من ديننا وإذا فزنا بالشهادة، فلن نهاب الهزيمة الظاهرية، وإن انتصرنا ولم يكتب لنا الله خاتمة جهادنا فإننا لن نتباهى بالنصر الظاهري”.
حسين وأخوته يتفاخرون بأنهم يقهرون الموت في أنفسهم وقلوبهم! بأن هذا هو سر تفوقهم، يقولونها بألف طريقة وطريقة، هذا نموذج منها:
إن الذي يصبح قادراً على بذل نفسه وروحه في سبيل ما يراه حقاً ويكون رضى الله فيه، لا يمكن إلا أن يكون قد مرحلة الخوف من الموت إلى مرحلة اقتحامه، قالها ولي المجاهدين وقدوتهم الأولى: “والله لا يبالي ابن أبي طالب أوقع على الموت أم وقع الموت عليه”.
حسين وأخوته يتهامسون في شوق وتناقلون أحاديث أمهاتهم وأخواتهم والصغار! يفرحون ويعتبون، لكنهم حين يرون الصورة الكبرى يوقنون بأن الشعب الذي يعشق رجاله ونساؤه الشهادة ويهتفون بها، لا يمكن أن يتأوّه من نقص في بعض الموارد الاقتصادية، هذا الأنين لا يرفعه إلا المتعلقون بالمادة، وأما أولئك الذي يعشقون ربهم، لا تثنيهم الزيادة أو النقص ولا يؤلمهم ارتفاع الأسعار أو انخفاضها. هذا الذي يسير قدماً نحو الشهادة، لا يهتم إن إخبرته بأن لصوصاً قد سرقوا أمواله أو أن أسعار المواد الأساسية قد ارتفعت، إنه لم يذهب لجمع الغنائم، ذلك لأن غنيمته أبدية”.
حسين وأخوته يفتحون في جوف الليل كتب الدعاء وسجادة الصلاة، يسقونها قصائد الشوق والنجوى؛ ولولا الأجل الذي كتب لهم، لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين!
حسين وأخوته يؤمنون بهذه الكلمات كإيمانهم بالله بالحب والحق والوطن والأم و…. هكذا هم؛ يرون كل ما في الشهادة مدهشا حد الانجذاب، كلّ ما يرتبط بالوجود النيّر للشهيد يرونه مدهشا. حافزه للسير نحو الجهاد. كيف ينهض في العالم المادي ووسط كلّ هذه الألوان والبهارج الجذابة ويقوم لله ويسير إلى ساحة الجهاد. كيف يضع نفسه في وسط الأتون المشتعل ويعرض نفسه للأخطار في سوح القتال، كيف يشعل بريق عينيه واللؤلؤ المنهدل من جبينه الجبهات! وكيف في لحظة الأوج، يصبح خالداً، ينتهي الشوق الذي كان يتآكل صدره وتسقط الأستار والحجب المادية وتخفق الروح لتشاهد جمال وجه المحبوب.
حسين سمع هذه القصة يوماً وابتسم، ضحكت عيناه دمعتين من شوق، ثم خطا أول خطوة نحو ما صار يوقن أنه “البداية”:
“هبط ملك الموت على إبراهيم الخليل، فسأله إبراهيم عليه السلام: يا ملك الموت أداع أنت أم ناع؟
قال ملك الموت: بل داع يا إبراهيم، فأجب،
قال إبراهيم عليه السلام: فهل رأيت خليلاً يميت خليله؟
فرجع ملك الموت حتى وقف بين يدي الله جل جلاله فقال: إلهي سمعت ما قال خليلك إبراهيم، قال الله جل جلاله: يا ملك الموت إذهب إليه وقل له: هل رأيت حبيباً يكره لقاء حبيبه، إن الحبيب يحب لقاء حبيبه”.
حسين اليوم، شهيد!
رثاؤه حق للأحبة! ورحيله جمر من فقد وشوق!
أعذروا تأدبي في محضر الموت! ربما كلامي ينتمي إلى زمن آخر!
إلى زمن يكره المثلى ويكره تسخير الموت ويتأدب في محضره،
معكم ومع “إنسانيتكم” كل الحق،
نحن في زمن التجارة بالموت، نتفنن بتسخيره وبتصميمه!
مرة نسخّر الشكل ففينا من حز الرؤوس واقتلع القلوب،
ومرة نسخّر الحدث ففينا من قتل ليقطف الثمار،
ومرة نسخّر الأثر ففينا من تاجر بالشهيد والضحية حتى لم يبق دم لنكتب آخر المقال.
أعذروا قلة انتباهي، وانتمائي لجماليات بائدة، إنني أكتب لفاطمة بعضاً من كلمات ربما لم تسمح الحواجز المرفوعة بينها وبين أخيها الشهيد بأن تسمعها منه مباشرة، وربما لأسباب أخرى! إنني وإذ أحترم صرختها الثكلى، أقف بعتب شديد وصارخ أمام مقالها الذي نشر ولم يكن دمعها ودمع أمها قد جف بعد! إنني أقف بحزن كبير أمام أخ من أخوتي يرثى فيعاتب! ويبكى فيحاسب! ولا يستطيع إلى ذلك رداً.. بعض كلمات أحسبها من حسين إلى فاطمة:
“قلتِ لي أنك ستقعين أرضاً وأن أحبائي (ألستِ حبيبتي أيضاً؟) لن يقووا على جعلك متزنة، قلت إنك هشة وعاجزة، تخذلك دموعك كلما احتجتها، ويخذلك الكون لأني أرحل. يا عزيزتي لو سمعتني يوماً لعرفتِ أنني أجد هذا متوقعاً ن الدنيا! من يتعلق بها يخسر، ينهزم، يصبح هشاً، لا يقوى على الإجابة عن أسئلته. لكنني لا أستطيع مساعدتك إن كنت لا تريدين المساعدة.
هل تعرفين أن أمي أكثر من يعرف أنني لم أعد أطيق الانتظار لأفرد جناحيّ، هذه الدنيا التي لا تسع ابتسامتي
هل تعرفين أن أبي عاشق مثلي تماماً، إلا أنه أكثر قدرة مني على احتمال ضنى الشوق الطويل
هل تعرفين أن أخوتي يبتسمون لي كل ليلة ويقولون: فعلتها يا حسين! فعلتها أيها المحظوظ
هل تحزنين عليّ؟ كم مرة أجبتك أنني أسعد إنسان على وجه الأرض؟
كم مرة قلت لك أن الحياة الجميلة لا بد أن تنتهي نهاية جميلة! نهاية أنا اخترتها بنفسي! لم هذا الضيق والاختناق؟ ألا تعرفينني؟ ألست تحبينني؟ وأنا أحببت أن أكون كما أنا، فعلام الجزع؟
أنت لا تقرئين الفاتحة، ولكنني أحب أن أسمعها منك، أن أتلقاها منك هدية، أليس شرط الهدية أن أحبها؟ ألم أكن أقرؤها على قبور أصدقائي وأحبتي؟
ألم أكن مؤمنا بأني إن رزقت الشهادة في سبيل الله سأكون سعيداً فرحاً؟ ألم تسمعي هذه الكلمات مني مراراً وتكراراً؟ لم لا أكون مرتاحاً إذن وأنا لم أكن يوماً وجلاً من الموت، وإن لم أطلبه!
ألم أستأذن الجميع؟ ألم أقل لكم أنني ذاهب؟ في ذلك الصباح!
إنني لم أر يوماً موتي نهاية، لهذا لم أخف منه يوماً، إنه بداية، إنه معبري إلى اللقاء! إنه مسرب أجنحتي إلى الطيران! إنه انعتاقي من قفص لا بد يوماً وأن ينكسر. بينما أنتِ مقتنعة بأنها النهاية! أنت تبكينني أم تبكين نفسك؟
نعم، لطالما عرفت أنك تخالفينني الرأي في موضوع الحرب، ولطالما تغاضيت عن ذلك، فحبي لك أكبر من أن أواجهك.
إنه الحب! أكبر من فلسفة وأوسع من حدود عقل! هذا مصيري يا عزيزتي، أنا اخترته حين اختار قلبي أن يكون عاشقاً. ربما لاحقا.. ستفهمين.
إنني إن بقيت صابراً على هذه الدنيا، فهو من أجل أمي، حتى تتملى مني وحتى حين أستأذنها الرحيل، تأذن لي ولو نفياً!
لكن قلبها سيعرف أن قلبي لم يعد يطيق البقاء، وهي أم! لا ترى نفسها حين تحب ولدها! هي تحبه دون شروط، كل ما لديها من “أنا” معدوم، هي تحبه لأنه سعيد على طريقته! لأنها تتقن الحب كما يتقنه العرفاء. هكذا يكون الحب “من دون مقابل!”
أما أنا فأحبك دون مقابل، دون أن أتوقع منك سلوكاً كنت أتمناه لك، من أجل سعادتك وليس من أجلي! أنا لا أحمل في هذا القلب لك سوى الحب الكبير، فأنت أختي قبل كل شيء وبعد كل شيء.
رفقاً بنفسك يا فاطمة؛ هل تستطيعين أن تنظري بعينيّ قليلاً، ألم أنل ما كنت أتمنى؟ ألم أفعل ما حلمت بأن أفعله طوال العمر؟ ألا أسمع منك تهنئة لأنني حققت أحلامي ووصلت إلى حيث أردت؟!
كفاكِ! لماذا تنظرين بعينيك إلى حياتي؟ ألست تحبينني؟ أليس من المفروض أن تفرحي لفرحي؟!
حسين الذي تعرفين: أليس هذا ما كان يريده؟! أليس هذا ما اعتقده وما صبا إليه؟
إنني سعيد على طريقتي! أليس هذا كافياً.. في الحب؟”