مساعي الصين لتفادي الصدام مع القارة العجوز

موقع الميادين-

شاهر الشاهر:

التهديدات الأوروبية باتباع سياسة أكثر “تصادمية” مع الصين يبدو أنها غير مجدية من الناحية العملية، وخصوصاً أن القادة الأوروبيين ما زالوا مؤمنين بأن الأمم تنتمي إلى الماضي، وأنهم ما زالوا قادرين على فرض مواقفهم وقيمهم.

منذ العام 2020، باتت الصين الشريك التجاري الأول للاتحاد الأوروبي بدلاً من الولايات المتحدة، وتطورت تلك العلاقات بشكل مطرد حتى باتت مصدر قلق للولايات المتحدة التي سعت للضغط على دول الاتحاد تارة أو تخويفها من مخاطر تلك العلاقة عليها تارة أخرى.

 

واليوم، باتت تلك الدول ترى أنه لا بد من “تخفيف الاعتماد على الصين”، حتى لا يتكرر معها “الدرس الروسي”، إذ اعتمدت بشكل كبير على الغاز الروسي من دون أن تؤمن بديلاً له.

 

فك ارتباط الاقتصاد الأوروبي مع الصين يبدو أمراً مستحيلاً، وخصوصاً في ظل ما تعانيه تلك الدول من أزمات، نتيجة لتبعات الحرب في أوكرانيا، إذ بات المواطن الأوروبي بحاجة أكبر إلى البضائع الصينية “الرخيصة”.

 

قبل أيام، قام الرئيس الصيني شي جين بينغ بجولة أوروبية هي الأولى له منذ خمس سنوات. لذا، حملت الكثير من المعاني والدلالات السياسية، وتضمنت مناقشة العديد من الملفات الساخنة بين الصين والقارة العجوز.

 

شملت الجولة ثلاث دول هي فرنسا وصربيا والمجر. وكانت البداية من فرنسا، نظراً إلى أهمية هذه الدولة، وللاحتفال بمرور 60 عاماً على العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، ونتيجة لنظرة الصين لها على أنها المفتاح لتعزيز العلاقات مع باقي الدول الأوروبية، باعتبار أن أوروبا غربية أولاً.

 

ملفات خلافية كثيرة بين الصين وفرنسا، أهمها ما يتعلق بالجانب الاقتصادي، إذ تؤيد فرنسا التحقيقات الأوروبية بشأن السيارات الكهربائية الصينية، وهو الأمر الذي ردت عليه الصين بفتح تحقيق بشأن كحول “البراندي” الذي يتم استيراده من أوروبا، والذي يمثل أكثر من 90% من جميع الواردات الصينية من الكحول.

 

كذلك، سعت باريس لإقناع الصين بفتح أسواقها أمام المنتجات الزراعية الفرنسية، وهو مطلب قد يبدو غير منطقي ما لم تقابله معاملة بالمثل.

 

وسعت باريس إلى بحث موضوع مستحضرات التجميل الفرنسية وشهادات حقوق الملكية وسوى ذلك من القضايا الخلافية.

 

الرئيس ماكرون خلال زيارته الصين العام الماضي كان قد أبدى حماسة لتعزيز العلاقات بين دول الاتحاد الأوروبي والصين، وتحدث عن ضرورة أن تبحث دول الاتحاد عن مصالحها بعيداً عن العامل الأميركي.

 

كما أعلن حينها أن قضية تايوان لا تعني كثيراً فرنسا ولا الاتحاد الأوروبي، وأن مصالح بلادهم تقتضي ضرورة التعاون مع بكين.

 

تلك التصريحات لقيت ترحيباً حينها من الجانب الصيني، إذ استجابت بكين لطلبه حينها بالتدخل لإيجاد حل للقضية الأوكرانية، وجرى اتصال هاتفي بين الرئيس الصيني وزيلنسكي حينها، وقدمت بكين ورقة لحل الزمة الأوكرانية مؤلفة من 12 نقطة.

 

المشكلة أن تلك التصريحات عادت وتغيرت، وبات الموقف الفرنسي أكثر انسجاماً مع المواقف الأوروبية المتشددة، نتيجة للضغوط الأميركية.

 

أما على الصعيد السياسي، فإن فرنسا نقلت مطالب الدول الأوروبية المتمثلة في ضرورة أن تقوم الصين بـ”الضغط على موسكو” من أجل وقف الحرب في أوكرانيا، وهو ما ترفضه الصين دوماً، فهي لا تريد الضغط على أي دولة، لكنها وفي الوقت نفسه مستعدة لأداء دور الوساطة لإيجاد حل للحرب الأوكرانية.

 

الرئيس الفرنسي من خلال مطالبه يظهر “ازدواجية واضطراباً” في توجهاته السياسية، ففي الوقت الذي يطلب الضغط على روسيا لوقف الحرب في أوكرانيا، يؤكد استعداد بلاده لإرسال جيش إلى أوكرانيا.

 

وفي حين يحاول أن يطلب من بكين قطع علاقاتها مع موسكو، يقوم باستقبال رئيس الوزراء الياباني كيشيدا قبل أيام من استقباله الرئيس الصيني!

 

أما على صعيد “الهدنة الأولمبية”، التي طلبت باريس من الرئيس الصيني إقناع موسكو بها من أجل إنجاح أولمبياد باريس، فقد أعلن الرئيس الصيني دعمه لها من دون التعهد بنقل ذلك إلى الرئيس الروسي الذي سيزور بكين خلال الأيام المقبلة، فالصين لن تؤدي دور “ساعي البريد”، بل هي دولة يمكنها القيام بدور الوساطة.

 

دعم بكين للهدنة الأولمبية ينبع من تقديرها لمشاركة دول الاتحاد الأوروبي في دورة الألعاب الشتوية التي أقيمت في بكين، رغم الضغوط الأميركية التي مورست على دول الاتحاد، إذ لم يتخلّف حينها سوى ليتوانيا.

 

كما عقدت قمة ثلاثية حضرتها رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين لتشكيل “جبهة أوروبية موحدة” في مواجهة الصين، على حد تعبيرها.

 

وكانت رئيسة المفوضية الأوروبية قد زارت بكين العام الماضي خلال وجود الرئيس ماكرون فيها، لكنها لم تعامل بشكل جيد وسافرت حينها من دون وداع رسمي نظراً إلى تصريحاتها التي سبقت الزيارة، والتي تحدثت فيها عن إنذار أخير ستقدمه للصين.

 

تلك التصريحات لطالما رفضتها بكين مطالبة الجميع بالتخلي عن “عقلية الحرب الباردة”، وضرورة قراءة خارطة توازنات القوى الدولية الجديدة، وإدراك دور الصين ومكانتها فيها.

 

المطلب الفرنسي والأوروبي بضرورة أن تتعامل بكين مع دول الاتحاد الأوروبي باعتبارها كتلة واحدة يبدو غير منطقي من الناحية العملية، فالخلافات بين دول الاتحاد واضحة للعيان، وخصوصاً بين فرنسا وألمانيا التي تغيب مستشارها عن قمة بكين حينها (مفضلاً زيارة الصين وحده)، كما تغيب اليوم عن المشاركة في قمة باريس بذريعة وجود ارتباطات أخرى.

 

في ظل تلك الانقسامات، يجري توجيه الاتهامات إلى بكين بالسعي لإثارة الفرقة بين دول الاتحاد، قياساً إلى القمة التي جرت عام 2019، حين انضمت ايطاليا إلى مبادرة الحزام والطريق، ثم عادت وانسحبت منها نهاية العام الماضي بعد إعلان بايدن “الممر الهندي” كمشروع منافس للحزام والطريق الصيني.

 

بكين تريد أن تقول للدول الأوروبية إن ما تستطيع أن تقدمه الصين لكم، لا يمكن للولايات المتحدة تقديمه، وعلى الدول الأوروبية أن توازن بين مصالحها الاقتصادية التي تتطلب تعزيز التعاون مع الصين وميولها السياسية والعاطفية، التي هي بكل تأكيد مع أميركا.

 

حسابات بكين الدقيقة و”دبلوماسية التوازنات” التي تتقنها جعلاها تضمن جولة الرئيس الصيني الأوروبية زيارة كل من صربيا والمجر؛ فصربيا ليست من دول الاتحاد الأوروبي. أما المجر، فهي دولة منشقة داخل الاتحاد، لكنَّ الدولتين تقفان إلى جانب موسكو في حربها مع أوكرانيا، ولعلاقتهما مع الصين خصوصية معينة، إذ تشكلان مصدر إزعاج للغرب، وخصوصاً بروكسل، التي لا وجود لها في جولة الرئيس الصيني الأوروبية.

 

زيارة صربيا كان الهدف منها توجيه رسالة إلى الولايات المتحدة وحلف الناتو لمناسبة مرور 25 عاماً على تدمير مبنى السفارة الصينية في بلغراد عام 1999.

 

قبيل زيارته لصربيا، كتب الرئيس شي مقالاً نشر في وسائل الإعلام الصربية، قال فيه: “إن ضربات الناتو على السفارة الصينية في بلغراد قبل 25 عاماً لا ينبغي أن تُنسى. إن الشعب الصيني يقدر السلام، لكنه لن يسمح أبداً بتكرار هذا التاريخ المأساوي”.

 

وأشار شي جين بينغ إلى أن الصداقة الصينية الصربية التي عمّدتها دماء مواطني البلدين ستظل في الذاكرة المشتركة للشعبين الصيني والصربي، وستلهمهما لاتخاذ خطوات كبيرة إلى الأمام.

 

وقرر البلدان (الصين وصربيا) تطوير علاقاتهما من “الشراكة الاستراتيجية الشاملة”، التي مضى على إقامتها أكثر من 8 سنوات، إلى “بناء مجتمع مصير مشترك”. وبذلك، تصبح صربيا أول شريك استراتيجي شامل للصين في وسط وشرق أوروبا.

 

أما المجر، فقد كانت أول دولة أوروبية تنضمّ إلى مبادرة الحزام والطريق، التي تعاونت بشكل وثيق مع استراتيجية الانفتاح الشرقي في المجر، ما عزز التعاون العملي الثنائي في مجالات التجارة والاستثمار والتمويل وغيرها من المجالات.

 

وفي ديسمبر الماضي، أعلنت شركة BYD الصينية لصناعة السيارات الكهربائية بناء أول مصنع أوروبي لصناعة السيارات الكهربائية في المجر، والذي يعد أهم الاستثمارات في التاريخ الاقتصادي للمجر.

 

يبدو أن صربيا والمجر مقتنعتان بأن نموذج التحديث الصيني سيجلب للبلدين المزيد من الفرص الاقتصادية، وأن علاقاتهما مع الصين تتطور بشكل كبير، وهو ما سيزيد قلق دول أوروبة الغربية بكل تأكيد.

 

يبدو أن زيارة الرئيس شي حققت نتائج سياسية واقتصادية كبيرة مع كل من صربيا والمجر، لكنها لم تستطع تبديد المخاوف الاقتصادية لفرنسا وباقي دول الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً أن تلك الدول باتت مسكونة بهاجس الخوف من الصين.

 

التهديدات الأوروبية باتباع سياسة أكثر “تصادمية” مع الصين يبدو أنها غير مجدية من الناحية العملية، وخصوصاً أن القادة الأوروبيين ما زالوا مؤمنين بأن الأمم تنتمي إلى الماضي، وأنهم ما زالوا قادرين على فرض مواقفهم وقيمهم، في حين أن الواقع مرير بكل تأكيد بالنسبة إليهم، والأقسى منه مرارة هو المستقبل.