محمود.. شاب دفن مستقبله قبل أن يدفن
موقع إنباء الإخباري ـ
إيمان مصطفى:
أحياناً لا نقوى على الحديث وتقف الكلمات تعانق حناجرنا، فيلتفّ طوق من الصمت حول أعناقنا فيجبرنا على السكوت.
وأحياناً لا نقوى على التعبير عن مشاعرنا فينسكب الدمع من أعيننا…
وما بين الصمت والدموع، نحتفظ بالكثير مما تحتويه مشاعرنا من حب وألم و غضب. هي مشاعر مبعثرة انتابتني عند زيارة منزل أم حسين المتواضع..
قصدت الجلوس في الزاوية الأبعد عن الحاضرين، والنظر باهتمام كبير إلى محتويات الغرفة القليلة، وإلى ملامح أم حسين … رغم كبرها الا انها تحمل ملامح جميلة كانت في صغرها، وكل تجاعيد وجهها تحكي الف قصة.
علقت نظراتي بوجهها وأنا أخاطب تلك القصص… من أين أبدأ الحديث؟؟ زواج وأولاد وملامح صبر ووجل وعذاب… فاخترت قصة ابنها محمود التي استفزت حرفي والتي تشكل القصة الأكبر والأكثر وجعاً في ملامح أم حسين .
إن ما دفعني إلى الكتابة اليوم، قصة الشاب محمود ابن الخمسة والعشرين ربيعاً. أعلم أنكم لا تعرفون من هو هذا الشخص… ولكن أدعوكم جميعاً للتعرف اليه …
هو شاب حبس في عتمة الحياة قسراً، ذنبه الوحيد أنه ولد وحركته سقطت منه، أطرافه لا تستجيب لأوامره، فأسماه مجتمعه معاقاً، فيعامل على أنه كومة لحم فُرضت على الحياة.
والدة محمود لبنانية الجنسية، أما زوجها فهو سوري الجنسية، و هنا بدأت رحلة المعاناة، حيث رفض عدد كبير من المؤسسات الخيرية مساعدة محمود بسبب جنسيته، وحُرم من أبسط حقوقه، وأقلها الحق في التعلم والطبابة.
يكابد محمود مرارة العيش والمعاناة في أعمق مظاهرها، لاسيما في ظل غياب أدنى شروط الحياة، حيث كبر مع الحرمان والفقر، وحرمه الدهر أيضاً من حنان الأب الذي هجره منذ الصغر .
لم يجد سوى حضن أمه ملجأ له، وهي التي شقيت وعملت وتعبت لتعيل أطفالها و تعالج محمود . هذه الأم المضحية تعيش كل يوم قلق تأمين العلاج لمحمود، وهو يعيش القلق من فقدانها يوماً، فلا معيل له غيرها.
تقول أم حسين بصوت متقطع باكٍ: “أولادي عايشوا الفقر، ولم يعرفوا معنى العيد يوماً، وأنا بعرق جبيني عملت وتعبت لأجلهم، وربّيتهم على عزة النفس حتى لا يطلبوا العون من أحد. وأنا من تكفّلت بعلاج محمود، و لو اضطررت أن أدفع كل ما أملك لأجل علاجه لفعلت، و لن أمدّ يد الذل لأحد، حتى من الأقربين الذين أهملونا، وأضحينا في طيات النسيان عندهم”.
كلاماتها طبعت بذاكرتي، وما زالت صورة ذلك الشاب عالقة بذهني، وكأنه يريد مخاطبة أقرانه، ويتبادل الحديث والضحك معهم. هكذا كانت توحي نظراته وتلويحاته، فعندما نضحك يبادلنا الضحك، وعندما نقوم تلاحقنا نظراته. ولم تغادرني ضحكاته خصوصاً حين يلعب مع صديقه الوحيد البلبل “سانتو” كما أحب أن يسميه…
محمود شاب لا يترك فرض صلاة ولا صوم رغم آلامه وأوجاعه.. في حين أن الكثير من شبابنا تركها.. لا يقبل أن ينظر إليه أحد بعين العطف والشفقة، ولا يحب طلب المساعدة من أحد.. و لكن الحاجة الماسّة الآن دفعته إلى طلب العون من الأيدي البيضاء لانه بحاجة إلى صور وعمليات، وما باليد حيلة… فكيف لعائلة تنام أحيانا جائعة أن تؤمن تكاليف علاج محمود؟؟؟
هي صرخة انسانية أرسلتها أم حسين عبر موقعنا… تناشد كل إنسان قادر على مساعدتها ومساعدة ابنها بأي وسيلة، ليجري محمود عمليته و يقوم بالصور المطلوبة، علّه يعود شخصاً طبيعياً في مجتمعه ويرتاح بالها.
محمود اليوم بحاجة إلى عدة عمليات في شرايين رأسه وفي قدميه، بالإضافة إلى عدد من الصور والفحوصات. و المؤسف أن المؤسسات الخيرية رفضت دعمه و التكفل بعلاجه أو حتى التبرع له تحت ذريعة الجنسية السورية.
كلام أم حسين عبارة عن صور حيّة تحكي معاناة امرأة تتشبث بأمل أن يلتفت لها أحد أو جهة خيرية أو أناس طيبون، فهل ستجد من يعين؟ تناشد الناس أن يقدموا العلاج لمحمود قبل أن يتحول إلى رقم بلا قيمة في مجتمعه، وإلى شابٍ دفن مستقبله قبل أن يُدفن، علّه ينجو و يعود إنساناً طبيعياً فيما تبقى له من رصيد العمر.
حاصرتني أسئلة كثيرة، عن شعوره وإحساسه، وعن نظرة الناس له، ولأنها أسئلة غير لائقة في هذا المقام، لم أطرحها إلا على نفسي . صعب عليّ أن أبلغ إحساسه وشعوره، فاكتفيت بشعور الحزن والأسى على شابٍ في مقتبل العمر، حكم عليه القدر بأن يعيش مع إعاقة في الأعصاب، ولا من معين .
خرجتُ من منزل محمود ومعي تساؤلاتي الكثيرة، سارحةً في عالمي الافتراضي، باحثةً عمّن يوصلني إلى الإحساس والشعور عندما نكون معاقين، عندما يُنظر إلينا بعين الشفقة والرحمة، لا بعين الاحترام والتقدير، وعندما نُركن في الزوايا بلا دور ولا أهمية، وعندما نكون عالة على الأحباب، لا سنداً ولا ذخراً لهم.
آلمتني تلك الصور حين استحضرتها، آلمتني قسوة المحيطين بهم، فبدلاً من مساعدتهم والأخذ بأيديهم، يكونون عاملاً إضافياً لشقائهم وتعاستهم، وسبباً في منعهم من مجرد الإحساس بمن حولهم ، فكونوا انتم السند و المعيل و ساعدوا محمود.