ما بين الإجتياح عام 1982 واليوم.. دروس وعبر
موقع العهد الإخباري-
شارل ابي نادر:
بمعزل عن حقيقة الأهداف التي أسست لاجتياح لبنان عام 1982، وتداخلت بين الفعلية المخفية وبين المعلنة منها، تعود بنا الذاكرة الى تلك المرحلة الأكثر حساسية في تاريخ لبنان، والتي وسعت فيها “اسرائيل” احتلالها إلى العاصمة بيروت، إضافة لأجزاء كبيرة من مناطق الجنوب والبقاع وجبل لبنان الجنوبي، لتتراجع وتنسحب على مراحل، توِّجت في 25 أيار من العام 2000، بخروجها شبه الكامل من كافة الأراضي التي احتلتها، باستثناء مزارع شبعا وجزء من بلدة الغجر، مدعية أنها انتزعتها من جنود سوريين كانوا يتمركزون فيها عند اجتياحها للأراضي اللبنانية، ليتبين أنها تحتاجها أمنيًا وعسكريًا وجغرافيًا، لدعم احتلالها الحالي للجولان السوري.
لا شك أن أهداف “اسرائيل” الفعلية من ذلك الإجتياح، تتعلق بأطماعها التوسعية بالأساس، والتي تخدم استراتيجيتها باحتلال أكبر قدر ممكن من الأراضي العربية، والاستفادة بأكبر قدر ممكن من الثروات، بالإضافة لهدف سياسي، ما زالت لليوم تعمل له ما استطاعت، يتعلق بفرض اتفاقات اذعان مع جميع الدول العربية، تقول هي أنها اتفاقات سلام، ولبنان بالنسبة لها، كان دائمًا من ضمن هذه الإستراتيجية، مشروعًا دائمًا لاتفاق ومعاهدة صلح معها.
استطرادًا، اذا أخذنا بالإدعاء الإسرائيلي حول هدفها من الإجتياح، والذي اعتبرته حينها “إنهاء النفوذ العسكري والسياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان”، مع الشرارة التي رأت فيها سببًا مباشرًا لإطلاق عملية الإجتياح، محاولة قتل سفيرها في لندن آنذاك، على يد مجموعات من المقاومة الفلسطينية، واذا ربطنا الإجتياح مع مراحل وتفاصيل العمليات العسكرية التي واكبت ذلك الاجتياح، بدءا من دخولها وتمددها ساحلًا وجبلًا وبقاعًا، وصولًا إلى بيروت وظروف ووقائع المواجهات على أسوارها، يمكننا استنتاج أكثر من نقطة ومن معادلة، وأن نستخلص منها دروسًا وعبرًا، نحتاجها بقوة كنواة عقيدة مواجهة ومنهجية عمل ومقاومة، يجب أن تطبع مسار صراعنا التاريخي ضد هذا العدو.
اتفاق القاهرة الذي شرّع العمل الفلسطيني ضد العدو انطلاقًا من لبنان، كان بداية انحراف الدولة اللبنانية نحو استراتيجية خاطئة، تمثلت بالتخلي عن حق وعن واجب سيادي مقدس، فكان حصر المقاومة بالمجموعات المسلحة الفلسطينية دون السلطة اللبنانية بكامل أجهزتها العسكرية والأمنية والرسمية، الخطأ الأول الذي كان قاتلًا، والذي سبب الويلات والمآسي التي حصلت بعدها، وهذا اللا التزام من قبل السلطة المنقسمة آنذاك، ساهم في التحضير للاجتياح.
آنذاك، وفي وقت الاجتياح، لو كان هناك التزام رسمي بمقاومة اعتداءات “اسرائيل” وباعتبارها عدوا بما للكلمة من مضمون ومن واجبات والتزامات واجراءات، ولو كانت الدولة راعية لمقاومة الاحتلال وحاضنة للمواطنين المقاومين في مهمتهم، كان الموقف الاقليمي والدولي مرغما على أن لا يبرر لـ”إسرائيل” اجتياحها، وكان الموقف العسكري والمدعوم من السلطة الرسمية ومن كافة المواطنين والمقاومين اقوى واكثر ثباتا، من موقف متردد ومنقسم، واجهنا به العدو عند اجتياحه للبنان.
اليوم نستطيع القول إن الموضوع تغير بنسبة معقولة، فالتزام السلطة الرسمية السياسية بمقاومة العدو، شكل ويشكل نقطة ارتكاز أساسية قوية بوجه “اسرائيل”، تساهم، مع ما تملكه المقاومة من أسلحة ردع وقدرات توازن، في تثبيت موقف قوي بمواجهة العدو.
هذا في البعد السياسي الرسمي والوطني، أما في البعد العسكري، فشتان ما بين وضعنا اليوم وما بين وضعنا اثناء الاجتياح، وبالمقابل، هناك فارق كبير بين قدرة العدو المحدودة اليوم على تحقيق اجتياح أو توغل، كما كانت قدرته الكاسحة أثناء الإجتياح عام 1982، فـ”اسرائيل” اليوم، نسيت بالكامل أيام كانت تتوغل كما تريد وتدخل الأراضي العربية ساعة تريد، وتصل الى أي نقطة وتحاصر أي عاصمة عربية، ولم يعد واردًا بتاتا أن يحصل ما حصل أثناء الاجتياح عام 1982 ووصول وحداتها خلال ايام معدودة الى مشارف بيروت ومشارف طريق الشام بقاعا، دون مقاومة تذكر أو مع مقاومة ضعيفة وعاجزة.
قد تكون المعركة – (أو المعارك) – على أبواب بيروت، وثبات المقاومة أو المقاومات التي تجمعت فيها لمواجهة وحدات العدو، هي التي شكلت حينها أحد مرتكزات انطلاق المقاومة الفعلية المنظمة ضد العدو، والتي وصلت الى ما وصلت اليه اليوم من تماسك وامكانيات واقتدار، فاستطاعت بخطى ثابتة وثقة، أن تُجبِر العدو على تغيير العديد من مفاهيم عقيدته العسكرية، وبعد أن كان جيشه “الجيش الذي لا يقهر”، أصبح اليوم “أوهن من بيت العنكبوت”، واستطاعت المقاومة أن تخلق ذهنية جديدة في مواجهة العدو، استندت فيها على إلغاء فكرة طالما كانت سائدة، بأن جيشه قوي ولا يمكن التغلب عليه، وتثبيت فكرة مغايرة تمامًا، أن إلحاق الهزيمة بجيش العدو أصبح واردًا كل وقت وفي كل مكان أو منازلة.
اليوم، يمكن القول إن “اسرائيل” تخلت عن عدة مفاهيم أساسية كانت عماد عقيدتها العسكرية:
التفوق الجوي الذي كان الرافعة الأساسية لمعركتها، وما زال طبعًا، أصبح اليوم مقيدًا بعدة اتجاهات، وذلك بعد أن استطاعت المقاومة ان تنزع منه فعاليته الكاملة ، من خلال تذكيره الدائم بامتلاكها منظومات دفاع جوي قادرة وبنسبة معقولة، على استهداف مسيراته وطوافاته وربما قاذفاته، وبعد أن استطاعت أيضًا المقاومة أن تمتلك مناورة دفاع سلبي ضد الطيران المعادي، من خلال تفعيل العمل السري المخفي والتمويه والتحصين وزيادة وتوسيع نشر شبكات الانفاق، فخسر في ذلك العدو نقطته الرابحة في المعركة، على عكس السابق عند الاجتياح.
نقل المعركة الى أرض الغير، كان أيضًا أحد أكثر المفاهيم العسكرية التي اعتمدها العدو وشكلت له أمانا وحماية واستقرارًا في جبهته الداخلية عند أي اعتداء كان ينفذه، اليوم، أصبح هذا المفهوم متبادلًا مع أفضلية نقل المعركة الى ارضه، وذلك عبر الصواريخ الدقيقة النوعية وعبر المسيرات التي تمتلكها المقاومة، ومن جهة أخرى، من خلال وجود امكانية كبيرة اليوم – يعرفها العدو جيدًا وأكثر ما تشغل باله – لدخول عناصر من المقاومة إلى الجليل والتوغل وتنفيذ عمليات خاصة في المستوطنات الحدودية.
ربما يحمل اجتياح “اسرائيل” للبنان عام 1982 وحصار بيروت، الكثير من المآسي ومن الذكريات المؤلمة والمفجعة، ماديًا وانسانيًا ومعنويًا وسياسيًا، ولكن يبقى لما استطاع لبنان بشكل عام والمقاومة بشكل خاص استخلاصه من دروس وعبر، أهمية كبرى، نحتاجها بقوة في هذا الصراع المستمر مع العدو الصهيوني، ما دام يحتل أراضينا ويغتصب مقدساتنا.