ما بعد أوكرانيا: فعلاً لقد تغير العالم!
صحيفة الوطن السورية-
د. بسام أبو عبد الله:
عندما نعود بالذاكرة إلى ما قبل عقدين من الزمن، أي مع بداية الألفية الجديدة التي ترافقت مع اندفاعة أميركية أطلسية نحو إنجاز ما سموه آنذاك «القرن الأميركي»، يجب أن نعيد التذكير بأن قلة من الزعماء في العالم واجهوا هذا الهيجان، والسعي الأميركي للهيمنة على العالم.
وحده الرئيس بشار الأسد الذي أغلق الباب أمام وزير خارجية الولايات المتحدة كولن باول، ورفض ورقة شروطه المعروفة، وبالطبع فإن قرار الرئيس الأسد رأى فيه البعض توجهاً متشدداً، وأنه كان بالإمكان أن نكون أكثر طراوة مع واشنطن أي أن نطرد حركات المقاومة، ونقطع الصلة بحزب الله، ونتحول إلى حرس حدود لجيش الاحتلال الأميركي، وأنصار هذا التوجه اعتقدوا أن ذلك سيحمينا من الانتقام الأميركي الذي بدأ يتصاعد تدريجياً عام 2004، وصولاً للحرب على سورية 2011.
الآن في ظل التحولات على وقع العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا التي بدأت في شباط الماضي، يمكن الحديث عن مجموعة من المؤشرات التي تشرح لنا أن مواقف الرئيس الأسد كانت صحيحة، لكنها مبكرة وشجاعة قياساً بالكثير من زعماء الدول في العالم، الذين اكتشفوا أخيراً أن الولايات المتحدة لا تحمي أحداً، وأنها لا تهتم إلا بمصالحها حتى لو اضطر حلفاؤها للتضحية بكل شيء من أجلها.
إن من كان يعتقد عام 2003 أن الرئيس الأسد كان مخطئاً في قراره، عليه أن يتأكد أن إستراتيجية واشنطن الدائمة هي إغراء الخصم، ثم نزع عوامل القوة لديه وصولاً لإضعافه، وأخيراً الانقضاض عليه، ومن يرد البرهان فليقرأ تجربة العراق إذ تم غزوه واحتلاله بعد أن أنهك ودمر، أما أفغانستان فهي بلد فقير، ولا وجود لجيش قوي يدافع عن البلاد، وهكذا فإن واشنطن كانت تعمل منذ ذلك الوقت على نزع عوامل قوة سورية وتحالفاتها مع حركات المقاومة، والجمهورية الإسلامية الإيرانية بهدف الانقضاض عليها لاحقاً، ولن نستفيد فيما لو اعتقدنا أن التنازل كان سينجينا من مصير محتوم تأخر حتى عام 2011، وعندما يئسوا من إمكانية تغيير ما يسمونه «السلوك» السوري، تحولوا إلى مسار آخر وهو إسقاط النظام السياسي بالكامل، والمجيء بتركيبة أخرى كانت مستعدة لتلبية كل الشروط الأميركية، واقرؤوا هنا كل وثائق ما تسمى «معارضة سورية» لتجدوا أنها موالية لأميركا ومخططاتها، ولكن مع قليل من سكر وحلويات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان للخداع والتضليل وإخفاء الأهداف الحقيقية.
بعد مضي أكثر من ثمانية عشر عاماً، ومع استعادة روسيا مكانتها العالمية إثر الانخراط في دعم الدولة السورية لمكافحة الإرهاب المعولم في أيلول 2015، واضطرارها أخيراً للقيام بعملية عسكرية جراحية في أوكرانيا، نجد أن ما قاله الرئيس الأسد في عام 2003 يتكرر على لسان الكثير من الرؤساء والقادة في العالم، وحتى أولئك الذين كانوا حلفاء مخلصين للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي «الناتو»، وإليكم بعض المؤشرات:
– رئيس وزراء باكستان السيد عمران خان، زار موسكو مع بدء العملية العسكرية الروسية، والتقى الرئيس فلاديمير بوتين، وأعلن قبل أيام رداً على ضغط من سفراء الاتحاد الأوروبي الذين طالبوه بموقف داعم للناتو: «إننا لسنا عبيداً لكم! إذ دفعنا ثمانين ألف قتيل، وخسرنا 150 مليار دولار في أفغانستان من دون أن يشكرنا أحد»! وبالمناسبة فإن إسلام أباد كانت حليفاً تقليدياً للولايات المتحدة.
– تناقلت وسائل الإعلام الأميركية أخباراً عن أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد لم يردا على اتصالات هاتفية من الرئيس الأميركي جو بايدن، ولاحظوا أنهما لم يردا حتى على الاتصال الهاتفي منه! وبغض النظر عن الأسباب فإن هذا مؤشر مهم وجديد.
– رئيس الفلبين رودريغو دوتيرتي هاجم أكثر من مرة السياسة الأميركية، وضرب أمثلة على نتائجها الكارثية في العراق وأفغانستان وليبيا وسورية، وقال: إن العلاقة مع واشنطن لا تعني التبعية لها، وإن من حق بلاده أن تقيم علاقات مع قوى عالمية أخرى كروسيا والصين وغيرهما.
– واشنطن ترسل وفداً إلى كاراكاس للقاء الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو بهدف مساومته على الاعتراف به، ورفع العقوبات، وإنهاء أداتها زعيم المعارضة خوان غوايدو، مقابل النفط الفنزويلي، بهدف زيادة الإنتاج، وخفض الأسعار للإضرار بروسيا من ناحية، وتخفيف الأعباء عن المواطن الأميركي الذي سيتأثر حُكماً بسياسات بايدن المعادية لروسيا، وقراره بحظر استيراد النفط والغاز الروسيين، وحسب وسائل إعلام عديدة فإن الرئيس الفنزويلي رفض العرض الأميركي، على الرغم من واقع فنزويلا الاقتصادي الصعب جداً.
– امتناع 35 دولة عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد مشروع قرار أميركي يدين روسيا إثر عمليتها العسكرية في أوكرانيا، مؤشر آخر وجديد إذ إن تحليلاً بسيطاً لقائمة هذه الدول سنجد ضمنها: الصين، الهند، إيران، جنوب إفريقيا، الأرجنتين، باكستان، ودول من أميركا اللاتينية، وأكثر من تسع دول إفريقية، إضافة لذلك أن هناك 9 دول لم تحضر أبداً جلسة التصويت لكي لا تظهر موقفها ومنها إثيوبيا والمغرب وهما حليفتان للولايات المتحدة، وإذا كان البعض قد يرى أن الامتناع عن التصويت ليس مؤشراً على دعم روسيا فإنه أيضاً ليس مؤشراً على دعم الولايات المتحدة، فالعديد من هذه الدول لها أسبابها بالامتناع، بما في ذلك أنها تبحث عن مصالحها الوطنية أيضاً، كما تبحث أميركا وغيرها عن ذلك.
– إذا أضفنا إلى كل هذه المؤشرات موقف تركيا العضو في حلف الناتو، وبحثها عن مصالحها مع الروس والأوكرانيين والأميركيين والصينيين، وتأثرها باستمرار الحرب في أوكرانيا، وعدم قدرتها على الانحياز بالكامل لأميركا والناتو على الرغم من دورها المزدوج، فهي تجند المرتزقة وترسلهم لأوكرانيا، وتدين العملية العسكرية الروسية، لكنها لا تستطيع التضحية بمصالحها مع روسيا، إذ لا يوجد من يعوضها، كما أنها رأت مصير الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي أمام عينيها، والذي تُرك وحده مع دعم إعلامي ومرتزقة وخطابات غربية رنانة وعواطف جياشة، لا تمنع النهاية المحتومة للورطة التي أوقعوا بها أوكرانيا وشعبها بسبب حماقة زيلينسكي، وتبعيته المطلقة لواشنطن التي تبين أنها كانت تريد تحويل أوكرانيا إلى منطلق لحرب جرثومية، وحتى نووية ضد روسيا.
– ليس الأتراك فقط، ولكن حتى الأوروبيين الذين اندفعوا وراء الأنغلو ساكسون (لندن وواشنطن) بدؤوا يتراجعون خطوة بعد أن تبين لهم أن الولايات المتحدة لا تسأل عن مصير مواطنيهم، ولا الثمن الاقتصادي الباهظ لمثل هذه المواجهة، إنما عليهم التنفيذ فقط تحت عنوان «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» مع بوتين!
انطلاقاً من كل هذه المؤشرات هل يمكن القول إن العالم مازال على حاله، وإن واشنطن ما زالت تقاتل بالآخرين للحفاظ على مكانتها العالمية، ورفضها منطق المصالح المتبادلة، والشراكة في إدارة هذا العالم المعقد والمترابط، والذي يؤثر ويتأثر به الجميع!
بالطبع لا، العالم ما بعد أوكرانيا تغير كثيراً، وثبت على الأقل لكل مراقب موضوعي ما يلي:
* لم تعد الولايات المتحدة قوة أحادية تقرر وحدها مصير هذا العالم، فهناك قوى أخرى أصبحت تشكل بدائل وخيارات للكثير من دول العالم.
* لا أحد يريد إنهاء العولمة كظاهرة، ولا أعتقد أنه في ظل التشابك بين الدول والشعوب، والحضارات نتيجة ثورة الاتصالات والمعلومات أنه بالإمكان العودة للوراء، ولكن الصراع هو بين عولمة أميركية تريدك أن تأكل وتشرب وتلبس وتعتقد بما تريده واشنطن، وعلى مقاسها ومصالحها، وبين عولمة تحترم الخصوصيات الثقافية والحضارية والسياسية لكل بلد وأمة وشعب، وهنا المشكلة بين أميركا وخصومها الآخرين!
* أميركا قوة عظمى، ولديها نقاط قوة عديدة، ولكن أيضاً لديها نقاط ضعف داخلية كثيرة، واستمرارها بمنطق «الاستثنائية» والتعالي والعجرفة والأنانية، من دون الأخذ بالاعتبار مصالح الآخرين واحترامها، سوف يؤدي إلى تعالي الأصوات الرافضة أكثر.
* إن زمن الأحادية القطبية قد انتهى، والعالم يتغير بسرعة، وتوقيع موسكو وبكين في بداية الألعاب الأولمبية الشتوية في الصين كان إيذاناً بدق آخر مسمار في نعش الأحادية، أما ما يجري في أوكرانيا فهو الحسم الميداني بالقوة لهذه المرحلة التاريخية، وإنتاج مرحلة جديدة لا يمكن التنبؤ بمعالمها النهائية، لكننا أمام لحظة تاريخية لتغير كبير في العالم لن يكون بلا ثمن أو آلام، وهنا تذكروا أن الرئيس الأسد كان الأكثر جرأة واستشرافاً لهذه اللحظة التاريخية.
فعلاً ما بعد أوكرانيا العالم بدأ يتغير.