لهذه الأسباب أرسل الجيش نخبة قوّاته إلى عرسال…
منذ اللحظة الأولى لقيام المجموعات الإرهابية بتنفيذ أول الإعتداءات على مراكز الجيش اللبناني في عرسال ومحيطها منذ بضعة أيّام، سارعت قيادة الجيش إلى إرسال نخبة وحداتها القتاليّة من أفواج المجوقل والمغاوير والتدخّل الثاني مدعومة بوحدات من الألوية الثامن والسادس والخامس والكتيبة 85 مدفعيّة وغيرها إلى أرض المعركة. وتعاملت مع الوضع المُستجدّ بجدّية تامة وبحزم كامل، مقدّمة ضريبة دم مرتفعة جداً خلال العمليّة التي أطلقت عليها تسمية “السيف المُسلط”. وأبرز أسباب التحرّك الحاسم والسريع للجيش تُختصر كالتالي:
أوّلاً: العمل على إستعادة كل المراكز والمواقع العسكرية التي كان مئات الإرهابيّين قد غدروا الوحدات الأمنيّة فيها، وكذلك العمل على الإفراج عن كل جنود الجيش اللبناني وعناصر القوى الأمنية الأخرى الذين وقعوا في قبضة المسلّحين، وذلك بهدف منع ضرب هيبة الجيش وقدرته على فرض الأمن، ولعدم الظهور بمظهر الضعيف أو المتردّد، وذلك أيّا كان الثمن.
ثانياً: العمل على إخراج المسلّحين من داخل بلدة عرسال اللبنانيّة إلى خارج الحدود، لحماية أهلها بالدرجة الأولى من الإرتكابات الإرهابيّة والمَزاجيّة، ولمنع تعميم أجواء الخوف والرعب من هذه المجموعات المتشدّدة على بلدات لبنانيّة حدوديّة أخرى.
ثالثاً: العمل على منع إيجاد موطئ قدم آمن لمجموعات إرهابيّة داخل لبنان، بشكل قد يُشجّع خلايا نائمة من الإسلاميّين المتشدّدين على التحرّك في أماكن أخرى، قد تكون في مخيّمات النازحين السوريّين في منطقة عرسال، أو في مخيّم “عين الحلوة” في الجنوب، أو في طرابلس في الشمال، أو في مناطق عكارية حدوديّة أو حتى في قلب العاصمة بيروت وغيرها، الأمر الذي قد يؤدّي في حال حصوله إلى تشتيت تركيز قوى الجيش وإلى تعميم الفوضى في أكثر من مكان.
رابعاً: العمل على منع حصول مواجهات بخلفيّات مذهبيّة بين بلدة عرسال والقرى والبلدات المحيطة بها، في حال عدم مواجهة سيطرة المجموعات الإرهابية عليها، ما قد يُمهّد الطريق أمام قيام هذه المجموعات باعتداءات محتملة على المناطق المحيطة، الأمر الذي سيستجلب بدوره ردّ فعل من العشائر المسلّحة في المنطقة، إن لم يكن من القوى الحزبيّة فيها.
خامساً: العمل على منع تعميم ثقافة الأمن الذاتي وفلتان السلاح في الداخل اللبناني، لأنّ الكثير من القوى تُعوّل على حماية الجيش اللبناني والقوى الشرعية، وترفض أن تكون حمايتها من قبل مُقاتلي “حزب الله”، ما سيفتح الباب أمام دعوات التسلّح والحماية الذاية ضدّ إرهابيّي “داعش” ومن لفّ لفيفهم.
إذاً، إنطلاقاً ممّا تقدم يعمل الجيش اللبناني برويّة ولكن بحزم لإستعادة زمام المبادرة، غير آبه لا بالتشكيك بدوره الوسطي من قبل البعض، ولا بالحملات التي تتهم قائده بمحاولة تسويق نفسه رئيساً من قبل البعض الآخر. كما أنّ الجيش يعمل وفق أهداف ميدانية واضحة ومحدّدة، بعيداً عن المُهاترات السياسية الداخلية التي تُحمّل “حزب الله” عبر تدخّله العسكري في سوريا، مسؤولية إستجلاب الإرهابيّين إلى لبنان والفشل في إبعاد خطرهم عن الداخل اللبناني من جهة، وتلك التي تلوم جهات داخلية بتوفير بيئة آمنة للإرهابيّين عبر التشكيك بدور الجيش وعبر تسعير الخطاب المذهبي والتحريضي من جهة أخرى. لكن من الضروري الإشارة إلى أنّ معركة عرسال تختلف جوهرياً عن معركة نهر البارد(*)، بعكس ما قد يظنّ الكثيرون. ففي نهر البارد كان نحو ثلاثمئة من إرهابيّي “فتح الإسلام” إضافة إلى عدد مماثل من مسلّحي منظّمات أخرى محاصرين في موقع جغرافي تبلغ مساحته نحو كيلومترين مربّعين فقط لا غير، بينما في منطقة عرسال والهضاب المحيطة بها تبلغ المساحة الإجماليّة نحو 316 كلم. مربّع أي نحو 5 % من مساحة لبنان، وعدد الإرهابيّين المُنتشرين في هذه البقعة الجغرافية الواسعة يُقدّر بالآلاف وليس بالمئات. كما أنّهم ليسوا محاصرين، حيث يستطيعون التحرّك في مناطق شاسعة عبر سلسلة جبال لبنان الشرقيّة وصولاً إلى الداخل السوري. وإذا كان مسلّحو نهر البارد قد تحصّنوا في بعض الأنفاق، فإنّ مسلّحي عرسال والمحيط يحتمون في المغاور وفي التلال ذات الطبيعة الجغرافية الصعبة، حيث لا تستطيع الآليات العسكرية التقدّم وحيث يصعب كشفهم من الجوّ. أكثر من ذلك، إنّ وصول الإمدادات اللوجستيّة الضرورية لوحدات الجيش المقاتلة في عرسال صعب ويستغرق فترات زمنيّة طويلة. وبالتالي، إنّ سماح الجيش اللبناني بحركة سياسيّة موازية لعمليّاته الميدانيّة ليس من باب الضعف أو التردّد، بل حقناً لضريبة الدماء التي يُمكن أن يتمّ دفعها إن من قبل عناصر الجيش أو من قبل المدنيّين في حال طال أمد المعارك. وهَمّ قيادة الجيش يتمثّل في تحقيق النتائج المرجوّة وأبرزها يتمثّل بإستعادة السيطرة على عرسال وبخروج المسلّحين منها وبإطلاق كل الأسرى.
وفي الختام، قد يكون الأفضل الإنحناء إجلالاً أمام شهادة كل ضابط وجندي سقط دفاعاً عن لبنان، مع كل التقدير لآلام عائلات هؤلاء الشهداء، ولدماء العسكريّين الجرحى، ولتضحيات كل فرد في المؤسّسة العسكريّة، مع الحق في التساؤل لماذا على الجيش اللبناني أن يدفع ضريبة دمويّة باهظة لمعركة ليست بمعركته لم تنجح القوى المتورّطة فيها، في إنهائها بالشكل اللازم، ما أدّى إلى هروب كل المسلّحين المعارضين من الداخل السوري إلى الداخل اللبناني؟!
ناجي س. البستاني – موقع النشرة الإخباري