لمواجهة الحصار والضّغوط الإقتصاديّة: سوريا وإستثمارات ما بعد الحرب
موقع قناة الميادين-
زياد غصن:
لا يبدو أنَّ اختيار القطاعات والمشروعات الاستثمارية سيكون في المرحلة القادمة في يد المستثمرين دوماً، إذ إنّ منطق الأمور يفرض أن تراجع الحكومة السورية سياستها.
كان لافتاً أن تدشّن الاستثمارات الإماراتية عودتها “الخجولة” إلى السوق السورية بمشروع لإنتاج الطاقة الكهروضوئية، وهي التي كانت تركّز اهتمامها طيلة سنوات ما قبل الحرب السورية على قطاعات ريعيّة غير إنتاجيّة، كالعقارات والسّياحة، وهذا كان حال معظم الاستثمارات الخليجية في سوريا، التي لا يزال جزء منها من دون تنفيذ، رغم مرور أكثر من عقدين على إعلانها، مثل مشروع الفطيم في منطقة الصبورة في ريف دمشق.
لا يبدو أنَّ اختيار القطاعات والمشروعات الاستثمارية سيكون في المرحلة القادمة في يد المستثمرين دوماً، إذ إنّ منطق الأمور يفرض أن تراجع الحكومة السورية سياستها في مجال الاستثمار، لتحديد أولوياتها تبعاً للتحديات التي أفرزتها سنوات الحرب من ناحية، وماهية الاحتياجات التنموية المحلية من ناحية أخرى.
نظرياً، هذا ما حاولت الحكومة أن تقوله عبر قانون الاستثمار الجديد الصادر مؤخراً، والذي يشكل أداة التدخل الأساسية في توجيه جزء مهم من الاستثمارات المحلية والأجنبية إلى حيث تريد البلاد. أما نتائج ذلك عملياً، فستبقى رهناً بالإجراءات التنفيذية الفعلية المشجعة على الاستثمار وفقاً للأولويات التنموية المطروحة.
نحو القطاعات السريعة العائدية!
حتى نهاية العام 2006، كانت مشروعات النقل لا تزال تستحوذ على العدد الأكبر من المشروعات المشمولة بقانون الاستثمار منذ إصداره في العام 1991، لكن بدءاً من العام 2007 أخذت المشروعات الاستثمارية المشمولة بالقطاع الصناعي تزداد تدريجياً على حساب مشروعات النقل، في حين بقيت مشروعات القطاع الزراعي خارج المنافسة، ولكن ذلك لم يكن ليغير نتيجة الحصيلة النهائية للمشروعات الاستثمارية المشمولة خلال الفترة الممتدة من العام 1991، تاريخ صدور أول قانون للاستثمار في البلاد، ولغاية العام 2009، إذ شكّلت مشروعات النقل ما نسبته 50.9% من إجمالي عدد المشروعات، مقابل 42.2% لمشروعات الصناعة. أما مشاريع الزراعة، فإنَّ نسبتها لم تتجاوز 5.5%.
يأتي ذلك في وقت كانت الاستثمارات المحلية والأجنبية المشمولة بقوانين أخرى تسجل زيادة واضحة في قطاعات السياحة والعقارات والخدمات المالية، كالمصارف والتأمين. مثلاً، بلغ عدد المشروعات السياحية الموضوعة في الخدمة أو قيد الإنشاء خلال الفترة الممتدة من العام 2016 ولغاية العام 2019، حوالى 503 مشروعات، بمعدل نمو سنوي وسطي قدره 21%.
ورغم أنَّ المشروعات الاستثمارية الكبرى في قطاع العقارات لم يكن عددها يتجاوز 3 مجمعات عقارية، فإنّ تكاليفها الاستثمارية كانت تتجاوز تقريباً تكاليف جميع المشروعات المشمولة بقانون الاستثمار خلال المدة المشار إليها سابقاً، وهي واحدة من الانتقادات التي وُجهت إلى السياسات الاقتصادية المتبعة آنذاك.
ومع دخول البلاد مرحلة الحرب، كان جلّ الاهتمام الرسمي يتركّز على استقطاب ما يمكن من استثمارات، بغض النظر عن قطاعاتها، ولا سيَّما أنَّ السنوات الأولى من عمر الحرب شهدت تراجعاً كبيراً في عدد الاستثمارات العربية والأجنبية الراغبة في دخول السوق السورية وخروج رؤوس أموال محلية كثيرة إلى دول مجاورة، إضافةً إلى ما لحق بالمشروعات الاستثمارية المنفذة سابقاً من أضرار جراء المعارك العسكرية والاعتداءات التي تعرضت لها المنشآت والبنى التحتية الخاصة بتلك المشروعات.
لكن حالة عدم الاستقرار الأمني التي ميزت السنوات الخمس الأولى من عمر الحرب حالت أيضاً دون تنفيذ مشروعات استثمارية. مثلاً، خلال السنوات الثلاث الممتدة من العام 2015 ولغاية العام 2017، منحت هيئة الاستثمار السورية أكثر من 20 مشروعاً استثمارياً في مجال النقل موافقتها. ورغم حاجة البلاد الماسة لهذه المشروعات، فإنَّ أصحابها فضَّلوا التريث في تنفيذها إلى أن تتحسَّن الأوضاع الأمنية، وهو أمر تكرر تقريباً في جميع القطاعات بنسب متباينة.
وبدءاً من العام 2018، الَّذي شهد عودة مؤسَّسات الدولة الرسمية إلى مناطق عديدة حررتها وحدات الجيش السوري، سعت البلاد لمحاولة إعادة تدوير عجلة الإنتاج لتأمين الاحتياجات الأساسية للسكان وتحسين مستوى الخدمات، وخصوصاً أنَّ عملية تحرير مناطق واسعة حملت معها أيضاً مسؤوليات كبيرة تمثّلت بتأهيل وإصلاح البنى التحتية والمرافق الخدماتية، وتوفير ما يحتاجه السكان في تلك المناطق.
وبحسب بيانات هيئة الاستثمار السوريّة، فإنَّ عدد المشروعات الاستثمارية المستقطبة في العام 2019 بموجب مرسوم تشجيع الاستثمار وصل إلى حوالى 121 مشروعاً بكلفة استثمارية تقديرية تبلغ حوالى 193 مليار ليرة، وبنسبة زيادة قدرها 11% و65.7%، مقارنة مع العامين 2018 و2017 على التوالي.
وتضيف البيانات أنَّ مشروعات الصناعات التحويلية والاستخراجية شكَّلت ما نسبتها 73.7% من إجمالي التكاليف التقديرية للمشروعات المستقطبة. وأبدت مؤشرات تنفيذ المشروعات في العام 2019 تحسناً ملحوظاً مقارنة بالسنوات السابقة، إذ بلغ عدد المشروعات المنفذة 15 مشروعاً، أي ما نسبته 12.3% من إجمالي عدد المشروعات المستقطبة. وكان من بين المشروعات المنفّذة 6 مشروعات في مجال الصناعات الغذائية، و5 مشروعات لتوليد الكهرباء باستخدام الطاقات المتجددة، ومشروع واحد في قطاع الصناعات الدوائية.
هواجس تنموية كثيرة!
كان لتراجع الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في البلاد، بدءاً من مطلع العام 2020، دور في تسريع الحكومة السورية خطواتها الرامية إلى تحسين بيئة الاستثمار، وتالياً تحريك عجلة الإنتاج التي تضررت جراء زيادة معدل التضخم إلى مستويات غير مسبوقة، وما تسبّب به ذلك من تراجع في معدل القوة الشرائية والاستهلاك الخاص والعام، فكان أن قدَّمت الحكومة تعديلاً جديداً على مرسوم تشجيع الاستثمار، صدر لاحقاً على هيئة قانون حمل الرقم 18 للعام 2021، وتضمَّن منح تسهيلات ومزايا عديدة، أيَّدها البعض، وعارضها البعض الآخر، فضلاً عن التوجه إلى إعداد خريطة جديدة للفرص الاستثمارية المتاحة في جميع المحافظات الخاضعة لسيطرة الحكومة.
وقد استندت عملية إعداد تلك الخريطة إلى هاجسين أساسيين؛ الأوّل هو محاولة إنجاح مشروع إحلال بدائل المستوردات الذي جرى العمل به في العام 2019، وغايته استبدال بعض المستوردات بإنتاج محلي بهدف التخفيف من فاتورة الاستيراد، والتغلّب على عوائق الاستيراد التي يفرضها الحصار الغربي.
والهاجس الثاني تحقيق فائض إنتاج ليصار إلى تصديره، وزيادة كميات القطع الأجنبي الداخلة إلى البلاد. وتظهر بيانات هيئة الاستثمار للعام 2021، المتعلقة بالمشروعات الحاصلة على إجازة استثمار وفقاً للقانون الجديد، التوجهات الاستثمارية الجديدة التي ستكون موضع اهتمام البلاد خلال الفترة القادمة، إذ إنَّ المشروعات المصنّفة كنشاط صناعي بلغ عددها 7 مشروعات من بين 10 مشروعات منحت إجازة استثمار، بل إنَّ نوعية المشروعات الصناعية تضيف تأكيداً آخر على هذه التوجّهات. مثلاً، كان هناك مشروع لصناعة الأدوية السرطانية، وآخر لإنتاج المواد الكيميائية الداعمة للتبريد وإنتاج الحبيبات البلاستيكية للمنتجات البلاستيكية والملوّنات، وثالث لصناعة أثاث المختبرات التعليمية والطبية والبحثية، فيما المشروعات الثلاثة المتبقية في قائمة المشروعات الحاصلة على إجازة استثمار كانت عبارة عن مشروعات طاقة متجددة.
لكنَّ التوجهات الاستثمارية الجديدة المشار إليها دونها صعوبات عدة، أبرزها:
– العقوبات الغربية، وتحديداً الأميركية، التي تستهدف قطاعات أساسية تعتبرها دمشق في المرحلة القادمة أولوية، كقطاع الطاقة والبناء، ما من شأنه الحدّ من حجم الاستثمارات المراد توظيفها في مثل هذه القطاعات، إضافةً إلى استمرار عرقلة دخول استثمارات عربية وأجنبية إلى سوريا بالحجم المنتظر.
وللإشارة، إنّ المشروع الإماراتي الذي تمَّ الإعلان عنه مؤخراً لا يشكّل دليلاً على تساهل أميركي في موضوع العقوبات على سوريا أو قرب حدوث انفتاح اقتصادي عربي أوسع.
– التضخّم المستمر منذ قرابة عامين نتيجة أسباب داخليّة وخارجيّة. هذا التضخّم بات يشكّل، كما هو الحال في لبنان، عائقاً أمام المستثمرين الذين لن يكون أمامهم سوى الانتظار إلى أن تتحسّن الأوضاع الاقتصادية أو المغامرة لأسباب عديدة.
– بعض السياسات الاقتصادية الداخلية التي يبدو أنَّها بحاجة إلى مراجعة شاملة، لتكون متوافقة ومنسجمة مع ما نصّ عليه قانون الاستثمار الجديد من تسهيلات ومزايا، وخصوصاً أنَّ التعويل سيكون في الأيام المقبلة على المستثمر السوري المقيم في البلاد أو خارجها.
– وضوح الاحتياجات على المستوى الوطني يقابله قصور على المستوى المناطقي والإقليمي في مؤشرات كثيرة يحتاج المستثمر إلى البناء عليها، واتخاذ القرار الاستثماري المناسب له. وتزداد هذه المشكلة غموضاً وصعوبةً في المناطق أو المحافظات التي كانت مسرحاً للمعارك العسكرية أو تلك التي كانت مقصداً للأسر النازحة عن منازلها ومدنها.