لعنة الخراب الثالث تلاحق «إسرائيل»: هل يحقق اليهود ما عجز العرب عن تحقيقه؟
جريدة البناء اللبنانية-
د. علي أكرم زعيتر:
يشهد الكيان الصهيوني حاليّاً أزمة غير مسبوقة، عبَّر عنها أحد قادته الفاعلين بالقول: «لم تشهد إسرائيل مثيلاً لها منذ حرب 1967.
تظاهرات تعمّ الشوارع، وأعداد بالملايين تحتشد أمام المقرات الحكومية، ومحاولات دائبة من المتظاهرين لقطع الطريق على الوزراء، ومنعهم من الوصول إلى مقارهم الوزارية، فضلاً عن محاولات مستميتة للوصول إلى عائلة نتنياهو والتعرّض لأفرادها بالأذى.
الحديث يدور حاليّاً، حول إمكانية بقاء الكيان من عدمه، وما إذا كانت لديه القدرة على تجاوز الأزمة، أم أنّ لعنة الخراب الثالث ستتحقق بأيدي اليهود أنفسهم، وما إذا كانوا هم أنفسهم سيحققون ما عجز العرب عن تحقيقه.
إنّ من يتابع الصحافة العالمية يكاد يجمع أمره على رأي واحد، وهو أنّ الأزمة التي تعصف بالكيان الصهيوني حاليّاً، لن تمرّ مرور الكرام، وهي إنْ لم تودِ بالكيان، فعلى الأرجح أن تترك تصدُّعاً في بنية «المجتمع الإسرائيلي» لن يُرتَق قريباً، فما حقيقة الموقف؟ وإلامَ سيؤول الحال هناك؟ هل سيصدُق حدسُ البعض حول زوال الكيان الصهيوني قريباً؟ وماذا بخصوص النبوءات الدينية اليهودية والإسلامية؟
في البداءة، دعونا نوضح أمراً. ما من أحد قادر على تحديد موعد زوال الكيان الصهيوني. معظم التحليلات التي نسمعها، تكاد لا تخرج عن احتمالين: إما استنتاجات مبنية على روايات ونصوص دينية، وإما تكهّنات وتخمينات مبنية على استقراء سياسي غير دقيق.
حتى علماء الدين المسلمون الذين أشاروا إلى قرب زوال الكيان الصهيوني، لم يسبق لأحدهم أن حدّد تاريخاً معيناً. فالغيب وفق المنطوق الإسلامي، لا يعلمه إلا الله، وإنْ كان لا بدّ لله أن يطلع أحداً من خاصة أوليائه، فلا غرو من أنّ هؤلاء الخواص لن يدلوا بشيء، عملاً بالقاعدة الفلسفية التي تقول: ليس كلّ ما يُعرف يُقال. وعملاً الإمام بقول الإمام السادس عند المسلمين الشيعة: «كذب الوقَّاتون».
فإذاً، لا الزمانيون بمقدورهم تحديد موعد دقيق لسقوط مملكة يهوذا والسامرة (الاسم التوراتي للكيان الصهيوني)، ولا الروحانيون بوسعهم أن يوقعوا أنفسهم في مزالق من هذا النوع. فما العمل إذاً؟! أما من طريقة معينة لمعرفة مصير الكيان الصهيوني على المدى المنظور؟
سنجيب على هذا السؤال، بشقين… شقّ سياسي، وشق ديني.
أ ـ دينيّاً، كثرت النبوءات اليهودية والإسلامية التي تتحدث عن قرب زوال الكيان الصهيوني، ولعلّ أشهرها على المقلب اليهودي النبوءة التي تتحدث عن الخراب الثالث، والتي يستشفّ منها أنّ عمر الكيان لن يتجاوز الـ 76 أو 77 سنة كأبعد تقدير.
والمقصود بالخراب الثالث، هو خراب الهيكل للمرة الثالثة، أو خراب (مملكة إسرائيل) للمرة الثالثة، بعدما خربت قبل ذلك مرتين، مرة عام 597 ق.م على يد نبوخذ نصَّر، ومرة في القرن الأول للميلاد على يد الرومان.
وبالرغم من كَثرة النبوءات التي تتحدث في هذا الصدد إلا أنّ أحداً منا لا يستطيع الجزم حول هذا الأمر.
بالنسبة لنا كمسلمين، هناك أمر واحد يمكننا الجزم حوله، وهو أنّ الصهاينة عاجلاً أم آجلاً سيدمّرون كيانهم، إنْ لم يكن بأيدي أعدائهم فبأيديهم، كما عبَّر النص القرآني (يُخْرِبون بيوتهم بأيديهم)، ولكن هل من الصواب إسقاط هذا النص المقدس على ما يجري حاليّاً داخل الكيان؟
بكلمة واحدة، نقول: لا، لا يصحّ ذلك، فإسقاط النصوص المقدسة على قضايا من هذا النوع دونه محاذير جمَّة، لا نود الوقوع فيها.
تفيد الآية الكريمة أعلاه، بأنّ المجتمعات اليهودية تمتلك آليات خاصة للتدمير الذاتي، بمقدورها أن تحيل كلّ هياكل اليهود ودولهم وممالكهم خراباً، والتاريخ زاخر بالمحطات التي تثبت صحة هذا الكلام.
فمن يراجع تفاصيل الخراب الأول والخراب الثاني يكتشف سريعاً، أنّ هجوم البابليين بقيادة نبوخذ نَصَّر، سبقه انقسام داخلي يهودي كبير، مهد للهجوم وأمّن له مستلزمات النصر والتمكين. والأمر ذاته بالنسبة للخراب الثاني، فقد سبقه صراع داخلي كبير، نشب بين بعض الفئات اليهودية الأصولية، وأخرى أقلّ تشدّداً، ما يسَّر للجيش الروماني بسط سيطرته بسرعة قياسية على أورشليم (القدس).
فإذاً، لعلّ الآية القرآنية الكريمة جاءت في سياق تأكيد هذه الحقيقة ليس إلا.
ب ـ سياسيّاً، بخلاف ما ذهب إليه كثيرون من المحللين اللبنانيين والعرب، فإننا نعتقد جازمين بأنّ النظام الذي يدير دفة الحكم في تل أبيب حاليّاً، قادر بما يمتلكه من ديناميكية مفرطة، على تجاوز الأزمة الراهنة بأقلّ خسائر ممكنة.
والحقيقة، أنّ الديناميكية المفرطة هذه، هي سمة رئيسية من سمات الأنظمة الليبرالية، فهذا النوع من الأنظمة مهما بلغت به الظروف من سوء، قادر على امتصاص النقمات الشعبية، وعلى إعادة لملمة الصفوف.
وقد شهدنا نماذج كثيرة من ذلك، سواء في فرنسا، عقب التظاهرات المليونية التي نظمها أصحاب السترات الصفراء، والتي أوهمت كثيرين حول العالم، بأنّ الفرنسيين على وشك أن يأكلوا بعضهم البعض.
أو حتى في الولايات المتحدة التي شهدت، إبان فترة حكم ترامب، العديد من الخضات الشعبية، كان أبرزها الخضة التي أعقبت مقتل جورج فلويد، وتلك التي تزامنت مع انتهاء ولاية ترامب. حيث استطاع النظام الليبرالي الحاكم في الولايات المتحدة أن يخرج من عنق الزجاجة، وأن يعيد ترتيب الأولويات داخل البيت الأميركي، بالرغم من السجال العنيف الذي تسبّب به ترامب عندما عزف عن التسليم بنتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
وقتها، خُيِّل للكثير من المحللين والكتاب العرب، ومعهم شريحة واسعة من المحللين الغربيين أنّ الانقسام الحاصل في الولايات المتحدة ما بين الديمقراطيين بقيادة جو بايدن والجمهوريين بقيادة ترامب، سوف يقضي على آخر آمال الدولة العميقة في لملمة شَعَثِ الأميركيين، ولكن ما حدث لاحقاً أثبت بما لا يدع مجالاً للشك، أنّ (الديمقراطية الأميركية) قد أكسبت على مدى عقود، الجسم الأميركي مناعة ذاتية لافتة.
فالأميركيون مهما شجر بينهم من اختلافات، يبقى هناك سقف معيّن يعمل الجميع تحته، هو أشبه ما يكون بضابط إيقاع ينظم تلك الاختلافات. هذا السقف يمكن أن نختصره في ثلاث نِقاط:
1 ـ سيادة القانون.
2 ـ احترام المؤسسات.
3 ـ التسليم بمبدأ تداول السلطة.
خلال الأيام القليلة الماضية، خرج الكثير من المحللين على وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعية، ليخبرونا بأنّ ما يجري داخل الكيان اليوم، هو أشبه ما يكون بـ «ربيع عبري»، وقد استلهم هؤلاء تشبيههم ذا ــ كما هو واضح ــ من موجة الربيع العربي التي اجتاحت عدداً من البلدان العربية قبل نحو 12 سنة. ولكن على ما يبدو فقد تسرّع هؤلاء بعض الشيء، أو لعلّ الحماسة المفرطة أخذت مأخذها منهم، فالمقارنة بين الربيع العربي وما أسموه الربيع العبري خطأ فادح لا يقع فيه إلا المراهقون في مجال التحليل السياسي.
الحال في الوطن العربي، لا يشبه أيّ حال آخر في العالم. الأنظمة العربية الحاكمة، بمجملها أنظمة شمولية، تقوم على مبدأ حكم الفرد، ولا وجود لفكرة تداول السلطة في قواميسها، لذا نقول: من الأخطاء الجسيمة التي وقع فيها أولئك المحللون، هو انقيادهم خلف المقارنة بين واقع الكيان العبري، وواقع الكيانات العربية.
الفرق كبير، ولا يمكن التعامي عنه. في الوطن العربي، إذا تجرأت بعض الفئات الشعبية المكبوتة على رفع الصوت، فهذا إيذان مبكر، بقرب انهيار النظام الحاكم، لأنّ القاعدة السياسية الأولى في الوطن العربي، تقول: حيث لا صوت يعلو، لا قمع والعكس صحيح. أما في الكيان العبري والدول المماثلة له بنظامها السياسي، فإنّ إمكانية الثورة على الحاكم قائمة في كلّ لحظة، وهي في حال حدثت، لن تكسر أيّ محظور، ولن تتجاوز أيّ محرمات، ولن تنال من قدس الأقداس.
في الكيان العبري والدول الليبرالية المشابهة له، لن يهتز عرش الملك إذا عمّت الاحتجاجات الشوارع. أما في البلدان العربية والدول المشابهة لها، فبمجرّد أن يجرؤ الناس على الاعتراض، فهذا يعني أنّ البلاد مقبلة على فوضى وخراب، على اعتبار أنّ كلّ مؤسسات الدولة متعلقة بشخص الحاكم، فإذا استقرّ استقرّت، وإذا ارتعد ارتعدت.
لماذا نذهب بعيداً في ضرب الأمثال! إليكم لبنان على سبيل المثال، وهو بلد ليبرالي نوعاً ما، أو على نحو أدقّ، بلد هجين يجمع ما بين الليبرالية والثيولوجية، ألم يخرج اللبنانيون بقضهم وقضيضهم قبل أعوام؟ ألم يطالبوا بتغيير نظام الحكم؟ ما كانت النتيجة؟!
لا شيء يذكر! لم يحدث أيّ شيء! لا وحدة الكيان اللبناني أصيبت في مقتل، ولا أطيح بالنظام الحاكم! كلّ ما هنالك، أنّ ثلاثة رؤساء حكومة تعاقبوا على وقع الاحتجاجات! تخيّل لو أنّ الاحتجاجات التي شهدتها بيروت وقتذاك، شهدتها القاهرة أو الرباط أو الرياض! هل كانت الأمور لتسير بالوتيرة نفسها؟!
بالطبع لا، ففي لبنان حيث يسمح النظام القائم بالتعددية الحزبية وبالتظاهر السلمي وبالنقد السياسي، بمقدور الديناميكية السياسية المتولدة عن هذه المفاهيم الثلاثة أن تتلقى الصدمات وتمنع حدوث سيناريو مماثل لما جرى إبان الربيع العربي، والأمر ذاته بالنسبة للكيان العبري.
لذا نقول، ولعلها تكون الخاتمة، إنّ الحديث عن ربيع عبري، حديث ممجوج ولا معنى له. والتعويل على تصدّع الجبهة الداخلية «الإسرائيلية» ما زال مبكراً. وانتظار سقوط (إسرائيل) من الداخل مضيعة للوقت. الأمر الوحيد الذي يمكن التعويل عليه هو الحرب الخارجية، وإنْ كنا لا ننكر دور المشاكل الداخلية في تسريع الحسم وتوفير فرص أكبر لإنزال الضربات القاصمة بالعدو.
إنّ »إسرائيل« وإنْ كانت التنبّوءات الدينية تجمع على قرب زوالها، إلا أنّ الاعتماد على ما يجري في الداخل فحسب، ضرب من ضروب الخبل السياسي. لا بدّ من أن يتزامن الاضطراب الداخلي مع تحرك عسكري خارجي. نأمل أن تتلقف قيادة محور المقاومة ذلك، وأن تبادر إلى ضربة استفزازية تربك العدو، وترغمه على خوض غمار معركة، لا شك أنه سيكون الخاسر الأكبر فيها، تحت وقع ما يشهده من احتجاجات شعبية ضخمة.
للوهلة الأولى، قد يظنّ البعض، أنّ أيّ تحرك عسكري خارجي من قبل محور المقاومة سيعيد خلط الأوراق في الداخل الإسرائيلي، ما يخلق حالاً من الالتفاف حول الحكومة الإسرائيلية الحالية ممثلةً بشخص نتنياهو. لكن المنطق الاستقرائي السليم، يقول: حتى وإنْ حدث ذلك، فإنّ شيئاً لن يتغيّر. الصهاينة هم الصهاينة سواء كانوا متفقين أو مختلفين. وإذا كان لا بدّ من التعويل على شيء داخلي، فلا شيء يمكن التعويل عليه إلا الجوع! أي نعم، إذا لم يشعر الإسرائيليون بالجوع، وإذا لم يفقدوا شيئاً من امتيازاتهم، أو على نحو أدق، إذا لم تغدُ رفاهية المستوطن الصهيوني على المحك، فإنّ شيئاً لن يتغيّر.
الهاجس الوحيد الذي يشغل بال المواطن الأميركي والغربي، ويمكن أن يدفعه نحو التآكل الذاتي، هو نفسه الذي يشغل بال المستوطن الإسرائيلي، فلا يراهنن أحد على سراب.