لا مع بني أمية.. ولا مع الخوارج
صحيفة الشروق المصرية ـ
وليد فكري:
– الكوفة- سنة 40 هـ.
“استقيموا يرحمكم الله.. ساووا صفوفكم وسدّوا بين مناكبكم.. الله أكبر”
“الحكم لله يا عليّ! لا لك ولا لأبيك!”
قبل أن يستنكر ذلك اللغو في الصلاة كانت الدنيا ترتجُ والرؤية تهتز ووهن غريب يغزو جسده.. شعر بلحيته يغمرها البلل، مد أصابعه إليها فعادت مختضبة بالدماء.. تتبع خيط الدم بأنامله صعودًا حتى غار طرف الإصبع في شق عميق بأعلى الرأس.. كان هذا آخر ما جادت به عليه قواه الخائرة فلم يشعر إلا وسقف المسجد يدور أمام بصره وأذرع المصلّين تتلقفه.. شذرات من ذكريات تومض في بقايا وعيه.. “ما الحكم إلا لله!” شعار الخوارج.. لطالما صرخوا بها في وجهه وهو يخطب في المسجد فلا يزيد على أن يجيبهم “قول حقٍ يُراد به باطل”.. تعهد لهم ألا يطاردهم ولا يمنع عنهم عطاءهم من بيت المال ولا يمنعهم من دخول المساجد، فما أمهلوه حتى قتلوا عبدالله بن خباب وامرأته الحبلى.. كظم غضبه وسألهم أن يسلموا قاتله فأجابوا بعناد “كلنا قاتله”.. تذكر موقعته معهم عند النهروان وقتله إياهم.. أصحابه يهنئونه بالنصر وهو يشرد ببصره مستطلعًا المستقبل ثم يقول “كلا.. بل هم في أصلاب الرجال وأرحام النساء”..
***
المدينة المنوّرة – سنة 63 هـ
لولا أنها مدينة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لقال الناس إن بابًا للجحيم قد انفتح بها.. جنود يزيد ينتهكون الأرض المقدسة والأنفس الأعظم قدسية.. أرسلهم يخمدون ثورة أهل المدينة على واليه، وأراد أن يجعلهم عبرة، فجعل على رأس الجيش ذلك المجرم مسلم بن عقبة المُرّي، والمعروف ببغضه لقريش.. مذبحة مريعة عرفها التاريخ باسم “وقعة الحرة” (الحرة هي الصخور السوداء خارج المدينة).. الأرض تفور بالدماء، ولم تسترد بعد روعها من مذبحة الحسين بن علي-عليهما السلام- وآل بيته في كربلاء منذ عامين.. جيش من ستة آلاف شيطان مريد هتكوا حرمة المدينة فصالوا وجالوا في الدماء والأعراض حتى رأوا نظرة الرضا في عين قائدهم الذي قال لهم إن كفّوا حتى تبقى بنا قوة فنعرج على مكة ونذيق عبدالله بن الزبير ومن معه نفس الكأس جزاءً لتمرده على الخليفة.. غادروا مهجر رسول الله وصحابته، متوجهين إلى مكة.. وفي الطريق يدرك الموت مسلم بن عقبة، فيُسأَل في احتضاره عن العمل الصالح الذي يرجو به لقاء ربه فيقول-عجبًا-“يوم الحرة!” ثم يلفظ النفس الأخير فتُرحَم مكة- إلى حين- من وقعة كوقعة المدينة حتى يأتيها الحجاج بعد سنين بأمر الخليفة عبدالملك بن مروان فيحاصرها، ويضرب الكعبة بالمنجنيق!
***
القارئ في كتب التاريخ، ككتاب “مقاتل الطالبيين” للأصفهاني، و”البداية والنهاية” لإسماعيل بن كثير، و”تاريخ الأمم والملوك” للطبري، وغيرها، يدرك أن تلك الفترة من التاريخ كانت- على ما شهدت من إنجازات سياسية وعلمية واقتصادية وثقافية- هي الأكثر حساسية في تاريخ الحضارة الإسلامية.. فهي الفترة التي بدأت فيها صياغة نظم الحكم ومراكز القوى وصور الصراع الداخلي لتلك الأمة، حتى إن كثيرًا من آثارها لا تزال ممتدة إلى يومنا هذا، إما في أيديولوجيات المتصارعين أو في أنماط صراعهم.
في ذلك العصر كانت الأقطاب الرئيسية للصراع الداخلي هي: بنو أمية وهم النظام الحاكم، بنو هاشم ومن شايعوهم، والخوارج.. المتأمل للمشهد يمكنه بسهولة أن يلاحظ أن الفئة الثانية كانت تمثل في معادلة الأحداث “الفضيلة” التي تقع بين رذيلتين، الرذيلة الأولى: القمع والبطش والدموية ممثلة في السلطة الأموية، والرذيلة الثانية: التكفير والتعصب والترويع ممثلة في الخوارج.
والفئات الثلاث كانت بعضها لبعض عدوا.. فالأمويون يحاربون الخوارج ويطاردون بني هاشم، والهاشميون إما هاربون من البطش الأموي أو ثائرون عليه، وهم ينظرون بطرف العين بحذر توقعًا للغدر في أي وقت من جانب الخوارج، والخوارج يعتبرون أن كل من سواهم- سواء كان أمويًا أو هاشميًا- هو إما كافر مُستَباح دمه، أو هو- في أفضل الأحوال- فاسق لا بأس بقتله.. نستطيع إذن أن نعتبر أن الهاشميين وشيعة الإمام عليّ (وهم آنذاك شيعة سياسية وليست دينية) كانوا بمثابة فئة الحق المعتدلة بين فئتين متصارعتين كلتاهما متعصبة وباغية!
وبالمناسبة.. جدير بالذكر أن من كان يرفض الانحياز للخوارج كانوا يتهمونه بموالاة الأمويين، بينما كان الاتهام بالخيانة ومفارقة الجماعة حاضرًا لمن لا يسارع بالانضمام لصفوف بني أمية في حربهم على الخوارج.
***
كان العصر الأموي- على عظمة ما تحققت خلاله من إنجازات- عصرًا سيطر فيه نظام حكم فاشي قعمي سريع اللجوء للتعامل بالسيف مع أي صوت يعلو بالنقد ولو على استحياء.. لاحظ أننا نتحدث عن عصر اجتمع فيه أساطين القمع كـ”زياد بن أبيه”- أول من ابتكر حظر التجوال- وابنه عبيدالله بن زياد- قاتل الحسين وصاحب الأمر بالتمثيل بجثته- والحجاج بن يوسف- قاذف الكعبة بالمنجنيق وصاحب الخطبة التهديدية الشهيرة لأهل العراق- وآل المهلب بن أبي صفرة- وهم قوم مقاتلون كانوا يد الخليفة الباطشة على من ثار أو تمرد، فضلًا عن الخليفة عبدالملك بن مروان، الذي كان أول من هدد من فوق المنبر من يقول له “اتق الله” بالقتل! ومن حاولوا من خلفاء هذا العصر القيام بإصلاحات جذرية ماتوا بسرعة في ظروف غامضة كمعاوية الثاني بن يزيد بن معاوية وعمر بن عبدالعزيز.
وكان كذلك عصرًا شهد حركة ترويع وإرهاب بشعة من قِبَل الخوارج الذين كانوا يطرقون المدن على حين غرة، ويعيثون فيها فسادًا وقتلًا، وهم يرددون كلام الله ويفسرونه بما يخدم أطماعهم، ويقدمون أنفسهم للناس باعتبار أنهم هم ثوار الحق وجنوده، ومن عداهم هو إما موالٍ للطغاة أو جبان خانع ضعيف في دينه.. نحن هنا نتحدث عن قوم تنبأ بهم الرسول- صلى الله عليه وسلم- وقال فيهم إن الناس ينخدعون بصلاتهم وعبادتهم حتى إنك “تنظر لصلاتهم فتحتقر صلاتك”، ولكنهم مع ذلك “يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية”.
***
والسؤال الآن: لماذا لم نقرأ عن أية تحالفات- ولو محاولات لذلك- بين كل من بني هاشم والخوارج ضد السلطة الأموية القمعية؟ لقد ذرعت تلك الفترة التاريخية ذهابًا وإيابًا فلم يقل أحد الهاشميين “هلمّوا نتوحد مع الخوارج ضد بني أمية” أو “لقد أكثر بنو أمية القتل في الخوارج، ولا بد أن دورنا قادم فهلموا نتحد مع الخوارج ضدهم حتى لا نؤكل كما أُكل الثور الأبيض”؟
الإجابة بسيطة: لأن بني هاشم أدركوا أن الخوارج لم يكونوا يومًا “الثور الأبيض”.. وأن حربهم ليست حربًا “هي لله” بل هي حرب مطامع لا تختلف كثيرًا عن تلك المطامع التي لأجلها يمارس بنو أمية القمع والقتل.
وهنا قد يسأل سائل: وهل كان كل من انحاز للخوارج على تلك الشاكلة؟ وفورًا أجيب بالنفي، فممن انحازوا لهم أناس شرفاء راعتهم جرائم النظام الأموي، ولكنهم نظروا للصورة من زاوية واحدة فلم يدركوا أن الخوارج لا يختلفون كثيرًا عن الأمويين سوى في موقع كل منهما من كرسي الحكم.. لكنهم يجتمعون في نفس المنطق ونفس السياسة ونفس أسلوب التفكير.. فقط أحدهما بلغ سدة الحكم قبل الآخر- أو رغمًا عنه- فاتشح خصمه برداء الثورة.. ثم من يدري؟ لعلهما- الأموي والخارجي- كانا ليتفقان ويتهادنان بل وربما يتحالفان.. بل إن التاريخ يحمل لنا قصة مفاوضاتٍ دارت بين الخوارج وبين الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز لوقف القتال.. صحيح أن منطلق الخليفة كان نقيًا خالصًا لله، ولكن منطق الخوارج لم يكن كذلك، فبينما يعتبرهم الخليفة مجرد “مارقين يبغون علينا” فإنهم ينظرون لهذا الخليفة ولدولته كلها باعتبارهم “كفرة”.
وفي المقابل قد يقول قائل: ولماذا لم ينحز بنو هاشم للجانب الأموي، ويضعوا خلافاتهم جانبًا؟ أليسوا في النهاية أبناء عمومة؟ ألا تقتضي المصلحة الانحياز لسلطة “الأمر الواقع” (والتي يصفها الإمام الماوردي في كتابه “الأحكام السلطانية” بأنها “إمارة الاستيلاء”) لدحر عصابات الخوارج المفسدة في الأرض والمروعة للعباد؟
وهذا السؤال مردود عليه بأن الأمر كان يختلف لو كان من يهدد البلاد عدوًا خارجيًا، إذن لرأيت بني هاشم أول منحاز للأمويين، ولكنهم أدركوا أنهم لو فعلوا فإنما سيكونون مجرد سلاح مادي أو معنوي في يد بني أمية لحين قضائهم على الخوارج فحسب.. ثم بعد ذلك سيبحث الأمويون عن وسيلة للتخلص من هذا السلاح، بعد أن أدّى غرضه.
***
كثيرًا ما يقال أن التاريخ يعيد نفسه، وأنا كقارئ للتاريخ كثيرًا ما أشعر بذلك، ولكنني سرعان ما أدرك أن ما تعاد حقًا هي أخطاء البشر.. فكم من “خوارج” عبر التاريخ وجدوا من ينحازون لهم ويقاتلون في معاركهم ويموتون في سبيلهم انخداعًا بالظاهر من نبل القضية.. وكم من “بني أمية” عبر نفس التاريخ وجدوا من يهلل لهم، ويهتف ويبرر أفعالهم بأمور كالضرورة والمخاطر التي يتعرض لها الوطن.. وطوبى لمن ثبت على موقفه، وقرر ألّا يكون لا مع بني أمية ولا الخوارج، واحتمل في سبيل ذلك من الأذى الكثير.