كيف تنتهز بريطانيا الفرص للتوغّل في الشرق الأوسط؟
موقع الخنادق:
منذ بداية ظهور مؤشرات “الرغبة” الامريكية في الانكفاء عن منطقة الشرق الأوسط أيام الرئيس السابق باراك أوباما لتوجيه التركيز الى “محاربة النفوذ الاقتصادي الصيني”، وعلى الرغم من تراجع هذه الرغبة أثناء ولاية دونالد ترامب الا أنها عادت لتكون، بحسب ادعاءات إدارة الرئيس الحالي جو بايدن، من الأولويات، ما أدى الى “استنهاض” المملكة المتحدة لتعود وتحاول بسط نفذوها السياسية – التي لم تتوقف يوماً الا شكلياً – في نوع من “ملأ الفراغ”، وتستخدم بذلك الأسلوب القديم – الجديد وهو التسلّل بالأدوات الناعمة وبعناوين الاستثمارات الاقتصادية والتجارية، كما شعارات الديموقراطية والحقوق، لكنها فعلياً قد لا تحمل رؤية استراتيجية للمنطقة في المنظور البعيد.
وفي آذار الماضي صرّح رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون أمام مجلس العموم في البرلمان بتصريحات شكّلت “وثيقة” لإطار العمل الحكومي في شؤون السياسة الخارجية لا سيما في الشرق الأوسط والتحولات الجذرية الجديدة في هذه السياسية، وكيف يمكن لبريطانيا انتهاز الفرص في الشرق الأوسط “وبلورة نظام دولي جديد”.
نظرة بريطانيا الحالية لمنطقة الشرق الأوسط
” نطمح لنكون في الطليعة في التنظيم العالمي لشؤون التكنولوجيا والإنترنت والبيانات الرقمية لضمان حماية الديمقراطيات الخاصة بنا ونكون مرجع عالمي لتوفير الخدمات وتعظيم الفرص التجارية والوظائفية للبريطانيين حول العالم… سوف نحافظ على نهج ليبرالي في التنمية الاقتصادية، وخلق فرص أكبر للجميع على غرار المجتمعات المفتوحة. سنقوم بالجمع بين دبلوماسيتنا ومساعدتنا مع التجارة، والعمل مع شركائنا لتكييف عروضنا المطروحة. عندما تصبح الحكومات قادرة على تمويل أولوياتها الإنمائية الخاصة، فإننا سنتحرك تدريجياً نحو توفير الخبرات البريطانية وسنستعين بمجموعة متنوعة من نماذج التمويل لتحصيل الفرص ولمواجهة التحديات الإقليمية بما يخدم مصالحنا المشتركة.”
توفر منطقة الشرق الأوسط وظروفها الحالية فرصة لبريطانيا لتأكيد نفسها كقوى عظمى وإعادة ترسيخ هيمنتها. فقد أشار التقرير مرارًا وتكرارًا إلى قدرة بريطانيا على لعب دور الموجه والداعم الأساسي لحلفائها في المنطقة للوصول إلى أهدافهم المرجوة من الأمن القومي والكفاءة الذاتية، مع فكرة أن بريطانيا تمثل النموذج العالمي للازدهار. يُنظر إلى المنطقة على أنها فرصة متعددة الأوجه ترغب بريطانيا في اغتنامها، اذ يتطرق التقرير للمنطقة من خلال سياقات مختلفة، منها الأمني والسياسي والاقتصادي أو التجاري. لذا فإن المنطقة تمثل لبريطانيا أرضية مناسبة لإعادة فرض نفوذها العسكري والاقتصادي، خصوصاً من خلال تعزيز دورها التجاري. ويتوقف اهتمامها الحالي بالمنطقة على شركائها وأهدافهم الخاصة، فتوافق الأهداف هو ما سيسهل تحقيق المصالح البريطانية بشكل كبير. مع التركيز على مفهوم “بريطانيا العالمية”، ستعمل الدولة على إعادة الاستثمار في علاقاتها مع مختلف دول العالم، والاستعداد للتأثير في عملية تشكيل “النظام العالمي الجديد” في ظل المتغيرات الحاصلة. من هنا تسعى بريطانيا لإثبات أنها منفتحة على مختلف الثقافات والمجتمعات، في استراتيجية جاء في طليعة أولوياتها تعزيز النفوذ وإعادة موضعة الدور العالمي. بالنسبة لها، إن منطقة الشرق الأوسط هي وسيلة لتأمين المصالح الذاتية وجني المكاسب المادية على اختلافها، والتي تصب في تحقيق هدف “العالمية”.
ملخص الفرص الحالية والخيارات المتاحة:
“تتمتع المملكة المتحدة بعلاقات ثنائية تاريخية قوية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا… والتي تعتبر حيوية لازدهار المملكة المتحدة وأمنها. سوف نتطلع إلى تعميق هذه الروابط لنصبح من الشركاء الرئيسيين في المنطقة، وسنقوم بتقديم عروض أمنية أكثر تكاملاً لحماية مصالحنا…والعمل لتعزيز وتحديث القدرات الأمنية لضمان استقرار دائم في المنطقة.”
“سوف نعزز عملنا في الترويج أكثر للمرونة الاقتصادية، الاجتماعية والبيئية، وسنعمل مع شركاؤنا لبناء مجتمعات أكثر انفتاحا، لا سيما مناصرة ودعم مشاركة المرأة، وتعليم الفتيات. سنسعى لزيادة التجارة والاستثمار في دول الخليج… وسنعزز التعاون مع المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل ودعم العمل على النمو المستدام وتغيير المناخ مع العراق والمغرب. سنزيد أيضا تعاوننا مع شريكنا المقرب الإمارات العربية المتحدة للتعامل مع التدفقات المالية غير المشروعة عالمياً.”
“…سنقوم بجهود للبحث عن التقارب الإقليمي في المنطقة، وسنواصل العمل نحو الحلول السياسية في أماكن الصراع وسنتناول بالمثل الشؤون الإنسانية، العواقب الاقتصادية والإقليمية الناتجة عن الصراع السوري.”
تتمتع بريطانيا بعدة ميزات ستسهل عليها اغتنام الفرص في الشرق الأوسط. حيث تستغل الرابط التاريخي للعلاقات في العديد من الدول العربية مثل الأردن وعمان، والتي تعتبر أساسية لازدهار بريطانيا وحماية أمنها. لهذا السبب سيكون من السهل تعميق هذه الروابط بسبب وجود مصالح مشتركة عميقة، لتصبح واحدة من اللاعبين الأساسيين في المنطقة. تجد بريطانيا فرصة كبيرة وفجوة يمكنها سدها من خلال تعميق هذه الروابط التاريخية للانخراط أكثر فأكثر في البنية الاقتصادية والمجتمعية لهذه الدول. من هذا المنطلق تجد فرصة لزيادة شراكاتها التجارية والاستثمارية، وتزعم بجعل مسألة التغيرات المناخية قضية أولوية في المنطقة لتعمل على أهدافها المناخية الخاصة. يشير التقرير إلى أن الحكومة ستقدم عروضاً أمنية متكاملة أكثر ومغرية لتتوافق مصالحها مع احتياجات شركائها وحلفائها في المنطقة. وتزعم أن هذه النشاطات لتحديث القدرات الأمنية ستضمن الاستقرار الدائم في المنطقة. فوجودها الحالي يساعد في فتح مسارات جديدة لإيجاد شراكات أمنية جديدة مع كل من السعودية وإسرائيل. من هذا المنطلق يسهل حينها العمل على الترويج بشكل أوسع للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية في دول مثل مصر، ولتوسيع نطاق استثماراتها وزيادة النشاط التجاري مع دول الخليج.
يسهل أيضا تحقيق أهداف تتضمن دعم المرأة العربية والترويج لمشاركاتها للعمل في مجالات عدة وتوفير التعليم الفعال لفئة الفتيات بسبب التواجد التاريخي لمجلس الثقافي البريطاني في العديد من دول المنطقة وانخراطه اجتماعيا واستثماره بمسائل التعليم والتنمية. فقد أثنى التقرير على جهود المجلس الثقافي في التواجد والعمل في أكثر من ١٠٠ بلد حول العالم. بشكل أساسي ستسعى بريطانيا للتفاهم والتعاون في مجالات تتضمن علوم الحياة والتكنولوجيا والسلامة البيئية مع حلفاؤها الرئيسيين، أي السعودية والولايات المتحدة والإمارات وإسرائيل، حيث كشف التقرير عن تعزيز الشراكة مع دولة الإمارات لمكافحة التدفقات المالية غير المشروعة عالميا. يضاف إلى ذلك ان بريطانيا ترى فرصة لدعم النمو في العراق والمغرب، بما في ذلك سيكون هناك تركيز على البحث عن تقارب إقليمي مما سيوفر انسجاماً عاماً في المصالح من المفترض أن يساعد بإيجاد توافق مع المصالح الخاصة. يأتي هذا في سياق دعم الحلول السياسية في اليمن وليبيا وسوريا، حيث سيتم تناول الشؤون الإنسانية والعواقب الاقتصادية والإقليمية الناتجة عن هذه الصراعات. يُذكر أيضا أن القوات العسكرية المسلحة المساهمة في التحالف الدولي ضد تنظيم داعش في العراق وسوريا. يختم التقرير هذه النقطة بأهمية استمرارية الدعم للبنان والأردن. باختصار، الفرص كثيرة وقد وضع التقرير خطة شاملة لاغتنامها وفق استراتيجية تتوافق مع الواقع العالمي التنافسي التي تسعى بريطانيا لتكون لاعبا أساسيا فيه.
التحديات التي يمكن أن تواجهها بريطانيا في تحقيق أهدافها:
“إن تنافس القوى العظمى وانتهازية دول مثل روسيا وإيران وكوريا الشمالية هي العوامل الرئيسية في تدهور البيئة الأمنية وإضعاف النظام الدولي. إن ديناميات المنافسة النظامية أصبحت أكثر تعقيدًا وتواجه المملكة المتحدة تهديدات من مجموعة واسعة من الدول. هناك تهديدات أخرى صادرة عن الجهات الفاعلة غير الحكومية المشاركة أيضا في هذا الصراع التنافسي، فهم غالبًا ما يستخدمون أساليب مماثلة مثل الهجمات الإلكترونية والمعلومات المضللة لاستهداف مواطنينا واستغلال انفتاحنا لتحقيق مكاسبهم الخاصة.”
“ستكون روسيا أكثر نشاطًا في الجوار الأوروبي الأوسع، وإيران وكوريا الشمالية ستواصلان زعزعة استقرار مناطقهما…. كأولوية، سنواصل العمل مع الشركاء في جهد دبلوماسي متجدد لمنع إيران من تطوير برنامجها النووي ومحاسبتها على نشاطها المزعزع للاستقرار في المنطقة. التحديث العسكري الصيني وتزايد الإصرار الصيني على التواجد الدولي أيضا سيشكلان خطرًا متزايدًا على مصالح المملكة المتحدة.”
بحسب التقرير، بشكل عام تتمحور السياسة الخارجية لبريطانيا حول بذل مجهود لأجل التكيف مع واقع عالمي متغير جديد، بالأخص الواقع العالمي ما بعد جائحة كورونا. فيكثر الحديث عن التغيرات في البيئة الدولية في سياق التحولات الجيوسياسية والجغرافية الاقتصادية، مثل الصعود الصيني المتزايد وتمركز الصين على المنصة الدولية بشكل سريع. بريطانيا ترى الصين تهديدًا حقيقيًا في منطقة المحيطين الهندي-الهادئ، وترى أن التحديث العسكري الصيني وتزايد التموضع الدولي للصين سيشكل خطرا متزايدا على مصالحها. ولهذا السبب تسعى لتطبيق وضعية دفاع بفرض نفسها في منطقة الشرق الأوسط. ويمكن ترجمة هذه النقطة بتأهب واحدة من أكبر حاملات الطائرات البريطانية “اتش أم أس كوين إليزابيث” التابعة لسلاح البحرية البريطاني، لإطلاق أولى رحلاتها إلى البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط كمحاولة استعراضية للقوة العسكرية البريطانية وإبرازها أكثر من الفترة السابقة
يضيف التقرير باستمرار اعتبار روسيا أيضا تهديدا كبيرا للمصالح البريطانية بشكل عام في منطقة اليورو-الأطلسية والشرق الأوسط، حيث أشار إلى أن الدولة ستركز بشكل أكبر على بناء قدراتها والدول ذات التفكير المماثل في الاستجابة لنمو مجموعة من التهديدات تتضمن انتشار الأسلحة ودعم الإرهاب، وقد تم ربط هذه النقطة بدور إيران المستمر في زعزعة استقرار المنطقة بحسب التقرير. لذا سيبذل جهد دبلوماسي لمنع إيران من السعي لتطوير برنامجها النووي ولمحاسبتها على نشاطها الذي يعتبر” أكبر مزعزع للاستقرار في المنطقة.”
الصين وروسيا تشكلان خطرا شموليا، بالتحديد على القوة الناعمة لبريطانيا، ذلك من خلال تحدي القيم الديمقراطية التي تدعو اليها، وهذا سببه أن روسيا والصين تستثمران بشكل كبير في عرض القوة الثقافية العالمية وعمليات المعلومات. يذكر أن هذه المواجهة تتشكل بشكل متزايد في الفضاء الرقمي حيث الدور الأكبر يكون للأفراد والجهات الفاعلة الغير حكومية من خلال نشر المعلومات المضللة لضرب المصالح البريطانية. لهذا السبب ستعير بريطانيا اهتماما كبيرا للعلم والتكنولوجيا حيث إنها تضع التكنولوجيا في صميم استراتيجيتها الدفاعية، التي بدورها تقود وضعها العسكري وبالتالي موقفها الجيوسياسي. فهي تعزم لتحسين قدرتها على الاكتشاف والفهم والتكنولوجيا للرد على أي عدوان ضد مصالحها، سواء أكان مادي على الأرض أو غير مادي، أي في الفضاء السيبراني، وسواء أكان عسكريًا أم غير عسكري بطبيعته.
التوقعات والرؤية المستقبلية للعالم والمنطقة:
“…إن توجه حاملة الطائلات “إتش إم إس كوين إليزابيث” إلى المياه الآسيوية لزيارة البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط والمحيطين الهندي والهادئ في أولى رحلاتها التشغيلية ستظهر قابليتنا للعمل المتبادل مع الحلفاء والشركاء، وقدرتنا على إبراز القوة العسكرية…مسارها سيساعدنا في تعميق علاقاتنا الدبلوماسية والازدهار مع الحلفاء والشركاء في جميع أنحاء العالم.”
“سيكون لدينا علاقات مزدهرة في الشرق الأوسط والخليج قائمة على التجارة والتعاون المتبادل لدعم منطقة أكثر مرونة تعتمد على نفسها بشكل متزايد لتوفير الأمن الخاص بها.”
من المتوقع أنه سيكون لبريطانيا علاقات أكثر ازدهارا في المنطقة عموما ودول الخليج على وجه خاص، قائمة على التجارة، والابتكار، والعلوم والتكنولوجيا والتعاون المتبادل لدعم منطقة تراها أكثر مرونة تعتمد على نفسها بشكل متزايد في توفير أمنها الذاتي. تترقب إظهار قابليتها للعمل المتبادل مع الحلفاء والشركاء – على وجه الخصوص الولايات المتحدة – وقدرتها على إبراز القوة العسكرية المتطورة لدعم حلف الناتو وتعزيز الأمن البحري الدولي. حيث أشار التقرير أن مسار حاملة الطائرات في آسيا سيساعد أيضا الحكومة على تعميق العلاقات الدبلوماسية مع الحلفاء في المنطقة. من خلال هذه الإستراتيجية طويلة الأمد تطمح بريطانيا لشرق أوسط يعتمد أكثر على الدعم البريطاني لتستطيع حينها تحقيق اهدافها المتعلقة بعودة نفوذها واسترجاع الدور القيادي لها في المنطقة، وجعل حكومات تعتمد أكثر على الحكومة البريطانية للتوجيه والدعم الإستراتيجي والأمني، ولقيادة النشاط الاقتصادي في المنطقة من خلال زيادة الصفقات التجارية. من المتوقع أن تزيد بريطانيا من نشاط الردع والدفاع بوجه أي تهديدات ناشئة من روسيا، حيث سيكون هناك جدية وحزم في التعامل مع هذه التهديدات وستحرص على وجود رد غربي موحد من خلال حلف الناتو. فبريطانيا تتأمل بوجود قوي للحلف من خلال الجمع بين القدرات العسكرية والدبلوماسية والاستخباراتية لتأمين الحماية اللازمة لضمان مكاسبها، ولمحاسبة روسيا على أي نشاط تعتبره بريطانيا تهديداً “أمنياً” للنظام الدولي القائم. فيما يخص الشرق الأوسط تحديدا، ترى بريطانيا ان المستقبل سيحمل معه تغيراً في طبيعة المخاطر الناتجة عن نشاط إيران في المنطقة، وستعمل على الاستجابة للتهديدات الناشئة مثل الاستحواذ غير المشروع على التقنيات المتقدمة ذات الاستخدام المزدوج، وتعزيز مكافحة انتشار الأسلحة والتصدي للضغوطات الناشئة عن هذه النشاطات وبلورة الظروف المستقبلية لتتناسق مع مصالحها الخاصة المعلن عنها.
أبرز المصالح والأهداف البريطانية:
_ تعزيز العلاقات وزيادة الصفقات الأمنية والتجارية.
_ الميل نحو شرق آسيا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
_ ضرورة انتهاج سياسة خارجية أكثر توافقية، والسعي للتقيد بسياسة “صفر مشاكل” لجذب شركاء تجاريين أكثر.
_ تكيف استراتيجية الدفاع كوسيلة استباقية للردع ومكافحة الإرهاب.
_ استمرار المشاركة في المجهود الدولي لمحاربة تنظيم داعش.
_ الاعتماد أكثر على “القوة الناعمة” لتعزيز مكانتها في العالم.
_ تعزيز الترسانة النووية والبدء في زيادة عدد الرؤوس النووية بنسبة 40 في المئة. _المراهنة على التكنولوجيا لمواجهة التحديات وجعلها “قوى عظمة علمية وتكنولوجية”.
_ تشكيل النظام العالمي للمستقبل بقواعد تحمي القيم الديمقراطية في العالمين الواقعي والافتراضي.
تحليل وخلاصة:
يتطرق التقرير للعديد من الأفكار دون تحديد مسارات عمل واضحة ومحددة، لدرجة انه أحيانا يُرى كفهرس للخيارات الإستراتيجية عن كونه مجهودًا حقيقيًا في فرض الإستراتيجية. أقرب ما يتعلق بالتفاصيل هو سرد مجالات الإنفاق الإضافي في الملحق “أ” (ص.١٠٠): الأولويات الممولة في مراجعة الإنفاق 2020، لكن هذا الملحق لا يقدم تفاصيل حقيقية حول آلية إنفاق هذه الأموال ولا يُظهر إن كان هذا التمويل كافيا لتحقيق الأهداف المرجوة. يشرح المسؤول عن الشؤون الاستراتيجية في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية أنتوني كوردسمان، أن هذا المحتوى المتحفظ والموضوعي المحدود للتقرير ليس بجديد، حيث أنه يعتبر نموذجي نسبةً لكثير من تقارير الاستراتيجيات والدفاع الغربية. هنا تحديدا يعكس التقرير الكثير من نقاط الضعف والفجوات الموجودة في وثائق مماثلة للولايات المتحدة الأميركية، مثل مراجعات الدفاع الأمريكية التي تُجرى كل أربع سنوات، والاستراتيجية الوطنية والدفاع الوطني وبيانات الإستراتيجية الصادرة عن إدارة بايدن. هذه الوثائق لديها بعض الخطط المحددة لكنها تفشل أيضا في تقديم استراتيجيات حقيقية وآليات تنفيذ واضحة.
لقد تعرض التقرير للانتقاد أيضا من قبل سياسيين بريطانيين بارزين، منهم جويس أنيلاي التي شغلت منصب وزير الدولة للشؤون الخارجية، إذ وصفت التقرير بالمبسط والذي يحتوي على وعود وآمال واهية وغير واقعية، منتقدة أسلوب رئيس الحكومة في الحديث عن الرغبات وتجاهل الحديث مفصلا عن الواقع.
يمكن القول إن هذه المحدودية المتصفة بسرد عام ومبسط من دون التطرق للتفاصيل سببه عدم وضوح رؤية بريطانيا لمعالم العالم الجديد والمتغير بدرجة متزايدة، بمعنى آخر إن بريطانيا تجد صعوبة في توقع عالم ستهيمن عليه مواضيع التصادم في المصالح والتنافس على الموارد والصعود الصيني وتطور التكنولوجيا السريع، وهي مواضيع مليئة بالتهديدات لمصالح بريطانيا الداخلية والإقليمية والعالمية. وهذا القلق من زعزعة قدرتها على التأثير في المنصة الدولية بدا واضحا حيث نصّ التقرير بالتراجع عن تعهد سابق بتخفيض مخزون الأسلحة النووية إلى ١٨٠ رأسا نوويا ورفع الحد إلى ٢٦٠ رأسا، ما يشير إلى أن مخاوف بريطانيا حقيقية وانه من المتوقع ان السلوك التنافسي بين القوى العالمية الكبرى سيزيد من التهديدات والتحديات في وجه المصالح البريطانية، ما يجبرها على تعزيز قدرتها النووية كوسيلة للردع في وجه هذه المخاوف. رغم ذلك، هناك محاولة واضحة في التقرير لجعل بريطانيا تبدو واثقة ومستعدة للتعامل والتكيف بسهولة مع هذه التغيرات، بخلاف الواقع الهش التي وجدت نفسها فيه بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، حيث ان هذه الخطوة أضعفتها على مستوى الاقتصاد والقرار السياسي الدولي أيضا.
فيما يخص الشرق الأوسط، تكمن أهمية المنطقة لبريطانيا من ناحية تركز المصالح والصراعات العالمية حيث يشتد التنافس على النفوذ فيها. قد شعرت المنطقة برغبة الولايات المتحدة الأميركية بإعادة ترتيب أولوياتها الإستراتيجية منذ إعلان نية التحول تجاه آسيا من قبل أوباما. والذي كان إشارة واضحة إلى أن الولايات المتحدة ترغب في تركيز مواردها على إدارة صعود الصين ومراقبته عن قرب. تطرح نظريات استقرار الهيمنة الدولية أن قوى جديدة نسبيا قد تتوجه لتملأ الفراغ الاستراتيجي الناتج عن التقشف الأمريكي في المنطقة وتغير التوازن العام للقوى، خصوصا بعد الانسحاب الفعلي مؤخرا من أفغانستان. ومن هذا المنطلق تسعى بريطانيا لزيادة نفوذها في المنطقة حيث تمتلك ميزة تنافسية ناتجة عن علاقاتها المتينة مع مجلس التعاون الخليجي، خصوصا بعد الضبابية التي تشهدها في إعادة تحديد دورها في العالم. ويأتي هذا الاندفاع لانتهاز الفرص في ظل احتمالية زيادة تعقيد التنافس الجيوسياسي وعدم الاستقرار في جميع أنحاء الشرق الأوسط، فهناك خشية من زيادة النفوذ الصيني في المنطقة تزامنا مع الانسحاب الأميركي. بينما لا تزال الصين الوافد الجديد نسبيًا إلى المنطقة، إنها حذرة في مقاربتها للتحديات السياسية والأمنية المحلية، فهي مجبرة على زيادة مشاركتها مع الشرق الأوسط تناسبا مع زيادة وجودها الاقتصادي. فالكثير من علاقات الصين مع دول المنطقة تتمحور حول الطلب على مصادر الطاقة، وهنا يكمن مثال قوي وواضح عن تضارب المصالح البريطانية – الصينية، إذ تتركز هذه العلاقات مع دول الخليج – الحلفاء والشركاء الأساسيين لبريطانيا- بسبب دورهم المهيمن في أسواق الطاقة. زيادة إلى ذلك، الصين حريصة على تجنب تكرار التجربة الغربية، وتطرح سردا للمشاركة الحيادية، عكس بريطانيا التي جاهرت بهدفها للحفاظ على النظام العالمي الحالي ومتابعتها لتصدير “القيم الغربية”. مع كل هذه المعطيات، وبالرغم من أن التقرير أشار مرات متعددة إلى فكرة الدور الصيني، فقد حدد بوضوح أن الخطر الأكبر على بريطانيا سيكون روسيا، مما يطرح تساؤلات حول وضوح الرؤية المتكاملة لدى البريطانيين، ويمكن أيضا أن يشير للتقليل والتسخيف من الدور الصيني الذي من الممكن أن يتجاوز توقعات بريطانيا.
إن سياق العلاقات الدولية لاستراتيجية بريطانيا للانخراط في أنظمة ومجتمعات دول المنطقة وتعزيز المشاركات العميقة لا يتعلق فقط بتأمين الحلفاء المخلصين والأثرياء في الخليج، ولكن له أهمية جيوسياسية عالمية أوسع. إذ أن سياسة إعادة تحديد الأولويات الأميركية وإعادة تركيز الجهود بعيدا عن الشرق الأوسط ونحو الشرق الأقصى، والانجذاب الكبير نحو الفراغ المحتمل في منطقة الخليج على وجه الخصوص، بات قويا جدا بالنسبة لبريطانيا. مثلما انجذبت الولايات المتحدة إلى سياسات الخليج والشرق الأوسط من خلال انسحاب بريطانيا من شرق السويس في عام 1971، يبدو أن الوضع الآن مماثل، مع تحرك بريطانيا مبكرًا، ربما بشكل انتهازي، لملء الفراغ المتوقع في المستقبل القريب. فلطالما كانت سياستها الخارجية مبنية على انتهاز الفرص واستغلالها، مع توظيف الظروف المناسبة لكل ما يصب في تحقيق مصالحتها.