كيف استطاعت المقاومة ضرب عقيدة العدو العسكرية؟
إنجازات المقاومة: منع اعتداءات العدو.. في مرحلة الحرب واللاحرب
لا تقتصر الخشية “الإسرائيلية” من حزب الله على الحرب المقبلة ومفاجآتها الموعودة، والتي تدرك تل أبيب جيدا أنها ستكون خارج التوقعات، بل تشمل أيضا مفاجآت في خلال مرحلة اللاحرب القائمة حاليا. بحسب مسؤولين رفيعي المستوى في جيش الاحتلال، فان فرضيات ما قبل الحرب لا تقل أهمية عن الفرضيات الموصوفة خلالها، وعلى رأسها ردود قد تقدم عليها المقاومة في مواجهة اعتداءات “إسرائيلية” في الساحة اللبنانية.
وعلى ذلك، ينشغل قادة جيش الاحتلال بالفرضيات والسيناريوهات الممكنة، بل، وأيضا، غير الممكنة، إذ بحسب التعبيرات العبرية، ما هو غير ممكن الآن، قد يتحول سريعا إلى واقع عملي قائم، وهذا ما اعتاد الجيش على مواجهته في صراعه الطويل مع حزب الله.
ورغم أن هذه الأنباء تتسرب بصورة وبوتيرة مرتفعة في الآونة الأخيرة، إلا أنها لم تحظ بالتحليل والبحث عن المعاني الحقيقية لها، في سياق ردع المقاومة وميزان الرعب الذي أوجدته، وفي أساسه، قدرة المقاومة على ضرب العقيدة القتالية لجيش الاحتلال.
في الآونة الأخيرة كشفت مجلة “بمعرخوت” الصادرة عن جيش الاحتلال، وهي نشرة دورية تعنى بالشؤون العسكرية والأمنية، عن فرضية يتداولها المخططون في الجيش، وهي إقدام حزب الله خلال الحرب، على احتلال قسم من الجليل، بل ان بعضهم ذهب للحديث عن عملية قد يقدم عليها حزب الله، بصورة ابتدائية في مرحلة ما قبل الحرب، يحتل خلالها قسما من مستوطنات الجليل، ردا على خروق واعتداءات صهيونية “لا يمكن تحملها”.
وإذا كانت مجلة “بمعرخوت” أسهبت في شرح هذه الفرضية وسبل مواجهتها، وشددت على معقوليتها المرتفعة في ظل تنامي قدرات حزب الله الهجومية الناتجة عن خبرته العملية في الساحة السورية، إلا أن الخرق البري واحتلال مستوطنات لم يكن آخر ما صدر من فرضيات متداولة في “إسرائيل”، بل أجرى سلاح البحر مناورة في الأيام الأخيرة، حول سيناريوهات خرق بحري من الحدود الشمالية، وفحصت الوحدات العسكرية قدراتها في توقع واكتشاف هكذا خرق مفترض، مع فحص جهوزيتها الفعلية لمواجهته وصده.
تحت عنوان “هكذا يمنعون تسلل غواصين إرهابيين من لبنان”، تحدث تقرير في القناة الثانية العبرية عن “استعدادات سلاح البحر لسيناريو يحاول فيه مخرب التسلل من لبنان إلى إسرائيل عبر الحدود المائية، ويتدربون على إحباط هكذا عملية”، مشيرة إلى أن الاستعدادات تشمل العنصر البشري إضافة إلى منظومة الكترونية للتشخيص، مع يقظة خاصة دائمة للتفريق بين الخروق المدنية والعسكرية.
بحسب المناورة وفرضياتها، فان الخرق المقدر من لبنان، يتعلق بثلاثة سيناريوهات أساسية: “قطعة بحرية مفخخة”، تقترب وتلتصق بقطعة لسلاح البحرية وتعمل على تفجيرها بما فيها؛ غواصون يقتربون ويزرعون عبوة في منشأة بحرية مدنية أو عسكرية؛ أو خرق لمجموعة غواصين تدخل إلى الأراضي “الإسرائيلية” وتنفذ عملا “تخريبيا”.
ويوضح ضابط رفيع في بحرية الاحتلال، المقدم رونن حجاج، للقناة الثانية، أن “الحدود المائية في الشمال تبدو هادئة ظاهريا، لكن هذا الهدوء يُخرق أكثر من مرة، ويجب علينا أن نمنع حصول تسلل مهما كان الثمن”، ويضيف “من المهم إغلاق الدائرة سريعا: تشخيص الجسم، إرسال وسيلة اعتراض، إجراء تقدير للوضع، ومن ثم تصفيته”.
ما الذي يعنيه ذلك؟
فرضية احتلال الجليل، وهنا أيضا الخروق البحرية، يضاف إليهما عدد آخر من الفرضيات في مواجهة كل اذرع جيش الاحتلال، تعني ضربت للعقيدة القتالية لهذا الجيش، الذي انتقل من الموقف الهجومي إلى الموقف الدفاعي، وهو خلاف لطبيعة ودور هذا الجيش طوال سنوات وجود الكيان الصهيوني. واقع لم تألفه تل أبيب سابقا، وتحديدا في مواجهة الجبهة اللبنانية، التي كانت مسرحا لعملياتها بلا أثمان، بل أيضا لتجاربها وتدريباتها الحية في هذا البلد.
انتقال الاحتلال من الهجوم إلى الدفاع، بل إلى الدفاع بأطر صد لا منع، يشير إلى إخفاق وفشل في العقيدة العسكرية المتبناة من قبل هذا الجيش، التي تركز على منع الأعداء من حيازة قدرات هجومية فعالة، بما يعرف بالضربات الوقائية. الأمر الذي يستأهل تفصيلا في تحليل هذا التحول.
عمل الاحتلال تجاه أعدائه، منذ قيامه قبل 66 عاما، على منع قوس الأعداء من حيازة قدرات من شأنها أن تشكل خطرا امنيا عليه، سواء تعلق ذلك بدول أو منظمات، وحاليا ضد “منظمات شبه دولة” من جهة القدرات، كما هو حال حزب الله في لبنان.
تتركز العقيدة الأمنية “لإسرائيل”، على ثلاثة ركائز: الإنذار والحسم والردع، وهي ثلاثية أمنت للكيان منع التهديدات عنه طويلا، لكنها الآن محل اختبار، بعد فشل معظم مكوناتها، وهذا ما يدل عليه كل الإجراءات والتدابير والمناورات المنفذة من قبل العدو، وعلى أكثر من صعيد.
بحسب هذه العقيدة، يفترض بالاستخبارات الإسرائيلية أن تؤمن للمستوى التقريري والتنفيذي في جيش الاحتلال، معلومات حول قدرات العدو، حتى قبل حصولها عليها من مصدرها، الأمر الذي يتيح له أن يعمل على الحؤول دونها، وفي حال فشل ذلك، ينتقل العمل الاستخباري إلى الطبقة الثانية، وهي تحديد هذه القدرات وحجمها وإمكاناتها، وبالتالي العمل عليها، باتجاهين: أولا باتجاه حسم المسائل عسكريا، بما يعرف بالضربات الوقائية واجتثاث هذه القدرات بعملية جراحية، ومن ثم في حال العجز والتعذر، العمل على ردع الأعداء عن استخدام هذه القدرات، بما يطلق عليه وزير الحرب الصهيوني الحالي، موشيه يعلون “نظرية صدأ القدرات”، أي دفع الأعداء لعدم استخدامها.
فشل إسرائيلي
وواقع عدم استخدام أعداء إسرائيل لقدراتهم العسكرية، يعني أن إسرائيل فشلت في تحقيق المرحلة الثانية من عقيدتها الأمنية، وهي ضرب هذه القدرات ومنع الأعداء من الحصول عليها. وهنا تنتقل إسرائيل إلى المرحلة الثالثة من هذه العقيدة، بمنع الأعداء من استخدام قدراتهم التي فشلت بمواجهتها ماديا، وذلك بناء على ردعهم، إما من خلال إفهامهم بان استخدام هذه القدرات لن يفيد، وإما من خلال إفهامهم بان الرد على استخدام هذه القدرات، سيعني تدفيعهم ثمنا يفوق بكثير ما يجبونه من استخدامها.
في الحالة الأولى من الردع، وهي الفضلى من ناحية إسرائيل، يجري العمل على الوعي أكثر من العمل على الماديات والوسائل القتالية، أما في الحالة الثانية، فتعني فشل الوصول إلى وعي الأعداء، وان كل التهديدات المساقة ضدهم، منيت بالفشل، الأمر الذي يبقي أمام إسرائيل فقط، منع استخدام قدراتهم بصورة مادية بحتة، بما يعرف بعمليات الصد والدفاع البحت.
واقع ميزان القوى بين “إسرائيل” والمقاومة”، يدور حول هذه النقطة تحديدا. ضمن معضلة مركبة تمنع عنها استخدام عقيدتها القتالية واضطرارها للتمسك بآخر مركب فيها، وهو “الصد”، بمعنى اتخاذ الموقف الدفاعي البحت، مقابل ترقب العمل الهجومي. أي أن السلاح في حوزة حزب الله هو دافع لإسرائيل كي تتحرك ضده، لكن في نفس الوقت، وجوده من حيث حجمه وقدرة تدميره الهائلة وأيضا دقته، تمنع عنها التحرك ضده. واقع معقد ومركب، ويشكل معضلة لم تألفها إسرائيل سابقا، وهذا هو الواقع الذي يشير إليه مصطلح “ردع متبادل وتوازن رعب”.
اتخاذ إسرائيل موقفا دفاعيا، أي الحؤول المادي دون تحقيق استخدام السلاح لأهدافه، هو الذي يقف خلف قرار التدريبات والمناورات التي تنفذ أخيرا تجاه لبنان وحزب الله، في محاولة للتدرب على مواجهة سيناريوهات الخرق التي تطفو على سطح الإعلام بين الحين والآخر. وهي تشير إلى مسألتين:
أولا: فشلت إسرائيل في أول مكون من مكونات عقيدتها القتالية، وهو الإنذار. الإنذار الذي كان سبب نجاح الاستخبارات في رصد نوايا التسليح لدى الأعداء، ومنع حصولهم على هذه الأسلحة. كما تعني أن استخباراتها فشلت في تحديد أماكن هذه الأسلحة، وإلا لكانت عملت وفق نظرية الضربة الوقائية على ضربها. وأكثر من ذلك، وعلى فرض نجاح الاستخبارات في تحديد هذه الأسلحة وأماكنها، مع امتناعها عن ضربها، فهذا يعني أن المقاومة استطاعت أن تردع إسرائيل عن ضربها، وإلا لكانت قامت بذلك بلا تردد. وفي كلا الحالتين، الفشل أو الإخفاق في المرحلة الأولى، أو الفشل والإخفاق في المرحلة الثانية، فان إسرائيل عجزت عن تحقيق أول مركبين من مركبات عقيدتها الأمنية، والمسمى بـ”الإنذار والحسم”.
ثانيا: العجز المشار إليه، دفع إسرائيل للتحرك باتجاه العنصر الأخير، وهو الردع. الردع الذي يعني دفع الأعداء إلى الاحتفاظ بقدراتهم والارتداع عن استخدامها، لأنهم يخشون من الرد الإسرائيلي الذي يفوق ثمن استخدامه أي فائدة مرتجاة منه. لكن انتقال إسرائيل إلى العمل على مرحلة الصد، يعني أن وصول الارتداع إلى وعي الأعداء متعذر، وبالتالي حتم عليها العمل على “الصد”.
هذا هو الواقع بين إسرائيل والمقاومة، وهذا ما يجب فهمه كلما تحدثت تل أبيب عن مناورة أو تدريب أو سيناريوهات وفرضيات قد يقدم عليها حزب الله، خلال مرحلة الحرب، أو مرحلة اللاحرب.
حسان ابراهيم – موقع العهد الإخباري