كرد سوريا والخيارات الميدانية لمواجهة الهجوم التركي المرتقب
موقع قناة الميادين-
محمد منصور:
تركيا تستهدف من تنفيذها عملية “المخلب-السيف” إكمال خطة “المنطقة العازلة” شمالي سوريا، بحيث يجرى السيطرة على مدن رئيسة حدها الشمالي خط الحدود المشتركة، والحد الجنوبي لها الطريق “إم-4″، بعرض يتفاوت من 20 إلى 30 كيلومتراً.
تقف المكونات الكردية في سوريا، وتحديداً تلك المكونات المنضوية في إطار “الإدارة الذاتية” وذراعها العسكرية “قوات سوريا الديمقراطية”، أمام موقف ميداني تشوبه ضبابية كبيرة، تقف أمامه تلك المكونات للمرة الرابعة منذ عام 2016، وهو موقف يبدو في جوهره مشابهاً للمرات الثلاث السابقة، خصوصاً من حيث ماهية الجهة التي تشكل “تهديداً وجودياً” على الكرد في سوريا، ألا وهي تركيا.
لكن حقيقة الأمر أأن هذه المرة تختلف عن المرات السابقة في عدة عناصر جوهرية، أهمها المشهد الإقليمي والدولي المغاير لما كانت الحال عليه خلال العمليات العسكرية التركية الثلاث السابقة.
من نقاط الاختلاف الأساسية أيضاً، حقيقة أن الموقف الميداني والتكتيكي لـ”قوات سوريا الديموقراطية”، يبدو حرجاً على نحو أكبر من جميع المرات السابقة، وهو ما يجعل من الضروري بحث الخيارات الميدانية المتاحة لهذه القوات، خصوصاً في ظل تزايد احتمالات بدء الجيش التركي، للجانب البري من العملية العسكرية “المخلب-السيف”، التي بدأ جانبها الجوي في العشرين من الشهر الماضي.
يبدو في الوقت الحالي، ونظراً إلى قناعة “قوات سوريا الديموقراطية” أن ميزان القوى في حالة اندلاع جولة رابعة من القتال، لا يمنحها أفضلية قتالية نوعية، تسمح بالصمود على الأرض، خصوصاً لو وضعنا في اعتبارنا النتائج الميدانية التي أسفرت عنها العمليات العسكرية التركية الثلاث السابقة، يبدو خيار التواصل مع الجيش السوري، ومنحه سيطرة كاملة أو شبه كاملة على جميع الشريط الحدودي بين تركيا وسوريا، هو الخيار الأقرب أمام “قوات سوريا الديموقراطية”، لتجنب تدمير ما تمتلكه من قدرات بشرية وتسليحية.
نظرة عامة على الوجود التركي في سوريا
عموماً، تنتشر القوات التركية والمجموعات المدعومة من قبلها في النطاق الشمالي والشمالي الشرقي السوري، وتناهز المساحة الكلية لمناطق انتشارها في هذا النطاق 16 ألف كيلومتر مربع، وتنقسم إلى 3 مناطق أساسية، منها منطقتان متصلتان جغرافياً في الجانب الغربي من الحدود المشتركة، وتضمان مناطق تتبع إدارياً محافظتي إدلب وحلب، في حين تقع المنطقة الثالثة في قطاع منفصل في القسم الأوسط من الحدود المشتركة، وتضم مناطق تتبع إدارياً لمحافظتي الرقة والحسكة.
تضم المناطق الثلاث مدناً مهمةً في الشمال السوري، مثل الباب ورأس العين وتل أبيض وعفرين وأعزاز. السيطرة على المناطق الثلاث كانت حصيلة ثلاث عمليات عسكرية أساسية نفّذتها القوات التركية منذ عام 2016، بهدف رئيس وهو التأسيس التدريجي لـ “حزام أمني” على الجانب السوري من الحدود المشتركة، بعمق 30 كيلومتراً.
خلفية العمليات العسكرية الثلاث التي نفذتها تركيا في هذا النطاق، بدأت عملياً في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، حين أطلق حزب العمال الكردستاني، سلسلة من العمليات ضد الأراضي التركية، انطلاقاً من الحدود مع سوريا، ووصلت هذه العمليات إلى ذروتها في مطلع عام 1998، ما فاقم التوتر بين أنقرة ودمشق.
هذا التوتر عاد إلى الواجهة بعد سنوات من الهدوء في تموز/يوليو 2012، حين أصدرت الحكومة التركية تحذيراً شديد اللهجة للحكومة السورية، متهمة إياها بالعودة إلى دعم حزب العمال الكردستاني، والفرع السوري له “حزب الاتحاد الديمقراطي”، واتهمت أنقرة دمشق بتسليمها المدن المحاذية للحدود المشتركة، لعناصر الحزبين، من أجل تنفيذ هجمات على جنوبي تركيا، وهي اتهامات استمرت أنقرة في كيلها لدمشق خلال العامين التاليين، مع اقتراحها عام 2014، إقامة منطقة عازلة تفصل بين المناطق المحيطة بمدينة عفرين والمناطق المحيطة بمدينة عين العرب-كوباني، وهما النطاقان الأهم في منظومة الإدارة الذاتية للكرد في الشمال السوري، لكن لم تستجب دمشق لهذا الطلب، ولا الولايات المتحدة الأميركية والتحالف الدولي، اللذان كان يركزان جهودهما في تلك المرحلة على مواجهة تنظيم داعش، وكان لـ”قوات سوريا الديموقراطية دور أساسي في هذه الجهود.
ميدانياً، بدأ سلاح الجو التركي بممارسة أنشطته القتالية في الأجواء السورية منذ تموز/يوليو 2015، وفي 24 آب/أغسطس 2016، بدأ الجيش التركي العملية العسكرية الأولى في خطة فرض المنطقة العازلة على الحدود مع سوريا، تحت مسمى “درع الفرات”، وقد استمرت حتى أواخر آذار/مارس 2017، ونتج عن هذه العملية السيطرة على مثلث تبلغ مساحته ألفاً و900 كيلومتر مربع، يمتد ما بين مدن جرابلس شرقاً، وأعزاز غرباً، والباب جنوباً، وهو ما سمح بقطع التواصل بين مدينتي عفرين ومنبج، وبالتالي شقّ منطقة السيطرة الأساسية للكرد شمالي سوريا، ودفعهم إلى الضفة الشرقية لنهر الفرات.
أسس الجيش التركي في هذا المثلث نحو 22 نقطة مراقبة، ثم أطلق في كانون الثاني/يناير 2018، العملية الثانية في هذه الخطة وهي “غصن الزيتون”، بهدف أساسي وهو السيطرة على مدينة عفرين، وتوفير كامل نطاق محافظة إدلب، وهو ما تحقق فعلاً بحلول آذار/مارس من العام نفسه، وبهذا تكون النطاق الذي تنتشر فيه حالياً تركيا في الشمال السوري، ويضم محافظة إدلب وأجزاء من محافظة حلب، وهما تتاخمان مدناً عدة تعد من أهم الأهداف التي تسعى تركيا – في الوقت الحالي – للسيطرة عليها، وهي مدن عين العرب ومنبج، بجانب مدينة تل رفعت، التي تقع في الجيب الصغير الذي تسيطر عليه “قوات سوريا الديموقراطية” شمال مدينة حلب.
أنشأ الجيش التركي بعد انتهاء عملية “غصن الزيتون” عدداً كبيراً من النقاط العسكرية والمعسكرات، في نطاق ريفي حلب الشمالي والشرقي، عبر سلسلة من التحركات المؤللة للوحدات العسكرية التركية، في المناطق الشمالية لمحافظة إدلب السورية، التي أسست عشرات نقاط المراقبة في نطاق ريف حلب الغربي، وريف إدلب الجنوبي، وريف حماة الشمالي، وريف اللاذقية الشرقي، وذلك بالاتفاق مع إيران وروسيا، لمراقبة ما يعرف بمناطق “خفض التصعيد”.
بحلول أيلول/سبتمبر 2018، وطبقاً لتفاهمات أستانة، جرى الاتفاق على وجود 12 نقطة مراقبة تركية، لمنطقة خفض التصعيد في محافظة إدلب، وهي تختلف في وضعها القانوني عن قواعد الجيش التركي في عفرين، أو في المنطقة التي سيطرت عليها تركيا خلال عملية “درع الفرات” و”غصن الزيتون”.
انتقلت تركيا عام 2018 للتركيز على القطاع الشرقي من الحدود المشتركة مع سوريا، في اتجاه الأجزاء الشمالية من محافظة حلب، بجانب بعض المناطق التابعة إدارياً لمحافظتي الحسكة والرقة، وتحديداً القطاع الرابط بين مدينتي رأس العين وتل أبيض، بعمق يصل إلى 25 كيلومتراً، وقد سيطرت أنقرة فعلاً على هذا القطاع عبر العملية العسكرية الثالثة التي سمّيت “نبع السلام”، وأطلقت في الفترة بين شهري كانون الثاني/يناير وآذار/مارس 2018.
تعقيدات التعاون بين الجيش السوري و”قوات سوريا الديموقراطية”
بالعودة إلى خيار التعاون مع الجيش السوري، الذي يبدو أحد أهم “الخيارات” الواقعية أمام “قوات سوريا الديمقراطية” في هذه المرحلة الحساسة، ربما من المفيد العودة إلى مآلات محاولات التعاون بين الجانبين، التي مثلت عملية “غصن الزيتون” التركية عام 2018، المثال الأول والأبرز على طبيعة هذا التعاون وإمكانية تحققه على الأرض.
كانت العلاقة بين الجيش السوري ومكوّنات “الإدارة الذاتية” في شمال شرقي البلاد وفي نطاق شرقي الفرات، تشوبها في السنوات الماضية تعقيدات وخلافات عدة، خصوصاً في المناطق التي تتداخل فيها سيطرة كلا الجانبين، مثل محافظة الحسكة أقصى شرقي البلاد، ومناطق مثل حيي الأشرفية والشيخ مقصود في مدينة حلب، ومدينة تل رفعت شمالي حلب، وهي جميعها تعقيدات تعود إلى محاولات الإدارة الذاتية فرض “حكم ذاتي” في مدينة عفرين وغيرها من المناطق التي سيطرت عليها في شمال وشمال شرقي سوريا.
مع هذه التعقيدات، إلا أن “قوات سوريا الديموقراطية” -مدفوعة بخسارتها التواصل الجغرافي بين مدينتي عفرين ومنبج خلال عملية “درع الفرات” عام 2017- اضطرت إلى الاستغاثة بالقوات السورية قبيل بدء الجيش التركي عمليته العسكرية الثانية “غصن الزيتون” في كانون الثاني/يناير 2018. في ذلك التوقيت، وضعت دمشق بعض الشروط لقيامها بالتعاطي مع التحركات العسكرية التركية التي كانت مرتقبة في ذلك التوقيت، على رأسها عودة المؤسسات الحكومية السورية إلى ممارسة مهامها على نحو كامل في المناطق الواقعة تحت سيطرة الكرد قرب الحدود مع تركيا، خصوصاً مدينة عفرين، وكذلك انتشار وحدات الجيش وقوات الشرطة السورية داخل عفرين وحولها وعلى خط الحدود مع تركيا.
بدا في شباط/فبراير 2018، أن كلا الجانبين قد توصلا إلى حل وسط يسمح بوجود الجيش السوري داخل مدينة عفرين، وتوزيع بعض نقاطه على الحُدود المُواجهة لتركيا، مع بقاء الوحدات العسكرية الكردية داخل المدينة، إلا أن هذا الاتفاق لم ينفذ فعلياً، بعد أن أبلغت تركيا روسيا أنها ستنفّذ هجومها ما دامت القوات الكردية في عفرين ومحيطها، وفي نهاية المطاف شرعت أنقرة في عمليتها العسكرية، وسيطرت على مدينة عفرين.
على الرغم من هذه النتيجة، أظهرت الوقائع الميدانية أنه ربما كان هناك جانب “خفي” من جوانب التنسيق بين “قوات سوريا الديمقراطية” والجيش السوري، خصوصاً فيما يتعلق بتنقل التعزيزات الكردية من مدينة عين العرب-كوباني نحو مدينة عفرين، وهو ما كان يجري عملياً ضمن مناطق يسيطر عليها الجيش السوري.
التجربة الثانية للتعاون بين الجانبين كانت خلال العملية العسكرية التركية الثالثة “نبع السلام” في تشرين الأول/أكتوبر 2019، إذ بدأت موسكو والقاهرة بعد أيام من بدء العملية التركية مشاورات مع دمشق و”قوات سوريا الديموقراطية”، استهدفت إيجاد صيغة ولو موقتة تسمح بعزل الوحدات الكردية عن التماس مع قوات الجيش التركي، وإحلال وحدات من الجيش السوري مكانها، ما يحبط المبرر الأساسي الذي تتخذه أنقرة سبباً لتحركاتها العسكرية، وهو وجود الوحدات الكردية قرب الحدود المشتركة بين تركيا وسوريا.
تم حينذاك التوصل إلى اتفاق يتكون من مرحلتين أساسيتين، ويقضي بانتشار وحدات من الشرطة العسكرية الروسية والجيش السوري في نقاط محددة شمال وشرقي البلاد، وانسحاب الوحدات الكردية مسافات تتراوح بين 30 و40 كيلومتراً في عمق مناطق شرقي الفرات، وقد تقاطع هذا الاتفاق مع اتفاق رعته الولايات المتحدة بين الوحدات الكردية وتركيا التزمت فيه الوحدات الكردية بالانسحاب إلى الداخل السوري.
وقد دخلت الوحدات العسكرية السورية حينذاك فعلاً -بموجب المرحلة الأولى من هذا الاتفاق- مدينة عين العرب-كوباني وريفها، وعين عيسى شمال غربي الرقة، مناطق بريفي الرقة والحسكة، ومناطق أخرى في محيط مدينتي تل رفعت والقامشلي، بجانب مدينة منبج، التي دخلتها القوات السورية للمرة الأولى في تشرين الأول/أكتوبر 2019.
كذلك ثبّتت موسكو وجودها الدائم في مطار مدينة القامشلي. في كانون الأول/ديسمبر 2019، حاولت موسكو الإشراف على تنفيذ المرحلة الثانية من هذا الاتفاق، والتي شملت نشر الشرطة العسكرية الروسية في كل من بلدتي عامودا وتل تمر بالحسكة، ومدينة عين عيسى بالرقة، وانتشار قوات حرس الحدود السورية على طول الشريط الحدودي مع تركيا، بدءاً من مدينة منبج بريف حلب الشرقي، مروراً بمدينة عين العرب-كوباني، وصولاً إلى مدينة الدرباسية والمعبر الحدودي “سيمالكا – فيشخابور” الرابط بين الأراضي السورية وكردستان العراق.
لم يجرِ تنفيذ المرحلة الثانية من هذا الاتفاق على نحو كامل – خصوصاً ما يتعلق بانتشار شرطة الحدود السورية على كامل الشريط الحدودي مع تركيا – لكن بصرف النظر عن هذا، ساهم هذا الاتفاق على نحو رئيس في تجنيب مدن منبج وعين العرب وتل رفعت مصير مدينتي رأس العين وتل أبيض، اللتين سيطرت عليهما القوات التركية والوحدات الموالية لها وعلى النطاق الرابط بينهما خلال تلك العملية، إلا أنه يجب الوضع في الاعتبار أن هذه النتيجة كانت نتيجة لتوافق روسي – تركي، خصوصاً بعد الاشتباك المحدود الذي جرى في حزيران/يونيو 2019 بين القوات السورية ونقاط المراقبة التركية، خلال عمليات الجيش السوري في جنوب إدلب وشمال حماة.
هذه النتيجة الميدانية، ربما كانت من ضمن الأسباب التي دفعت دمشق وأنقرة لاحقاً، إلى الدخول في اشتباك عسكري مباشر، عدنه أنقرة عملية عسكرية رابعة سمتها “درع الربيع”، دارت رحاها في شباط/فبراير 2020، وتبادل فيها الجانبان الغارات الجوية، وحاصرت خلالها القوات السورية نحو 12 نقطة مراقبة تركية، في ريف إدلب الجنوبي، وريف حماة الشمالي، وريف حلب الغربي، وربما يجب وضع هذا الاشتباك في الاعتبار، لتحديد مدى جاهزية كلا الطرفين للاشتباك مع الطرف الأخر على نحو مباشر.
هل تلجأ “قوات سوريا الديموقراطية” إلى الخيار “السوري”؟
بالعودة إلى الموقف الحالي فيما يتعلق بعملية “المخلب – السيف” العسكرية التركية، التي جرى إطلاق جانبها الجوي في العشرين من الشهر الماضي، يمكن القول إن تركيا تستهدف من تنفيذها إكمال خطة “المنطقة العازلة”، بحيث تجرى السيطرة على مدن رئيسة مثل عين العرب-كوباني ومنبج وعين عيسى وتل تمر وتل رفعت، بحيث يكون الحد الشمالي لهذه المنطقة هو خط الحدود المشتركة، والحد الجنوبي لها هو طريق “إم-4″، بعرض من 20 إلى 30 كيلومتراً، وصولاً إلى الحدود مع كردستان العراق، لتتم بذلك عملية إبعاد القوات الكردية عن الحدود المشتركة بين تركيا وسوريا.
وإذا ما نظرنا إلى تجربة عام 2019، يمكن القول – نظرياً – إن الاستعانة بالقوات السورية وتمكينها من الانتشار في المدن الرئيسة السالف ذكرها، قد منعا أنقرة من محاولة دخولها، ولذا يبدو من التطورات الميدانية التي رصدت منذ حزيران/يونيو الماضي، أن “قوات سوريا الديموقراطية” والقوات السورية، قد استشعرتا مبكراً قرب انطلاق العملية العسكرية التركية الجديدة، فبدأت القوات السورية بتعزيز مواقعها التي كانت ترابط فيها بحسب اتفاق 2019، خصوصاً في نطاق أرياف حلب والحسكة والرقة، بجانب وصول فرقة مظلية سورية في تموز/يوليو الماضي إلى مطار مدينة القامشلي شرقي البلاد، وانتشارها في مدن عين عيسى وتل رفعت والباب ومنبج وعين العرب-كوباني.
هذه التعزيزات السابقة، تضاف إلى تعزيزات أخرى تابعة للفرقة 25-مهام خاصة بالجيش السوري، رُصدت في الأيام الماضية، في أثناء تجمعها شرقي وجنوبي مدينة حلب، ثم انتقالها إلى محيط بحيرة الأسد في محافظة الرقة، علماً أن هذه القوات قد تدرّبت في الفترة الماضية على عمليات الإنزال الجوي من المروحيات.
ويضاف هذا إلى تعزيزات سورية-روسية مشتركة، في ريف حلب الشمالي، في مدن “مرعناز” و”تل رفعت” و”الشيخ عيسى”، قرب خط التماس غرب مدينة “الباب”، وهي الجبهة الأقرب التي يرجّح أن تتقدّم فيها القوات الموالية لتركيا.
المعضلة الأساسية في هذه التعزيزات، تتعلق بعدم وضوح الغرض الأساسي منها، وما إذا كانت جزءاً من تفاهم “جديد” بين الجيش السوري و”قوات سوريا الديموقراطية”، أم تطبيقاً للتفاهم السابق، لكن بصرف النظر عن هذه المعضلة، يمكن القول إن الانتشار العسكري السوري في هذه النطاقات يمثل تحدياً مهماً أمام القوات التركية، وإن كان هذا التحدي قد تأثّر بعدم تطبيع العلاقات بين دمشق والإدارة الكردية الذاتية حتى الآن، واستمرار حال عدم الثقة المستمرة بين الجانبين، خصوصاً أن الطرف الكردي يتحسّس من نية سوريا إنهاء الحالة القائمة حالياً في حيي الشيخ مقصود والأشرفية في مدينة حلب، وجيب “تل رفعت” الكردي في ريف حلب الشمالي.
بالعودة إلى الوجود العسكري السوري، يمكن القول إن هذا الوجود وتعزيزه ربما يكونان عاملاً ذا حدين في تحديد ما إذا كان الجانب البري من العملية العسكرية التركية سيبدأ أم لا، فأنقرة كانت في عام 2019 وقد ربطت بين قبولها بوجود القوات السورية على الحدود المشتركة، وابتعاد القوات الكردية على نحو دائم وتام عن خط الحدود.
تضاف إلى هذا الأمر حقيقة أن سلاح الجو التركي قد استهدف، في الأسابيع الماضية وعلى نحو مباشر، وحدات الجيش السوري قرب مدينة تل رفعت، وموقعاً تابعاً للجيش في قرية “جيشان” في الريف الشرقي لمدينة عين العرب- كوباني، وبالتالي يمكن فهم أن الوجود العسكري السوري في النطاقات الكردية، لن يكون له، على الأغلب، حيال العملية التركية الموعودة، التأثير نفسه الذي مثله على العمليات العسكرية التركية عام 2019.
لذا يمكن من خلال هذه الزاوية فهم الاقتراحات التي قدّمها قائد القوات الروسية في سوريا، العميد ألكساندر تشايكو، إلى قائد قوات سوريا الديموقراطية، مظلوم عبادي، في اجتماع ضمّهما في مطار القامشلي أخيراً، وتمحورت حول سحب “قوات سوريا الديموقراطية” الأسلحة الثقيلة والمتوسطة من مناطق منغ وتل رفعت شمال حلب في اتجاه شرقي الفرات، وسحب عناصر المشاة التابعة لها من المناطق الحدودية في اتجاه حي الشيخ مقصود في مدينة حلب، ومن مدينة منبج في ريف حلب الشرقي نحو شرقي الفرات، ومن مدينة عين العرب-كوباني نحو الجنوب، على أن تتسلّم الشرطة العسكرية الروسية أو قوات سورية مهمة الانتشار في هذه المناطق، وهو ما يعني عملياً أن وجهة النظر الروسية -وربما الأميركية أيضاً- ترى أن تمركز الجيش السوري على الحدود مع تركيا، لا بد من أن يقترن بانسحاب القوات الكردية نحو شرق الفرات.
سيناريوهات المرحلة المقبلة في الشمال الشرقي السوري
نظراً إلى ما تقدّم، يمكن القول إن العامل الأوحد في منع أنقرة من تنفيذ الجانب البري من عملية “المخلب-السيف”، هو تولّد اتفاق برعاية روسية وأميركية لانسحاب القوات الكردية ممّا تبقى من مناطق متاخمة للحدود المشتركة بين سوريا وتركيا، بما في ذلك المدن الرئيسة عين العرب-كوباني ومنبج وعين عيسى وتل تمر وتل رفعت.
في حال تحقّق ذلك، ستكون أنقرة أمام خيار إكمال الجانب الجوي من عمليتها العسكرية، إلى أن ينفّذ الانسحاب الكامل للقوات الكردية من محيط الخط الحدودي، أو وقف العملية كلياً.
لكن على الجانب الآخر، وفي حال استمرار “قوات سوريا الديمقراطية” على موقفها الحالي، تظهر سيناريوهات عدة لطبيعة التقدّم البري للقوات التركية، وهنا يظهر السيناريو الأقرب، وهو أن يكون هذا التقدم على شكل “عملية محدودة” لا تستهدف سوى مناطق غرب الفرات، وتحديداً جيب “تل رفعت” في ريف حلب الشمالي، بجانب النطاق الواقع شرق مدينة الباب، خصوصاً مدينة منبج وريفها، مع تجنّب مدينة “عين العرب” نظراً إلى خصوصيتها.
هذا السيناريو يبدو أقرب لأسباب عدة، أهمها أنه لا يصطدم مباشرةً بالوجود الأميركي والروسي شرق الفرات، وإن كانت العملية التركية الواسعة تبقى مطروحة على الطاولة، خصوصاً في ظل عدم وضوح الموقف الأميركي من هذه العملية.
أخيراً، يمكن القول إنّ لجوء “قوات سوريا الديموقراطية”، مجدداً، إلى الجيش السوري، وتلويحها بخطر العملية التركية على جهود التصدي لتنظيم “داعش”، خصوصاً في ظل تزايد مؤشرات عودة التنظيم إلى نشاطه السابق شرق الفرات، وآخر إرهاصات هذه العودة كان هجوم عناصر التنظيم على دورية للجيش السوري في قرية “المسرب” غربي دير الزور، ربما يكون ذلك مفيداً على المستوى التفاوضي، لكنه عملياً لن يؤدي، على الأرجح، إلى النتائج نفسها التي من خلالها احتفظ الكرد بالقوام الأساسي لوجودهم على الحدود التركية عام 2019، وبالتالي يقف المكوّن الكردي أمام خيار الانسحاب التام من الخط الحدودي، أو مواجهة عملية عسكرية تركية، ستكون تفاصيلها مشابهة جداً لعملية “درع الفرات” عام 2016، وربما يكون هذا جزءاً من مشهد أكبر تتقارب فيه دمشق وأنقرة.