صحيفة الأخبار اللبنانية ـ
شربل كريم:
«الحلم» هي كلمة رافقت كرة السلة في لبنان خلال محطات كثيرة. أحلام عدة تحققت، وجمهور المستديرة البرتقالية لا يتوقف عن الأحلام. لكن هذه الأحلام بدأت تصبح سراباً مع ما يبدو احتضاراً تعيشه اللعبة أخيراً.
كان من المفترض أن يوقف اللبنانيون اليوم أحلامهم في النوم ويستفيقوا لمتابعة أول فصول حلمٍ في اليقظة اسمه التأهل إلى كأس العالم لكرة السلة من خلال بطولة آسيا، ففارق التوقيت الزمني بين بيروت والعاصمة الفيليبينية مانيلا، حيث تقام البطولة، يحتّم هذا الأمر.
لكن مهلاً هو حلم تبخّر؛ فقرار الاتحاد الدولي لكرة السلة قضى على كل شيء. لا، هنا في لبنان هم من يقضون على أحلام كرة السلة، التي تجسّدت واقعاً في فترةٍ ما، وفي أحلك الظروف؛ إذ لا يمكن نسيان أن اللبنانيين لا يعيرون أي اهتمام لأي شيء آخر عندما يختص الأمر بهذه اللعبة التي نفّست همومهم وأنستهم المصاعب، ومنها خلال حرب تموز 2006 عندما حضر المنتخب اللبناني في كأس العالم وحاز متابعة كبيرة في لبنان على وقع أصوات قذائف وقنابل العدو.
كلمة «الحلم»، هي كلمة لا يمكن إسقاطها من قاموس كرة السلة عندما نحكي عن لبنان، فهي طفت للمرة الأولى إلى العلن في العصر الحديث للعبة مع «عرّابها» الأزلي الراحل أنطوان شويري. هو رجل لم يتوقف عن الحلم، فأخذه شغفه في القطاع الرياضي إلى كرة القدم حيث تعاطف في التسعينيات مع فريق الحكمة، وظن البعض أنه مجنون عندما قالها بصراحة إنه يريد أن يجعل من الفريق بطلاً للبنان ثم يحمله إلى لقبي بطولة العرب وبطولة آسيا.
شويري شعر بالسعادة في تلك الفترة، فقال إنه من دون اتحاد نبيل الراعي ورهيف علامة لن يكون هناك أي مستقبل لكرة القدم في لبنان. كلامٌ تغيّر بعد سنوات قليلة؛ إذ حكى الرجل عن حربٍ شُنَّت عليه، فتغيّر حديثه عن علامة وقلّت حماسته تجاه اللعبة الشعبية الأولى آنذاك، وانسحب منها.
إذاً، قسم من حلم شويري سقط، فانتقل الرجل إلى ملاعب أصغر لصنع «إمبراطورية سلوية» على صورة تلك الإمبراطورية الإعلانية التي برع في إدارتها. وكانت البوابة دائماً الحكمة، وتظهّرت المشاهد المؤثرة الاستثنائية في قاعة نادي غزير، إذ لا يمكن نسيان أبداً الطريقة التي احتضن بها الكابتن إيلي مشنتف كأس بطولة آسيا للأندية عام 1999 وكأنها طفل مولود حديثاً. مشنتف قالها عامذاك: «لقد تحقق الحلم».
فعلاً كان حلماً؛ لأن الحكمة بات أول فريق عربي يحقق هذا الإنجاز القاري، ولكن…
ماذا بقي من حلم شويري في يومنا هذا؟ وما هي العناصر المتشابهة بين ما عمل عليه الرجل في إطار «البيزنس» وما يحصل من تحقيق مصالح شخصية حالياً؟
الحقيقة، يمكن القول إن الأوضاع التي آلت إليها كرة السلة حالياً لم تبقِ شيئاً من أحلام شويري؛ فوصولنا إلى المونديالات الثلاثة السابقة بات جزءاً من الماضي، وقد طغى الواقع السياسي المفروض على ملاعب كرة السلة، فانسحب من الأندية ليضرب الاتحاد ومنتخبه «المظلوم» في كل ما حصل.
لا شك في أن شويري عمل ضمن مبدأ «البيزنس» في مجال كرة السلة، وحاول كثيرون تقليده في فترة لاحقة من خلال ترؤسهم نادي الحكمة والعمل على جذب الإعلانات إلى الملعب بهدف الاستفادة المادية. لكن هذه المهنة كانت تحتاج إلى عبقري يشبه شويري؛ ففي الوقت الذي فشل فيه هؤلاء، عرف الرجل كيفية «قطفها» من خلال نشر اللعبة تلفزيونياً والاستفادة من ثمار الإعلان؛ إذ يحكي لاعبون سابقون في الفريق الأخضر أنّ مدربهم السابق غسان سركيس كان مشاركاً حتى في دفع عجلة «البيزنس» إلى الأمام، وذلك في تفسيرٍ لظاهرة طلبه وقتاً مستقطعاً قبل ثوانٍ معدودة على نهاية المباراة وفريقه متقدّم بفارق كبير ومريح. تلك الدقيقة من الـ«تايم أوت»، كانت مهمة جداً في إطار النجاح المتكامل فنياً وإعلانياً، باعتبار أنها تفسح المجال لإمرار إعلان عبر شاشة المؤسسة اللبنانية للإرسال التي اندمجت في العمل كلّه انطلاقاً من تعليمات «شويرية» ونزعة لفريق «المنطقة» أي الحكمة الذي تحوّل في فترة من الفترات ممثلاً للشريحة المسيحية في البلاد، رغم الاحتفالات التي كانت تعمّ المناطق المختلفة بالنجاحات الإقليمية والقارية للحكمة.
ومن تابع واقع لعبة كرة السلة في تلك المرحلة، يدرك تماماً أنه ليس بالغريب أن تطفو الطائفية أو السياسة هنا؛ إذ إن قلّة تعلم أنّ هذه اللعبة شكلت في تلك الفترة ملاذاً لأولئك الذين شعروا بالاضطهاد في ما عرف بمصطلح «المنطقة الشرقية». لقد أراد شويري، بحسب مواكب للأحداث ومشارك فيها، أن يشدّ العصب المسيحي بالدرجة الأولى والقواتي بالدرجة الثانية، فكانت فكرته جمع أكبر عددٍ ممكن من الناس حول هدفٍ معيّن وفي مكانٍ معيّن، حيث يمكنهم الظهور ككتلة متحدة. وهذا ما حصل فعلاً في قاعة نادي غزير، حيث توّج الحكمة باللقبين العربي والآسيوي. وهذا النجاح الضخم في إحراز اللقب القاري وما رافقه من هيجان جماهيري وازدهار في قطاع «البيزنس» دفعوا شويري إلى تسخير كل جهوده من أجل أن تحلّ البطولة الآسيوية ضيفة في لبنان مجدداً عام 2000، حيث احتفظ الحكمة باللقب بعد مجهود كبير. إلا أن المجهود الأكبر كان قبل تنظيم البطولة، حيث تركّز العمل على إقناع الإيرانيين بالتخلي عن التنظيم للمرة الثانية والسماح للحكمة باستضافة المنافسات مجدداً، وهو أمر عمل عليه الأمين العام للاتحاد الآسيوي أغوب خاتجيريان شخصياً، موفداً من شويري إلى إيران بعد إصرار كبير وتأكيد لتوفير كل المستلزمات لنجاح المهمة التي أتمّها الإداري الناجح بطبيعة الحال، مطلقاً الخطوة الأولى نحو تحقيق حلمٍ جديد.
اللعبة إلى ملاعب السياسة
ربما كان لشويري أفكاره التي عدّها مناوئوه في السياسة متطرفة إلى حدٍّ ما من خلال نزعته القواتية ودعمه للقوات اللبنانية التي تحوّل الحكمة محسوباً عليها في فترة مضت، لكن الرجل نجح في مهمته، وزاد من عدد الأحلام من خلال عمله هذا ليساهم بنحو رئيسي في تأسيس ونشر لعبة قوية أفرزت منتخباً قوياً وصل إلى ترجمة حلمٍ كان بعيد المنال، وهو بلوغ المنتخب اللبناني كأس العالم، فرفع «رجال الأرز» علم بلادهم في ثلاث مناسبات مونديالية.
وهنا يكمن الفارق بين ما صنعه شويري وما يعمل عليه «العرابون» الكثيرون الذين أخذوا بعضاً من أفكاره وأدواته وحوّلوها من طريق الخطأ الى سلاحٍ ضد أنفسهم وضد اللعبة، فكان المصير الأسوأ في صيف 2013.
كرة السلة سحبت الشعبية من كرة القدم لسنوات طويلة، وهذه الشعبية استمدتها منتصف تسعينيات القرن الماضي من العصبية المناطقية إذا لم نقل الطائفية؛ إذ عندما عرفت اللعبة رهجتها وتحوّلت الأولى في لبنان، انقسمت الاكثرية الساحقة من المشجعين بين الفريقين البيروتيين الرياضي والحكمة اللذين قسّما العاصمة سلوياً على غرار ما كان عليه الانقسام الجغرافي لها أيام الحرب الأهلية.
وهذه المعادلة أفادت اللعبة، وكانت بحاجة إليها في تلك الفترة لتصبح على امتداد الوطن ومحط اهتمام الجميع، فظهرت أعلام فرق كرة القدم مثل الأنصار والنجمة في مدرجات الرياضي، وبات سلوك المشجعين «متطرفاً» لفرقهم من دون أن يؤثر هذا الأمر على مسير اللعبة لعدم انعكاس الجو السياسي كثيراً عليها.
لكن الأمور تغيّرت بعد 14 شباط 2005 وسط انقسام البلاد بين معسكري الثامن والرابع عشر من آذار، فأصبحت ملاعب السلة سياسية بامتياز، وما عزّز هذا الأمر الحضور السياسي الكبير في دعم الفرق، واستخدام ملاعبها منصات انتخابية أو لترويج صورة ذاك السياسي أو غيره، فتغيّرت لهجة الهتافات ووضعت اللعبة السلم الأمني في خطر في أحيانٍ عدة.
إذاً، كرة السلة اللبنانية هي اليوم ضمن قواعد اللعبة والحسابات سياسية حالياً، فأصبحت أرضاً خصبة للعمل السياسي، الذي أخذها إلى الدمار من دون أن تعلم، فكما التجاذب السياسي بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية حول رعاية نادي الحكمة كان دليلاً على طبيعة النشاط السياسي في المجال السلوي، وأثّر بطريقة أو بأخرى على النادي الأخضر، كانت الضربة للآمال الوطنية عبر تعطّل الموسم والذهاب إلى المحاكم ومن ثم الإيقاف المرير.
ولا تقتصر الأمثلة على الحكمة في هذا المجال؛ إذ إن غالبية الفرق التي تشارك في بطولة الدرجة الأولى تلعب برعاية سياسية؛ فالأندية تحتاج إلى الأموال، وسط ذهابها إلى تطبيق الاحتراف في التعامل مع لاعبيها أصحاب الرواتب العالية، وليس لها سوى التيارات السياسية الطامعة بأصوات جماهير هذه الفرق حلاً لمشاكلها المالية.
وهذه الصورة تنطبق على النادي الرياضي، التابع سياسياً لآل الحريري، الذين لا تفارق صورهم قاعة صائب سلام في المنارة. ورعاية الشيخ سعد وتياره تأتي من خلال مؤسسات محسوبة عليهم مثل بنك البحر المتوسط أو تلفزيون المستقبل.
كذلك فإن الشانفيل أصبح ملوّناً باللون البرتقالي – العوني، والمتحد طرابلس يحظى برعاية الوزير محمد الصفدي، إلى فريقي عمشيت وبيبلوس اللذين يحظيان برعاية «رئاسية»، تخرج كرة السلة من ثوبها الحقيقي وتدفن أحلامها بنفسها أو بأيدي الطامعين بصناعة مجدهم الشخصي على حساب أحلامها.