قمة الدوحة بين التحشيش والتجييش
صحيفة المجد اﻷردنية ـ
فهد الريماوي:
وليسَ يَصحُ في الأفهام شيءٌ إذا احتاجَ النهارُ إلى دليلِ
(المتنبي)
غاب العقل العربي وتوزع ايدي سبأ.. أنكر ذاته، واستقال من وظائفه، وشطب الوعي والفكر والمنطق من معظم مجالاته وحساباته وحتى بديهياته.
سقطت كل علامات التعجب والاستغراب، لم يعد لها لزوم ولا محل لها من الإعراب، فالعجيب فقد عجائبيته لكثرة تكراره واجتراره والاعتياد عليه، والغريب فقد غرابته لشدّة حضوره وقوة ظهوره والتآلف أو التكيّف معه، والشاذ عن القاعدة بعدما أصبحت القاعدة ضالعة في الشذوذ والاستثناء والاتجاه المعاكس.. أمّا العيب فقد غاب عن شاشة التداول ولم يعد له وجود، لأنّ الذين استحوا ماتوا.
ما كان غريباً ومستهجناً بالأمس بات اليوم عادياً وطبيعياً ومألوفاً للغاية، وما كان ممنوعاً ومحرّماً في الماضي القريب أصبح هذا الأوان مباحاً وشرعياً ومعترفاً به، وما كان يثير الاشمئزاز والاستفزاز قبل عام أو عامين صار اليوم شهداً وترياقاً وشراباً يلذ الشاربين ويشعل حماس الطالبين، وحتى إنّ الخيانة –والعياذ بالله- أصبحت عادة معتادة، وقاسماً مشتركاً لدى اليسار واليمين، أو أهل الحكم ورهط المعارضين على حد سواء.
بغياب العقل العربي، غاب الضمير أيضاً، فالضمير أساسه حالة عقلية من شأنها التمييز –أولاً– بين الحق والباطل، وبين الصواب والغلط، وبين العدل والظلم.. ثم الانحياز -ثانياً– للحق والصدق والصواب على حساب الباطل والخطأ والكذب والاضطهاد والافتئات.
باختفاء الضمير الجمعي، تقهقرت المُثل والمبادئ والأخلاق.. انزوت في كهوف النسيان، وطفح بدلاً عنها سيل من الفهلويات والادّعاءات والتكاذبات والمعايير الزائفة والوهمية والافتراضية التي تغتال الحقيقة، وتقيم على أنقاضها مشاهد مسرحية وتمثيلية مسرفة في التضليل والخداع والاحتيال.
يوم الثلاثاء الماضي لم نشاهد على شاشات الفضائيات وقائع قمّة عربية، بقدر ما شاهدنا فصول مسرحية ميلودرامية هابطة جرى إخراجها في أحد زواريب الدوحة، وغاب عنها العقل والخلق والضمير معاً.. فلا الفعل حقيقياً، ولا الخطاب منطقياً، ولا القرار واقعياً، ولا مكان فيها للأماني والآمال الوطنية والقومية على الإطلاق.
معظم القمم العربية كانت فاشلة ومفلسة، وأسفرت عن طنين بلا رصيد، غير أنّها احتفظت بقدر ما من الشروط السياسية والضوابط القانونية والمعطيات العقلية، في حين افتقرت قمّة الدوحة إلى أدنى مواصفات القمم، وابتعدت كثيراً عن جادة الصواب، وغرقت بالكامل في بحر من الشذوذ والجنون، وتلفّعت بسحابة داكنة من الغاز والطوز والعار.
ولعل أبلغ ما يصح في وصف هذه القمة، ذلك المثل الشعبي القائل “تبدلت غزلانها بقرود”.. فرئيس القمّة قرد في صورة “حمد”، وأمينها العام عميل عبري يزعم أنه “نبيل العربي”، وممثل سورية البديل محض غلام متقلّب ومريب انتحل لنفسه اسم “معاذ الخطيب”، فيما ارتضى بقية الحضور بدور الكورس الذي أجاد القول والنشيد وفق ما تريده قاعدة “العيديد”.
هي قمّة البند الواحد.. بند ذبح العروبة من الوريد إلى الوريد، وسلخ جلدها بمدية عثمانية، وفرم لحمها في مفرمة قرضاوية، وبيع دمها في أسواق النخاسة الأمريكية، ومنح عرضها لفحول “جهاد المناكحة” المسعورين والمعبئين بالشبق الجنسي.
هي قمّة لا تستحق أدنى مناقشة عقلية أو مجادلة منطقية، لأنّها قمّة بلا مضمون قانوني أو إطار أخلاقي أو مستوى سياسي.. قمّة تنتمي إلى مسرح العبث واللا معقول الذي ابتدعه صموئيل بيكيت في مسرحية “في انتظار جودو”، وسار على نهجه يوجين يونسكو وآرثر أداموف وجان جينيه.. ثم تولّى “الخواجة حمد” نقله مؤخراً من عالم الأدب الراقي إلى دنيا السياسة الهابطة ورحاب القمم العربية البائسة.
كيف يكمن للعقل مناقشة اللا معقول، والتحشيش السياسي؟ كيف يمكن للحقيقة محاكمة الوهم، أو محاورة السراب والضباب؟ كيف يمكن للاستقامة أن تتفهم الخيانة، أو تبرر الانحراف والاعوجاج؟؟ كيف يمكن –عقلياً وضميرياً- مجادلة الداعين والساعين إلى تسليح المعارضة السورية التي تعيث في بلاد الشام فساداً، وليس المقاومة الفلسطينية التي تجهد في مقارعة المشروع الصهيوني؟؟.
صدقوني إنّ قمة الدوحة لم تسئ لسوريا أو تنل من صمودها وعزيمتها، بل أساءت إلى نفسها، ونالت من هيبة ذاتها ومكانتها، وبدت أمام العالَم ضعيفة وسخيفة وهاربة من التزاماتها القومية، ومسؤولياتها الجمّة في مواجهة التحديات، وحلحلة الأزمات، وإطفاء بؤر العنف، وتوحيد الجهود والطاقات والإمكانات ما بين المحيط والخليج.
لو لم تكن قمّة للعبث والكيد والغدر، لكان لزاماً عليها، وفي صدر أولوياتها، تشكيل لجنة رفيعة المستوى ترفع شعار “الحوار والتجسير والمصالحة الوطنية” ليس بين الحُكْم والمعارضة في سوريا وحسب، بل وفي مصر والعراق واليمن ولبنان والسودان وتونس وفلسطين وليبيا والبحرين التي تغلي جميعها بالصراعات البينية، وتسيل فيها الدماء يومياً، ويمكن لجبهاتها الداخلية أن تنفجر بأشد من الحاصل في سوريا، حال توفّر التمويل والتسليح والإسناد الخارجي.
ولكن ماذا نقول في زمن اللا معقول.. زمن الرويبضة المتخم بالنفط والجهل والغرور.. زمن القافلة العربية التي يقودها زنديق خان نطفة أبيه ورحم أمه.. زمن الفتاوى العابرة لحمرة الخجل وعلامات التعجب والاستغراب والاستفهام.. زمن يلخّصه بيت من الشعر للشاعر أحمد الصافي النجفي..
إنّا لفي زمنٍ لفرطِ شذوذهِ مَن لا يُجنُ به فليس بعاقلِ
عموماً، سوف تمضي هذه الحقبة بقضها وقضيضها.. بما لها وما عليها، ولسوف تأتي على أنقاضها مراحل وأحقاب أخرى يعضّ فيها هذا البعير القَطَري على بنان الندم، وتغوص مشيخته خلالها في جحيم المآسي والويلات والانكسارات، ليس بفعل فاعل أو انتقام منتقم، ولكن بحكم ناموس الكون ومنطق التاريخ وطبيعة الأشياء وقوانين الوجود.. فالثابت علمياً وتاريخياً أنّ نفخ الدول والبلدان أكثر من حجمها، وتحميلها من الأعباء والالتزامات فوق طاقتها، واستنزاف قواها ومواردها في معارك مفتعلة ليس لها فيها ناقة ولا جمل.. لن يعود عليها آخر الأمر إلّا بالخراب والخسران المبين.
انظروا في العالَم شرقاً وغرباً.. قديماً وحديثاً، وستجدون إنّ كل دولة تحمّلت فوق طاقتها، وتورّطت في مغامرات ومضاربات خطرة، ووسّعت أهدافها بأكثر من قدراتها، وسخّرت مواردها الذاتية لخوض معارك خارجية، قد باءت بالدمار والانهيار، بدءاً من الإمبراطورية الرومانية، وانتهاءً بالإمبراطورية السوفياتية، وانتظاراً للإمبراطورية الأمريكية التي توشك حالياً على الإفلاس.. وكم كان عالم الاجتماع الفرنسي، بيار بورديو مدهشاً ومصيباً حين قال: “إن أكثر أشكال الإقناع ضراوة، هي تلك التي تمارسها علينا طبيعة الأشياء”.
بئست قمة قائدها بعير، وحضورها نواطير، وعرّابها عثماني، وبرنامجها صهيوني، وعنوانها “جهاد المناكحة” وقرارها نابع من واشنطن، وغايتها إفساد ذات البين، وأداتها الرشوة والشرهة وشراء الذمم.. فلولا المال القَطَري الذي أطاح بالعقل العربي، وأسال لعاب الحاكمين قبل المواطنين، لما تلطّخت عيوننا بمشاهدة مثل هذه المسرحية الوهمية والعبثية السخيفة.. غير أنّ الحق جلّ وعلا يقول في سورة المسد: “تبت يدا أبي لهب وتب، ما أغنى عنه ماله وما كسب”، صدق الله العظيم.