في دمشق العروبة.. مرحباً بالرياض
صحيفة الوطن السورية-
د. أسامة دنورة:
إذا أردنا الحديث عن «ألف باء» العمل العربي المشترك، فإن تلك الأبجدية لا يمكن لها أن تُقرأ أو تُفهم بمعزل عن توافق سوري – سعودي مستدام، فهذا التوافق لا ينفك أن يكون ضرورة لا غنى عنها لتحصين العلاقات العربية البينية أمام محاولات الاختراق والتوظيف من أطراف دولية وإقليمية عديدة ترى جميعها في التشظي العربي المدخل الأنسب لفرض هيمنتها وأولوياتها بعيداً عن الأولوية العربية.
مما لا شك فيه اليوم أن الظرف الدولي والإقليمي مؤاتٍ لعودة العرب إلى العرب، ونبذ كل ما تمخضت عنه حقبة دامت عقداً ونيف من محاولات التفرقة وزرع الخلاف، وهنا فإن عودة الحرارة على خط دمشق – الرياض هي مطلب محوري وتأسيسي لعودة الاستقرار إلى المشهد العربي، وإلحاق هزيمة نهائية بقوى العدوان والتطرف والإرهاب عبر التكامل السياسي والإستراتيجي بين البلدين.
وفي إطار هذا المنحى الأخير المتعلق بمكافحة الإرهاب، فقد حققت القيادة السعودية، في عهد الملك سلمان ونجله الأمير محمد، انزياحات مهمة جداً في إطار المشهد السعودي والخليجي بشكل عام، وأنجزت مقاربات شجاعة وغير مسبوقة عملت بمحصلتها على إخراج المملكة من إطار مراوحة تاريخية، ومدّ وجزر بدا كأنه لا ينتهي، حيث عمل الأمير محمد في ظل حكم والده الملك سلمان على وضع حد نهائي لمحاولات الإرهاب الإخواني والتكفيري لتوظيف الوزن السياسي والمعنوي والاقتصادي للمملكة لمصالحهم الضيقة، مروراً بتخادمهم الغني عن التعريف وشراكتهم المؤكدة مع مصالح خارجية لا تمت للإطار العربي بصلة، فضلاً عن شراكتهم في الداخل مع أوليغارشيا محلية لم تكن سوى «كومبرادور سياسي» لقوى الهيمنة الخارجية ذاتها، وهو ما أدى بالمحصلة إلى محاولة تضليل بوصلة المصلحة السعودية الوطنية المؤكدة، والقائمة على أولوية الاستقرار والسلام والتنمية ضمن إطار من التعاون الإقليمي والدولي.
أثبتت القيادة السعودية الصاعدة امتلاكها رؤية إستراتيجية بعيدة النظر لا تقوم على مشروع تنموي اقتصادي اجتماعي تنويري يتجلى بـ«رؤية المملكة لعام ٢٠٣٠» فقط، بل تقوم أيضاً على استقراء معمق واستشراف واعٍ لطبيعة التحولات الدولية، ودور القوى الصاعدة في عالم ينحو باتجاه التعددية القطبية، ذاك الاستقراء الذي يعمل بثبات على دفع الدور السعودي نحو الفعل الوطني المستقل الذي يقدِّر بعين الخبير أولويات المصلحة السعودية ويسعى لتدعيمها.
وإلى جانب هذه الواقعية السياسية والرؤية البراغماتية للقيادة السعودية، لا يخفى على أحد أن الموقف السعودي يلعب اليوم دوراً مهماً في تبني سياسات حازمة وجدية تجاه العربدة الإسرائيلية، تلك العربدة التي تصاعدت بوتائر غير مسبوقة في ظل حكومة التطرف الإسرائيلي الحالية، فالدور القيادي للسعودية في إطار منظومة دول مجلس التعاون الخليجي تجلى في موقف متقدم تجاه حكومة الاحتلال، وهو ما عبرت عنه بنود البيان الصادر عن المجلس الوزاري لمجلس التعاون لدول الخليج العربي في دورته الخامسة والخمسين بعد المئة، حيث أكد البيان إدانة الاعتداءات الصهيونية على المسجد الأقصى، وإدانة سياسات الاستيطان، ومحاولات استهداف الوجود الفلسطيني في مدينة القدس، وسياسات هدم المنازل وضم المستوطنات، كما تجلى الموقف السعودي المبدئي في الرسالة المشتركة التي بعث بها وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي إلى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، والتي أدان فيها الوزراء تصريحات وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش حول إزالة بلدة حوارة من الوجود، وتصريحاته التي تُنكر حقيقة وجود الشعب الفلسطيني، وحسب تصريح الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربي جاسم محمد البديوي، فإن هذه الرسالة تأتي تجسيداً لموقف دول مجلس التعاون، بشأن قضية فلسطين، لكونها قضية العرب والمسلمين الأولى».
والحقيقة أن الموقف السعودي المبدئي لم يقتصر على التصريحات والإدانات، بل حقق ما هو أكثر أهمية بكثير، فالمصالحة السعودية – الإيرانية، والمسعى السعودي المبارك لإحلال السلام في اليمن، والتصريحات والمبادرات السعودية تجاه استعادة العلاقات الثنائية والعربية مع سورية، تصب جميعها في إطار تصليب الموقف العربي وتدعيمه في مواجهة التطرف الإسرائيلي، أضف إلى ذلك أن العلاقات المتنامية للمملكة مع الصين وروسيا تحقق رؤية جديدة تفيد في تدعيم توازن الموقف العربي، كما تحقق المساهمة الفاعلة في إزالة عوامل التناقض عربياً وإقليمياً.
إن العلاقات السورية – السعودية القوية كانت وستعود لكي تكون عمقاً إستراتيجياً متيناً لكل من البلدين والشعبين الشقيقين، فسياسة «فرّق تسد» أو ما يعبر عنه باللاتينية بعبارة divide et impera في أبسط تعريفاتها تقوم على تحقيق زيادة في السلطة والنفوذ عبر تفتيت تجمعات القوى المنافسة إلى أجزاء تكون بأحاديتها أقل قدرة من مجموعها، وتحقيق التوافق العربي، الذي لا بد له أن يسلك طريق الرياض – دمشق، هو ضامن رئيس لقطع الطريق على سياسات التفتيت، وتحقيق محصلة للقوى العربية المتعاونة بما يفوق كثيراً قواها منفردة.