في الحرب على غزة.. محاولات إسرائيلية يائسة لاستعادة قدرة الرّدع المفقودة!!
موقع قناة الميادين:
في النظرية الأمنية “الإسرائيلية” يتمّ النظر إلى عامل الردع بأنه يمثّل أهمّ مبادئ نظرية الأمن القومي “للدولة”، وأن فقدان هذا المبدأ يعني تعرّض “الدولة” لمخاطر وجودية تهدّد استقرارها، وربما في مراحل لاحقة تهدّد بقاءها.
دعونا نتفق أولاً على أنّ الهدف الأساسي والرئيسي لمجمل العمليات العسكرية الإسرائيلية، والمستمرة بنسق عال ومرتفع منذ تسعة أشهر في قطاع غزة على وجه الخصوص، لم يكن استعادة الأسرى الصهاينة من يد المقاومة، ولا إسقاط حكم حماس وتدمير مقدّراتها وتفكيك كتائبها، وإن كنّا لا نجادل في أنّ الأهداف سابقة الذكر موضوعة بالفعل على أجندة القيادتين السياسية والعسكرية في “الدولة” العبرية، وهناك مساعٍ لتحقيقها، أو على أقل تقدير تحقيق جزء منها، بغض النظر عن حجم هذا الجزء، أو التداعيات التي يمكن أن تنتج عنه.
ولكن الهدف الأساسي من وجهة نظرنا لكلّ ما يجري من عمل عسكري، وما يرافقه من جهد سياسي، وتغيير لمعالم الطبوغرافيا والتضاريس، والمناطق العمرانية في القطاع الصغير، وتدمير للبنى التحتية بشكل يصعُب معه إصلاحها أو إعادة تأهيلها إلا بعد سنوات طوال، إلى جانب قتل عشرات آلاف المواطنين الأبرياء، وإصابة عشرات آلاف آخرين، نسبة كبيرة منهم لن يبرأ جرحها، ولن يشفى سقمها حتى نهاية العمر، هو استعادة قدرة الردع الإسرائيلية التي تآكلت خلال السنوات الثلاثين الأخيرة، وانهار ما تبقّى منها بشكل مفاجئ صباح السابع من تشرين الأول/أكتوبر من العام المنصرم، بعد هجوم طوفان الأقصى المبدع، والذي بات يمثّل كابوساً لا يمكن الفكاك منه لكلّ قاطني “الدولة المستوطِنة”، ومن خلفهم قيادات هذا الكيان المجرم من سياسيين وعسكريين وأمنيين.
في النظرية الأمنية “الإسرائيلية”، والتي كانت على الدوام تتقدّم على ما سواها من نظريات، يتمّ النظر إلى عامل الردع بأنه يمثّل أهمّ مبادئ نظرية الأمن القومي “للدولة”، وأن فقدان أو سقوط هذا المبدأ يعني تعرّض “الدولة” لمخاطر وجودية تهدّد استقرارها، وربما في مراحل لاحقة تهدّد بقاءها كـ “دولة” تملك جغرافيا وجيشاً واقتصاداً.
ومع أنّ كلّ دول العالم تعرّف “الأمن القومي” الخاص بها بأنه “قدرة الدولة على الحفاظ على مصالحها القومية والدفاع عنها، وحمايتها من الأخطار التي يمكن أن تتهدّدها “، إلا أن “الدولة” العبرية تملك تعريفاً خاصاً بها، وهو يكاد يكون شاذاً عن كلّ التعريفات الأخرى، إذ عرّفه “ديفيد بن غوريون” أوّل رئيس وزراء ووزير حرب في “الدولة” العبرية، بأنه “الدفاع عن الوجود”، حيث إن مسألة الأمن القومي بالنسبة للكيان الصهيوني ليست مسألة وجود قومي فحسب، بل هي مسألة حياة أو موت، بالنسبة لكلّ سكّان تلك “الدولة” من المستوطنين اليهود.
ومع أن كلّ دول العالم التي تعاني من “عقدة” إثبات الوجود، تحاول أن تحافظ على بقائها من خلال التفاعل الحضاري والتعاون المشترك مع دول الجوار، بما ينسجم مع المصالح القومية لجميع الأطراف، إلا أن الكيان الصهيوني بحاجة إلى إثبات وجود من نوع آخر، يكاد لا يشبهه فيه أحد، حيث إن هذا الكيان أُقيم على أرض ليست ملكه، ولا ينتمي تاريخياً وحضارياً وثقافياً لتاريخها، وهو يحاول فرض سيطرته على شعوبها بالقوة، وهذا الأمر جعله في مجابهة دائمة مع محيطه بسبب سياساته العدوانية.
في العام 1923 من القرن الماضي، نشر” زئيف جابوتنسكي ” قائد عصابات “الإيتسل”، وقائد ما يُعرف “بالتيار التصحيحي” في الحركة الصهيونية، نظريته الشهيرة “الجدار الحديدي”، والتي تحوّلت بعد ذلك بسنوات إلى جزء مهم من العقيدة القتالية للمؤسسة الأمنية والعسكرية الصهيونية، وشكّلت وما زالت أيدلوجيا أحزاب اليمين في “إسرائيل”، والتي يقف على رأسها حزب “الليكود” اليميني المتطرّف، الذي يقوم رئيسه الحالي بنيامين نتنياهو بإدارة شؤون “الدولة” وكأنه الملك الذي لا ينازعه أحد، ويفرض على حلفائه وخصومه الكثير من المواقف التي يسعى من خلالها للبقاء متربّعاً على سدّة الحكم، تفادياً لملاحقته في قضايا الفساد المرفوعة ضده من جهة، وبسبب إخفاقه في معالجة آثار السقوط المدوّي في صباح السابع من أكتوبر المجيد من جهة أخرى.
في نظرية “جابوتنسكي” المشار إليها أعلاه، جاء مرتكز الردع في المقدّمة منها، إلى جانب مرتكزي الإنذار والحسم، حيث تُرجم هذا المرتكز لاحقاً إلى واقع عملي بعد أن تمّ تقسيمه إلى جزءين، الأول يتعلّق بردع الدول العربية والإسلامية، ومنعها من شنّ حرب على “الكيان الصهيوني”، من خلال المحافظة على تفوّق عسكري واضح ونوعي لصالح العدو، وكذلك الحفاظ على سياسة “الغموض النووي” للدولة العبرية، ليبقى الطرف الآخر مسكوناً بمخاوف وهواجس تمنعه من القيام بأيّ “مغامرة”.
والجزء الثاني يتعلّق بردع الفلسطينيين الذين يتحرّكون على شكل جماعات وتنظيمات، تعمل بأنماط وطرق تختلف شكلاً وموضوعاً عن عمل الدول، مضافاً إليهم فصائل المقاومة في الإقليم” كحزب الله” اللبناني على سبيل المثال، وهؤلاء يتمّ التعامل معهم وفق نظرية “ديفيد بن غوريون” الأصلية، والتي تعتمد بشكل أساسي على إلحاق خسائر مادية وبشرية كبيرة في صفوفهم، بهدف كسر روحهم المعنوية، والحد قدر الإمكان من إمكانياتهم التسليحية، والضغط على حاضنتهم الشعبية، ومن ثمّ الحصول على فترة هدوء طويلة نسبياً، على غرار ما حدث بعد حرب تموز 2006 في لبنان، عندما دمّرت “إسرائيل” جزءاً كبيراً من “الضاحية الجنوبية” من بيروت، وفق مبدأ “عقيدة الضاحية” التي وضعها رئيس الأركان السابق “غابي أيزنكوت” المنسحب حديثاً من حكومة الحرب الصهيونية، وتكرّر ذلك مرات عديدة مع قطاع غزة في الحروب المختلفة، التي أطلقت عليها “إسرائيل” (عمليات قتالية وتهدئة).
خلال سنوات طويلة تمكّنت “دولة” الاحتلال من الحفاظ على عامل الردع في وجه الدول العربية والإسلامية، مرسية في طريقها إلى ذلك الكثير من المعادلات والمبادئ التي لم يستطع أحد من تلك الدول كسرها، أو حتى الاقتراب منها، الأمر الذي وضع “الدولة” العبرية بـ “جيشها” وأجهزتها الأمنية، مثل الموساد والشين بيت، في مصاف الدول العظمى، على الرغم من أن هذه “الدولة” التي هي أقرب إلى المستوطنة لا تملك جذوراً عميقة في اليابسة بسبب صغر مساحتها، ولا تملك عمقاً استراتيجياً يمكن أن تلجأ إليه عند المحن والشدائد، ولا تملك أيضاً عدداً وافراً من الجنود المقاتلين يمكن أن يدافعوا عنها في حال واجهت حرباً ضروساً مع أعداء أقوياء وأشدّاء كما يحدث الآن، وهو الأمر الذي جعلها تناقش قانون تجنيد اليهود “الحريديم” للمرة الأولى في تاريخها.
إلا أن هذه المعادلات المشار إلى بعضها آنفاً والتي أرستها “دولة” الاحتلال بالحديد والنار، وضعف وهشاشة الطرف الآخر من دول وممالك ينخرها الفساد وحبّ السلطة، قد انهارت تماماً، وذهبت أدراج الرياح بعد سلسلة من المعارك والحروب مع قوى المقاومة في فلسطين والمنطقة، إضافة إلى بروز قوة إقليمية قوية ومقتدرة مثل الجمهورية الإسلامية في إيران، والتي كسرت قبل أقلّ من شهرين تقريباً نمط الردود الكلاسيكية التي ميّزت الدول العربية والإسلامية سابقاً في التعامل مع أي عدوان إسرائيلي، ووجّهت ضربة غير مسبوقة بالصواريخ البالستية والمسيّرات الانقضاضية لعمق “الدولة” العبرية، التي استنجدت بكلّ قوى الشرّ في العالم للذود عن قواعدها العسكرية، ومنشآتها الحيوية في وجه الهجمات الإيرانية .
في الحرب العبثية التي تشنّها “دولة” الاحتلال منذ تسعة شهور على البقعة الجغرافية الصغيرة في قطاع غزة، والتي لا تبلغ مساحتها أكثر من 360 كلم2، ويسكنها أكثر من مليونين وربع المليون إنسان، والتي ينهشها الفقر والجوع والبطالة بسبب الحصار المستمر منذ أكثر من ثمانية عشر عاماً، وبسبب تخاذل دول قريبة وبعيدة عن نصرتها، أو مد يد العون لها، تبدو الرغبة الإسرائيلية في استعادة قدرة ردعها المفقودة واضحة كالشمس في رابعة النهار، لا يحجبها غربال البروباغندا السوداء التي يروّجها نتنياهو وحلفاؤه، ولا مواقف وأكاذيب حليفه “الخرف” في البيت الأسود حيث غرفة عمليات إدارة المذبحة، والتي كان آخر فصولها في مخيم النصيرات قبل أيام.
في “إسرائيل ” يعتقدون أن الفرصة المناسبة للقيام بهذا الأمر قد جاءتهم على طبق من ذهب، وأن الواجب الوطني والديني والقومي يحتّم عليهم استغلال هذه الفرصة بالشكل الأنسب، من دون النظر إلى اعتبارات أخرى من قبيل حجم الخسائر التي يمكن أن يتكبّدوها، أو صورة “الدولة” التي حرصت خلال سني عمرها على الظهور كواحة للديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، وتقديس حياة مواطنيها، والحفاظ عليها، مهما كلّف ذلك من ثمن، أو تطلّب من جهد وتعب.
في الحرب المجنونة على غزة استخدم “جيش” الاحتلال كلّ ما في جعبته من وسائل عسكرية، وأدوات حربية، وقدرات وخبرات تُعدّ من الأفضل على مستوى العالم، ولا تُستخدم عادة إلا في مواجهة جيوش نظامية، وفي مسارح عمليات كبيرة، ولجأ إلى مروحة واسعة من الخطط العملانية، والتكتيكات القتالية، والتكنولوجيا الحديثة، مدعوماً بأكثر فرق العالم احترافية في مجال الحرب الإلكترونية والتجسّسية والسيكولوجية، وبخطوط دعم لوجستي لا ينضب معينها من أميركا وبريطانيا وصولاً إلى صربيا، وبخزائن من المال والذهب تنوء من حمل مفاتِحها طائرة وزير الخارجية الصهيوأميركي “أنتوني بلينكن”، الذي يبشّر مع كلّ زيارة له إلى المنطقة بمزيد من الذبح والقتل بحقّ الأطفال والنساء في القطاع المنكوب.
إضافة إلى كلّ ذلك استخدمت “دولة” الاحتلال سلاح الصمت الذي ضرب بأطنابه معظم الأنظمة العربية والإسلامية إلا من رحم الله، ووصلت عدواه إلى الشعوب التي على ما يبدو قد انشغلت بالبحث عن لقمة العيش في ظل ما تعانيه من فاقة وفقر من جهة، ومن جهة أخرى خشية من سوط الجلّاد الغليظ الذي يضرب بإذن الحاكم، والذي اكتوت بلهيبه ظهور الشرفاء الذين خرجوا دفاعاً عن فلسطين، ومناصرة لها في عديد البلدان.
إحدى أهم “التكتيكات” -إذا جاز التعبير- التي اعتمدت عليها “دولة” الاحتلال هي المجازر بحقّ المدنيين الفلسطينيين، والتي تسعى من خلالها لإحداث حالة من كي الوعي لدى الحاضنة الشعبية للمقاومة، من خلال قتل أكبر عدد ممكن من الشهداء “غير المقاتلين” في كلّ مهمة قتالية، بغض النظر عن عمرهم وجنسهم وتوجّههم الحزبي، إذ إن المطلوب فقط هو رفع عداد الخسائر البشرية لدى الطرف الفلسطيني، بما يدفع لاحقاً بحسب اعتقاد العدو وأجهزة استخباراته إلى ثورة جماهيرية في وجه المقاومة، وإلى إعلاء الصوت في وجهها لتقديم تنازلات تُنهي الحرب وتُوقف المجزرة، وهذا الأمر يبدو جليّاً في كثير من الصفحات المشبوهة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والتي يزداد نشاطها بعد كلّ مجزرة، حيث تطالب المقاومة بتسليم الأسرى، ووقف القتال، بل وتسليم بعض قادة المقاومة أنفسهم لـ “جيش” الاحتلال لحقن الدماء، وإيقاف الخسائر.
كلّ ما أشرنا إليه في الفقرة السابقة، وغيره الكثير مما لا يتسع المجال لذكره حالياً، يتوافق تماماً مع نظرية “بن غوريون” المُشار إليها في منتصف هذا المقال، والتي ركّزت على مبدأ أساسي يتعلّق بإحداث خسائر بشرية ومادية هائلة في صفوف “الأعداء “، بهدف كسر وإضعاف روحهم المعنوية، والضغط على حاضنتهم الشعبية، بما يؤدي إلى تضعضع جبهتهم الداخلية، واضطرارهم إلى تقديم تنازلات صعبة تصبّ في صالح الاحتلال.
حتى هذه اللحظة، وبعد هذا الوقت الطويل من القتال المحتدم في طول وعرض القطاع، والذي يقترب بدرجة غير مسبوقة من التحوّل إلى حرب إقليمية مدمّرة تأكل الأخضر واليابس في المنطقة، بفعل تعنّت الاحتلال، واستمراره في ارتكاب مذابح ومجازر يندى لها جبين الإنسانية، ويصغُر أمامها ما فعله التّتار في حاضرة الخلافة الإسلامية في بغداد، أو ما فعله الاحتلال البريطاني في قاهرة المعزّ، والفرنسي في بلد المليون ونصف المليون شهيد، وصولاً إلى الجرائم الأميركية في فيتنام وأفغانستان والعراق.
فإن ما يسعى إليه الاحتلال من أهداف، والتي تأتي في مقدمتها استعادة قدرة ردعه المفقودة لا يبدو أنه سيتحقّق، سواء بشكل كلي أو جزئي، بل إن ما تبقّى من هذه القدرة قد تبخّر بعد هزيمة السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وما تلاه من ملحمة خاضها وما زال الشعب الفلسطيني بكل قواه وشرائحه، مسنوداً بحلف المقاومة في الإقليم، والذي كان على الدوام إلى جانب قضايا المظلومين، وفي المقدّمة منها القضية الفلسطينية.
صحيح أنّ الثمن الذي دفعه الشعب الفلسطيني كبير جداً، ولا يمكننا في خضمّ الإشارة للخسائر الإسرائيلية التكتيكية منها والاستراتيجية أن نغض النظر عنه، أو نقلّل من تداعياته، وصحيح أن تبعات هذه المعركة الصعبة والقاسية ستترك ندوباً واضحة على الجسد الفلسطيني لسنوات طويلة مقبلة، إلا أن هذا الأمر لا يعني بأي حال من الأحوال أنّ العدو قد نجح في تحقيق أهدافه، ولا سيما على صعيد استعادة قدرة الردع، إذ إنّ المتابع لكلّ مجريات الأحداث في قطاع غزة، والمتأمّل في ردّ فعل الناس ولا سيما بعد حدوث المجازر والمذابح، يكتشف بما لا يدع مجالاً للشك أنّ الاحتلال قد فشل في كيّ وعي الشعب الفلسطيني، أو إفقاده الثقة في نفسه، أو في مقاومته الشريفة، وأنه على الرغم من حجم التضحيات الجسام لن يرفع هذا الشعب العزيز، ولا مقاومته البطلة رايات الاستسلام أبداً، مهما طالت المعركة، ومهما ازدادت الخسائر، ومهما بلغت التضحيات.
هذه الشعب الكريم والمعطاء، ومعه كلّ شرفاء الأمة وأحرار العالم، سيكتب يوماً ما لا نراه بعيداً نهاية هذه “الدولة” اللّقيطة، والتي لن تكون نهايتها أحسن حالاً من كل الاحتلالات على مرّ التاريخ، حتى لو ساندها كلّ الأشرار، ووقف معها كلّ القتلة والظالمين، حينها فقط سيشعر كل سكان العام بالطمأنينة والأمان، إذ إنّ بؤرة الشرّ والإفساد في ربوع المعمورة هي هذه “الدولة” المجرمة، التي اقترب زوالها إلى حد بعيد، وما ذلك على الله بعزيز.