فلسطين دولة .. بصفة مراقب
صحيفة الوطن العمانية ـ
علي عقلة عرسان (كاتب وأديب سوري):
ثمان وثلاثون ومئة دولة صوتت بالموافقة على رفع فلسطين إلى دولة بصفة عضو مراقب في الأمم المتحدة ومن مجموعة المئة والثلاث وتسعين دولة التي تشكل عدد دول الهيئة الدولية صوتت تسع دول فقط بعدم الموافقة على القرار على رأسها الولايات المتحدة الأميركية الظل العالي للصهيونية العنصرية وراعي ارهاب الدولة الذي تمارسه، والدولة الأعظم التي لا تستطيع رؤية واقع ما في الوطن العربي بما فيه فلسطين التاريخية التي تحتلها (إسرائيل) منذ عام 1948 خارج حدود ما ترسمه وتبلغه وتقرره الحركة الصهيونية النافذة الكلمة في بلاد العم سام.. ؟! وهذا عجيب في بابه من بعض الوجوه، ومستهجن وكريه من أبواب عدة، ولكنه ينسجم كليا مع التكوين الأساس لنشوء دولتين على أساس التميز العنصري والتطرف التلمودي والنزوع العدواني المغامر وهي عناصر كامنة في ما يسمى (الحلم) أو الاحلام الاميركية التي كلفت وما زالت تكلف العالم الكثير من الدم والمعاناة والخسائر المادية والمعنوية، أي أحلام المغامرين الأميركيين المؤسسين الذين لم يكونوا في أكثريتهم سوى خارجين على القانون بنظر المملكة المتحدة وهاربين من العدالة.
ومن اعجب المواقف المنحازة والمنافية للعدالة والمنطق مما ظهر ولفت النظر موقف بريطانيا العظمى من التصويت على قبول فلسطين دولة بصفة مراقب في الأم المتحدة.
فقد أعلن وليم هيغ وزير الخارجية يوم الاربعاء 28/11/2012 ان بريطانيا ستصوت بالموافقة على طلب فلسطين اذا تعهدت بالعودة إلى المفاوضات مع اسرائيل من دون شروط ـ أي مع بقاء الاستيطان المستشري مستشريا وعدم ملاحقة اسرائيليين في المحاكم الدولية، أي عدم رفع دعوى أمام محكمة الجنايات الدولية في لاهاي ضد أي اسرائيلي، سواء في قضية تسميم الرئيس عرفات أو في غيرها من الجرائم،؟! وإذا كان الشرط الاول هو استمرار لدعم بريطانيا الأعمى لدولة اسرائيلية ـ يهودية على ارض فلسطين بكاملها، وهو ما قامت وتقوم به منذ الانتداب لإنشاء تلك الدولة وحمايتها ورعايتها .. إلخ وهو معروف موصوف ويتصل بعداء مستمر للعروبة ومناصرة عمياء لليهود، وتلمودية متطرفة.. فإن الشرط الثاني يعد موقفا من العدالة والقانون ويضع اسرائيل والاسرائيليين فوق القانون، ويساعدهم على التخلص من العقوبة ويحمي جرائمهم ومجرميهم من العدالة؟! وتلك مطالب ذات بعد اخلاقي شائن ينبغي الا تمر هكذا من دون فضح تام وإدانة كاملة وشاملة لها، بصرف النظر عن موضوع التصويت.. وهكذا كان شأن الأميركيين والبريطانيين على الدوام، وسيبقى ما لم يضع له العالم حدا بوصفه اعتداء على العدالة ومناصرة للجريمة.
إحدى وأربعون دولة امتنعت عن التصويت لدولة فلسطين أو ضدها، وعلى هذا فقد اعلنت دولة فلسطين بما يزيد على اكثرية ثلثي الاعضاء في الامم المتحدة في يوم الخميس التاسع والعشرين من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 بعد مرور خمس وستين سنة على قرار التقسيم ذي الرقم 181 الصادر عن الامم المتحدة، وهو القرار الذي اعطى للفلسطينيين، اصحاب الارض الأصليين، دولة في حدود ما نسبته 44% تقريبا من وطنهم فلسطين، واعطى للإرهابيين الصهاينة المجلوبين من اصقاع الارض بمعرفة عصبة الامم، المغتصبين لفلسطين الذين رعتهم بريطانيا العظمى بصفة خاصة والغرب الاستعماري بصفة عامة، اعطى لهم القرار المذكور ما يقارب 66% من مساحة فلسطين.
ومن المعروف ان ذلك القرار الذي رفضه الفلسطينيون والعرب، وحق لهم ان يرفضوه لأنه يعطي جزءا من وطنهم التاريخي بناء على (وعد من لا يملك، أي بلفور، إلى من لا يستحق، أي اليهود)، وهو قرار أتى في اطار معاهدة سايكس ـ بيكو التي قسمت سوريا الطبيعية، بلاد الشام، إلى اربع دول لتتمكن من زرع جسم خبيث وكيان دخيل في قسم منها يفصل القسم الآسيوي من الوطن العربي عن القسم الإفريقي، ويشكل قلعة متقدمة للدول الاستعمارية تضمن مصالحها فيه وهيمنتها عليه، وتحول دون وحدة الوطن العربي ونهضته وتقدمه وقدرته على تحرير فلسطين من الاحتلال الاستيطاني الصهيوني.
اليوم نحن امام واقع سياسي جديد يتجلى فيه الانهزام والانقسام العربيان اللذان ينعكسان على قضية فلسطين وشعبها بأشكال سلبية عدة، وفي ظله يقبل الفلسطينيون والعرب، فرحين مهللين مكبرين، دولة فلسطينية في حدود 22% من المساحة الجغرافية لفلسطين التاريخية، ملغمة بالمستوطنات وبمخططات لتهويد القدس، تجعل وضعها عقدة العقد بوصفها المدينة المقدسة وعاصة لدولة فلسطين.. ويطلب التفاوض مع المحتل من دون شروط ليقبل بما قبلت به الأمم، ويوافق على وضع لدولة فلسطين على الارض التي يحتلها، حيث لسان حاله البائس يقول على لسان نتنياهو (لن يغير من الوضع شيئا على الأرض)، وهو في صلفه وعنجهيته تلك يهدد ويتوعد معتمدا على الدعم غير المحدود الذي تقدمه له الولايات المتحدة الاميركية وعلى قوتها وقوة حلفائها الغربيين المساندة تاريخيا للاحتلال الصهيوني وإرهابه وممارساته العنصرية وعدوانه المتجدد على الشعب الفلسطيني ودول عربية أخرى ما زال يحتل أراضي في بعضها، يشن عليها غارات في اوقات يراها مناسبة، ويهددها كلما طاب له ذلك.
ان قرار الهيئة العامة للأمم المتحدة هذا بشأن فلسطين يفرح الشعب الفلسطيني، ويسجله يوما تاريخيا مشرقا في مسيرة نضاله السياسي ـ الدبلوماسي على الخصوص، وهو يوم يغيظ أعداءه واعداء الانسانية الصهاينة ومن يأتمر بأوامرهم من الغربيين، ونحن مع ما يفرح شعبنا الفلسطيني العملاق في صبره وصموده ومقاومته وتضحياته وتمسكه بحقوقه، شعبنا الخارج بنصر على العدوان الصهيوني الاخير في غزة الذي كلف الكثير، ولكنه نصر للحق والشعب والمقاومة والارادة، وكل نصر وثبات على الحق والمبدأ يكلف صاحبه تكاليف كبيرة، فضلا عن ان هذا النصر شكل مدخلا لفك حصار ظالم على عزة طال أمده وأضنى في العمق، وشارك في التمكين له بعض عرب من العرب، ما زالوا ينسقون مواقفهم وسياساتهم مع العدو الصهيوني ويرون فيه (نصيرا) لهم على بعض قومهم وبعض اخوانهم في الاسلام!.
ان القرار الدولي التاريخي يمنح فلسطين صفة (دولة غير عضو بصفة مراقب)، ويمكن الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال الصهيوني، من خلال دولته المعترف بها عالميا اليوم، والمعترف بها عربيا منذ الاعلان عنها بلسان الرئيس المرحوم ياسر عرفات في مؤتمر الجزائر عام 1987 ، يمكن الشعب الفلسطيني من:
ـ المشاركة بالاجتماعات العامة دون حق التصويت.
ـ طلب الانضمام لبروتوكول المحكمة الجنائية الدولية والكثير من الاتفاقيات العالمية، الأمر الذي يجعله قادرا على اقامة دعاوى قضائية دولية ضد الجانب الإسرائيلي على الخصوص.
ـ المطالبة بقوة معززة بموقف دولي ينهي الاحتلال، لان الدول المعترفة بدولته لا توافق على بقاء الدولة التي اعترفت بها تحت الاحتلال.
ـ الانضمام إلى هيئات الامم المتحدة الكثير ومنها مجلس حقوق الانسان، وإلى اتفاقيات جنيف وملحقاتها، لا سيما الاتفاقية الرابعة، والدخول في المواثيق الدولية المتعددة.
وهذه المكاسب السياسية سيرد عليها العدو الصهيوني وحليفه الاميركي على الخصوص بعقوبات مالية وادارية واقتصادية منها إلغاء بروتوكول باريس الاقتصادي مع السلطة الفلسطينية، وبمزيد من التهويد والاستيطان والتضييق والضغط السياسي والتعقيد والتهديد الضمني الذي وعدت به الادارة الاميركية على لسان الناطقة باسم خارجيتها فكتوريا نولاند التي قالت يوم الاثنين الماضي: (نعتقد أنه ـ أي طلب العضوية ـ سيعقد المسألة وربما يكون خطوة إلى الوراء من حيث الهدف الاكبر وهو الحل التفاوضي) وغيرها ذلك مما تتفتق عنه قرائح العنصريين الصهاينة.. ولكنها بالمقابل، وعلى المدى القريب والتكتيكي، مكاسب سوف تساهم في تعزيز موقف المفاوض الفلسطيني ذي الدولة في مطالبته بانسحاب المحتل من دولته التي اعترف له بها دوليا في حدود المحتل من الارض الفلسطينية في حزيران (يونيو) عام 1967، وقد وعد الفلسطيني على لسان الرئيس محمود عباس، وهو يطلب الاعتراف بالدولة في تلك الحدود، بأنه لا يرمي إلى (نزع الشرعية عن دولة اسرائيل التي يعترف بها، ويرغب في التعايش معها)، وعبر الرئيس عن (التزام السلطة الفلسطينية بحل الدولتين) الذي تعيش بموجبه اسرائيل إلى جوار دولة فلسطينية مستقلة في سلام.
ان هذه الخطوة التي تأتي في ظل التردي العربي الراهن تشكل “انجازا” للسلطة الفلسطينية بنظر فلسطينيين كثر.. ولكنها في الوقت ذاته والظروف الفلسطينية والعربية ذاتها، تشكل بنظر فلسطينيين مقاومين ومناضلين بوسائل النضال كافة، مرتبطين بالحق والارض، تشكل قيدا للمقاومة ومصادرة ضمنية لها، فضلا عن التنازل عن 78% من فلسطين التاريخية، وترسيخ الاعتراف بدولة “اسرائيلية” عليها امام هيئة الامم المتحدة ووفقا لميثاقها، الامر الذي يشكل معطى في القانون الدولي، ومصادرة لاية مطالبة بتحرير فلسطين كلها، ومن ثم تضمر اعتراضا مستبقليا نوعيا على المقاومة لأن مسوغات وجودها تنتهي كليا بعد الانسحاب من الارض الفلسطينية المحتلة عام 1967 لأن ما يبقى من ارض فلسطين بيد العدو الصهيوني “اصبح بالاعتراف بالدولتين حقا له”؟! وهذا يصادر قضية جوهرية نقفز فوقها منذ عام 1964 وهي حقيقة ان نضال الشعب الفلسطيني يجب ان تبقى قضية حق تقرير مصير لشعب فوق ارض وطنه المحتل من النهر إلى البحر وليست قضية لاجئين أو قضية مطالبين بربع الوطن أو ربع الحق أو ربع تقرير مصير وربع استقلال وحرية وسيادة على الأرض ـ الوطن .
لا نريد ان نجرح الشعور بالفرحة، بل نبارك لشعبنا الفلسطيني انجاز هذه الخطوة.. ولكن لا نريد ان تحجب عنا البهجة حقائق الواقع والمصير والنضال والاهداف التي قضى على طريق تحقيقها شهداء فلسطين والامة العربية وشهداء من بلدان العالم الاسلامي واحرار ناصروا قضية عادلة لشعب عظيم.
نبارك للفرحين فرحهم، ونبقى من المتشبثين بحق الشعب الفلسطيني في وطنه فلسطين كل فلسطين من النهر إلى البحر ومعهم، ونبقى نبارك جهادهم، ونذكر في الاوقات كلها، ولا سيما في هذا الوقت بالذات، ومع وقع هذا الحدث التاريخي، حدث القرار الدولي بعضوية مراقب لدولة فلسطين في الامم المتحدة على الارض الفلسطينية المحتلة بعد 4 حزيران 1967 الذي سيكون له ما بعده من ايجابي قصير المدى محدود الفائدة وسلبي طويل المدى عظيم الأذى.. نبقى في هذا الوقت وسواه نذكر ونذكر بأن فلسطين عربية لشعبها في كل ذرة من ترابها ومفصل من تاريخها الممتد من اوائل الكنعانيين والعموريين العرب وحتى اجيال واجيال من الاطفال الذين يعبرون عن فرحهم وتباشير رجولتهم وبطولتهم بلبس الحطة والعقال.. وهي ليست بأي حال من الاحوال وطنا ودولة للصهاينة العنصريين ولا بأي شكل وتحت أي عنوان، ايا كان المسوغ أو الاجتهاد أو الفتوى أو الحل.. وان تحرير فلسطين مسؤولية عربية قومية عامة تقع على عاتق العرب المؤمنين بأمتهم وحقوقها وكرامتها، وفي المقدمة منهم ابناء فلسطين المؤمنون بحقهم التاريخي في وطنهم فلسطين، القائلون بحق تقرير مصير تام وشامل ومشرف، والمتمسكون بحقوقهم كاملة ومنها حق العودة الذي لا يغني ـ ان تم ـ عن حق تقرير المصير بحرية على كامل التراب الفلسطيني لشعب فلسطين كله.
ان هذا الوقت بالذات هو وقت الاعلان بملء الصوت وباتساع مداه بأن المقاومة حق وواجب، وانها يجب ان تبقى وتدعم وتعزز بوصفها الاختيار الأمثل المؤدي إلى التحرير وتقرير المصير.. وان دولة فلسطين المنشودة تعني للمقاومين ومن ينصرهم وللفلسطينيين ومن يقف إلى جانب حقهم ونضالهم وقضيتهم العادلة، هي دولة يمليها الحق الطبيعي لشعب وليست منة من أحد عليه، وانها لا يمكن ان تكون منقوصة السيادة على جغرافية فلسطين التاريخية كلها بنسيجها السكاني الغني، فهي دولة الشعب على كامل ارضه.. وهو ما بذل الشهداء على طريقه دمهم، وما ضحى الأسرى والمعتقلون وغيرهم من اجله، وما يجب ان نحفظه لهم من اهداف ونعمل على تحقيقه.
والله من وراء القصد
التعليقات مغلقة.