فرصة لبنان البديلة: التكلفة والخيارات
موقع العهد الإخباري-
أحمد فؤاد:
خلال العقود الأخيرة من عمر البشرية، وبدفع من التقدم الهائل في كل مناحي الحياة، تحولت الإدارة إلى علم كامل، يمنح الفرصة لاتخاذ القرار الأفضل، اعتمادًا على مفاهيم جديدة بالكلية، وقيامًا على ثورة الاتصال، التي جعلت المعلومات والبيانات متاحة أمام صاحب القرار الأول. وبرزت ضمن المفاهيم الجديدة الطارئة، ما تعرف بتكلفة الفرصة البديلة، وهي تعبير اقتصادي يعني الموازنة بين ندرة الموارد وتوسع الخيارات المتاحة لاستخدامها، وهو ببساطة يقيس ما يخسره متخذ القرار من فوائد بديل في حال إقدامه على بديل آخر، ولا تقف تكلفة الفرصة البديلة عند التكلفة المالية أو النقدية، بل تتعداها إلى هدر الوقت والناتج وأي فائدة أخرى ممكن تحقيقها.
والمفهوم بالكامل ليس جديدًا كله، إذ تعود صياغته إلى عالم الاقتصاد النمساوي فريدريش فون فيزر في كتابه نظرية الاقتصاد الاجتماعي الصادر في 1914، لكنه شهد تكثيفًا في دخوله إلى عملية صنع القرار، ليصبح جزءًا أساسيًا منها خلال العقود الأخيرة، ويضمن كفاءة الإدارة وحساب المخاطر والأرباح من كل قرار جديد.
والمثال المباشر والأكثر وضوحًا على ذلك هو لبنان، بلد أمامه تحديات هائلة تتعلق بتوفير الخدمات الأساسية لمواطنيه (الكهرباء)؛ أمامه عروض من روسيا والصين وإيران لبناء محطات كهرباء، لكن حكومته تنتظر الإذن الأميركي لاستجرار الكهرباء والغاز من مصر والأردن عبر سوريا، وبدوره ينتظر النظام المصري ورقة أميركية بالاستثناء من قانون قيصر ليبدأ مناقشات مشروع الربط الكهربائي.
ارتكبت الحكومة اللبنانية كل خطأ ممكن في عملية اتخاذ قرارها، بدلًا من إنتاج الكهرباء على أرضها وبمحطات حكومية تحت سيطرتها، ستقبل أن تستوردها، بما يعني قدرة الطرف الخارجي (واشنطن) على إيقافها في أية لحظة شاءت، وهو ما لا يجوز وصفه بقرار وفقط، لكنه جريمة في حق البلد.
على هذا النحو أيضًا قررت الحكومة الذهاب إلى حل صندوق النقد الدولي، لمحاولة إيجاد مخرج من أزمة مالية مزمنة تعاني منها الموازنة اللبنانية، علّ الصندوق يقرر أن يمد يده إلى لبنان بالحل الشافي، والذي يراه المسؤولون “الحل الأوحد” لمشكلة لبنان.
لكن قبل أن تذهب الحكومة إلى الصندوق فإن الأزمة الحالية في لبنان، وفي غيره من الدول العربية، هي أزمة الفقر، ولا شيء آخر قبلها أو يستحق أن يوضع قبلها، الحالة التي يجد فيها المواطن نفسه خارج مظلة رعاية دولته، مواطن هتكت خطوط حمايته فبات وحيدًا أمام عصف موجات التضخم وضغط الحاجة الشديد، ما يدفع بالمجتمع كله إلى وضع يائس مأساوي، نتيجته المباشرة هي ما نعاينه من حوادث انتحار يومية بين الشباب خصوصًا، إضافة إلى العامل الأخطر، وهو فقدان الانتماء تمامًا.
إذا طرحنا سؤالًا عن ماهية الفقر، على أي شخص، فإن إجابته ستدور في الغالب حول معنى العجز، وهو الأقرب للناحية العلمية والتطبيقية، العجز عن إشباع الحاجات الأساسية كالغذاء والملبس والمسكن، وربما يتوسع قليلًا تجاه العجز عن الحصول على الخدمات الإنسانية اللائقة كالتعليم والصحة، وهو التعريف المنطقي بعيدًا عن حصر مؤسسات التمويل الدولية له في أنه أزمة تنمية أو قلة معدل النمو لدولة ما.
في الدول العربية، والتي تستورد مع السلع من الغرب والشرق أفكارهما وأزماتهما، لا يبدو أن المسؤولين الحكوميين أو المتنفذين على علم كامل بهذا التعريف البسيط والمباشر لأزمة الأزمات في الشارع العربي، الفقر، الجميع يسير بغير هدى خلف بناء إنشائي فارغ المعنى والمضمون حول الأزمات الاقتصادية، وبالتالي يطيش التشخيص، وتأتي النتائج لما تنخرط فيه الدول من محاولات إصلاح بائسة جدًا، بل ومقززة، لا تعنى بعلاج المشكلة كما يراها شخص بسيط لم يحصل على قدر معتبر من التعليم.
بهذا القدر من الاستغفال والبلاهة، يجلس مسؤولو حكوماتنا الرشيدة مع مسؤولي صندوق النقد والبنك الدوليين، بحثًا عن إنجاز ما، وهذا الإنجاز يكمن في تقارير الصندوق السنوية أو الفصلية عن متوسط معدل النمو ومتوسط الدخل القومي، وكل ما هو متوسط آخر يسهل حسابه، ولا نعرف في النهاية طريقة لمراجعة ما يصدر، سوى ما نراه من نظرات ثقة كاذبة وانبهار بالنفس غريب يرتسم على وجوه من يعلنون الأرقام في وجوهنا.
وكلمة متوسط في حال كل دولة عربية، أمس واليوم، هي لفظة خادعة بداية، إذ إن الحال التعيس الذي آلت إليه الأمور يجعل من الكلمة فخًا منصوبًا ببلاهة، وكأن توزيع عوائد النمو يجري بمنتهى العدل والشفافية، وأن الزيادة في مخصصات الحكام والوزراء تساوي أو تتسق مع الزيادة التي قد يحصل أو لا يحصل عليها الموظف والعامل وأصحاب المعاشات، ولا يشعر المواطن/الضحية هنا بحجم المأساة سوى عقب مرور أسابيع أو شهور فقط على بداية عمليات الإصلاح ليجد جيوبه خاوية، ويدخل في دائرة جهنمية من العجز المتزايد عن تأمين احتياجاته الأساسية.
على هذا النحو من الجهل والاستسهال، تلجأ الدول العربية إلى الاستدانة كحل وحيد لمجابهة ميزانياتها المختلة، ولمواجهة الطلب الملح لاستيراد احتياجاتها، لكن ولأن الهدف مؤقت فالحل أيضًا مؤقت، زيادة الديون بمليارات الدولارات، ومن ثم العودة للنقطة صفر، لكن بوضع أسوأ، إذ تضاف الديون الجديدة إلى القديمة المتراكمة، وتربط الموازنة الجديدة مقدمًا بفوائد وأقساط ذهبت هباءً منثورًا.
وما يمكن إضافته في قصة نصائح صندوق النقد الدولي واشتراطاته على الدول العربية، هو ما جرى في مصر، التي يعرف أي متابع لصحافتها اليومية أزمتها بشكل مباشر، هي أن البلد يستورد 3 أضعاف ما يصدره تقريبًا، في عام 2020 على سبيل المثال استوردت مصر ما قيمته 70 مليار دولار، مقابل صادرات أقل قليلًا من 29 مليار دولار.
الأزمة إذًا أزمة غياب إنتاج وليست أزمة مالية، وهي تعني بشكل مباشر أن على الدولة أن تعدل هيكلها الاقتصادي وتتجه للتصنيع، أو تستمر في الاستدانة إلى ما لا نهاية لجبر العجز المزمن في موازنتها عامًا بعد الآخر.
لكن خبراء صندوق النقد الدولي يرون أن الأزمة في الطرق والسكك الحديدية والبنية التحتية، وإذا ما وفرت الحكومة هذه الأشياء فإن الاستثمارات الأجنبية ستسرع الخطى للمجيء وسيأتي معها الحل الأكيد. لكن حتى اليوم النتيجة صفر كبير في مجال جلب أي استثمار أجنبي يعمل بالصناعة.
على الجانب الآخر فإن مشروعات البنية التحتية وبناء المدن الجديدة للطبقة الوحيدة التي تستفيد وتتربح جاء على حساب الديون العملاقة، فارتفعت الديون المصرية منذ الاتفاق مع صندوق النقد الدولي في 2015 عدة أضعاف، الديون الخارجية حتى حزيران/يونيو 2021، سجلت 137.85 مليار دولار وفقًا للبنك المركزي المصري (ارتفاعًا من 43.2 مليار دولار في 2013)، فيما وصل الدين الداخلي الى 4.3 تريليونات جنيه (ارتفاعًا من 1.5 تريليون جنيه في 2013)، وتتكبد الموازنة المختلة مبالغ هائلة لمقابلة هذه الالتزامات تتمثل في فوائد تقدر بـ 579 مليار وأقساط 953 مليار جنيه بإجمالي 1.172 تريليون جنيه.
في النهاية تسبب دخول صندوق النقد الدولي، وفرض ورقته الإصلاحية على الحكومة المصرية في استمرار نفس الاختلال بالموازنة العامة للدولة، التي تبحث كل عدة أيام عن قروض جديدة لمجابهة الالتزامات، وفيما ترتفع القروض وترتفع بالتالي فوائدها وأقساطها، فإن الحال كما هو أو أسوأ على صعيد الإصلاح الجذري والحقيقي. في الحقيقة لم يقدم الصندوق لمصر سوى الإفقار المتعمد والممنهج لأغلبية الناس، فيما تذهب الأموال إلى طبقة وحيدة تحتكر القرار وتتلاعب في الأقوات وتمتهن السمسرة ولا تبحث في الوطن سوى عن العمولات.