غزة: إستراتيجيات المقاومة الأربعة
موقع شاهد نيوز الإخباري ـ
حسام مطر:
يستند “برادفورد لي” في دراسته “التفاعل الإستراتيجي: النظرية, والتاريخ للممارسين”, 2012, إلى كتابَي كل من كلاوزفيتز “في الحرب” وكتاب صن تزو “فن الحرب” ليستخرج منهما أربعة مفاهيم إستراتيجية تطبق للتنافس سواء السلمي او العسكري. وهذه المفاهيم الإستراتيجية هي: “المنع أو الحرمان”, “فرض التكاليف”, “مهاجمة إستراتيجية الخصم” , و”مهاجمة النظام السياسي للخصم”. كيف يقارب سلوك المقاومة الفلسطينية هذه الإستراتيجيات في ظل المعركة المحتدمة في غزة؟
تتجلى إستراتيجية “الحرمان” في جعل العدو يخلص الى تقدير باستحالة تحقيق النصر بكلفة منخفضة, بما يردعه عن شن هجمات إضافية أو عدم المجازفة أساساً, أو التحول نحو إستراتيجيات ذات تكاليف مرتفعة. تالياً تهدف إستراتيجية “فرض التكاليف” إلى دفع العدو نحو تبني إستراتيجيات مكلفة ومرهقة تستنزف موارده وتهدد استقرار نظامه السياسي وإرادته في استكمال القتال. منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة, سعت المقاومة الفلسطينية من خلال المسارعة إلى الاستخدام المكثف للقوة الصاروخية نوعاً وكماً وصولاً لقصف تل أبيب ومحيطها, الى إفهام صانع القرار الإسرائيلي أن الضربات الجوية لن تحقق له ما يرجو. الرسالة كانت أن المقاومة تمتلك مخزوناً إستراتيجياً هاماً, والأهم أنها تملك الإرادة والقدرة على استخدامه برغم كل الجهد الإسرائيلي في الرصد والاستهداف والاعتراض.
لم يكن الإسرائيلي في بداية العملية في وارد الدخول في حملة برية, بل كان يسعى لإنهاك المقاومة الفلسطينية بحملة جوية منخفضة التكلفة وتعزز الردع. يشرح رافاييل كوهين هذه الإستراتيجية بالتالي: “بمرور الوقت, تتحقق مكاسب متواضعة, بكلفة مقبولة, ودعم دولي واسع, وتأمل إسرائيل بإنهاك حماس”. (موقع المصلحة القومية, 17 تموز 2014). هذا الاستنزاف للمقاومة الفلسطينية من شأنه خلق ردع مؤقت يؤدي لفترة هدوء طويلة, إنها “إستراتيجية جز العشب”, التي لا بد منها دورياً كل بضع سنوات كما يشرح إفرايم إينيبار وإيتان شامير. (معهد بيغين – السادات, 11\12\2013).
لم تكن المقاومة الفلسطينية بوارد القبول بقواعد اللعبة هذه. حماس – كسلطة – تعاني من مأزق حقيقي بفعل الحصار, وحماس – كمقاومة- لن تكون قادرة على إيلام الإسرائيليين لدرجة الخضوع في حال اكتفوا بالحرب الجوية. ولذا يبدو أن مسارعة حماس لقصف تل أبيب مبكراً وثم إلى عمليتي التسلل البحري وصوفا النوعيتين (كلاهما قبل بداية العملية البرية الإسرائيلية) كانت تهدف لجذب الإسرائيلي نحو مواجهة برية, أي تبني قواعد اللعبة الأكثر ملاءمة للمقاومة.
هنا تتبدى الإستراتيجية الثالثة أي “مهاجمة إستراتيجية الخصم”, عبر إغوائه لتبني “سلوك ذاتي الانهزام”. وهذه إستراتيجية يمارسها عادة الطرف الأضعف كمصيدة للطرف الأقوى. بمعنى آخر هي تهدف لدفع العدو لممارسة التنافس وفق قواعد اللعبة التي تناسبنا, اللعبة التي نملك أرجحية الفوز بها, كما يشرح ستيفان روزن. لكن ما الذي يدفع الخصم للوقوع في هذا الفخ؟ قلة المعلومات, ضغوط الخوف, العقلانية غير المكتملة, وتجاهل التجارب السابقة. وعليه, جرى استدراج الإسرائيلي من خلال “استفزازت ميدانية مدروسة” نحو التورط البري. خلال الساعات الأولى للعملية اتضح أن المقاومة أعدت مسرح العمليات لسلسلة من الصدمات, أعداد القتلى ورتبهم كانت دليلاً كافياً على أن الإسرائيلي انزلق نحو المستنقع, وإن أبدى حرصاً على الإبقاء على حبال نجاة, كما تعلم من تجربة 2006 في لبنان.
وأخيراً إستراتيجية “مهاجمة النظام السياسي للخصم”, بما يهدد تماسك هذا النظام والتأييد الشعبي له. وهذا ما يتطلب فهماً عميقاً للنظام السياسي المستهدف, ثقافته الاجتماعية والإستراتيجية, ديناميكياته, وتوزع القوى داخله. وعند هذه المرحلة كثفت المقاومة من خطابها وحملتها الدعائية نحو الداخل الإسرائيلي الذي بدأ يعاني من ظهور الانقسامات والتناقضات تحت وطأة الصدمة والخسائر. التوترات داخل اليمين والتحالف الحاكم بدأت تشتد, بين الساسة والجمهور, بين الساسة والجيش, بين الوحدات القتالية والاستخبارات, وهذا كله يربك عملية صنع القرار ويقلص من فعاليتها.
بالمقابل, يركز الإسرائيلي على استخدام المجازر والتدمير الممنهج لتعقيد حسابات المقاوم الفلسطيني تحت وطأة ضغوط المعاناة الشعبية. لكن كم من الوقت يملك الإسرائيلي في ظل القلق الأميركي والرأي العام الدولي؟ تبدي إسرائيل حساسية متزايدة تجاه الرأي العام العالمي لأسباب عدة, منها: نمو دور الرأي العام وتأثيره خلال السنوات الأخيرة بفعل “ثورة مواقع التواصل الاجتماعي”, احتدام النقاش الغربي حول “جدوى” دعم إسرائيل التي يصفها كثيرون بأنها تحولت لعبء مادي وأخلاقي يؤدي الى استنزاف القوة الناعمة للغرب في الشرق الأوسط, وثم إن إسرائيل بحاجة للحفاظ على سردية ” الدولة الليبرالية الأخلاقية في وسط استبدادي متوحش”, كإحدى أدوات تعبئة الدعم الغربي. في ظل تراجع سطوة الآلة العسكرية الإسرائيلية خلال العقد الأخير, أضحت إسرائيل أكثر حساسية تجاه موقف الغرب منها, وهذا حال سيتفاقم في المستقبل.
إشكالية المعركة الحالية أنها بالغة التعقيد إذ تتداخل فيها مصالح عدة ولاعبون كثر. شكل التسوية يؤثر في صورة النظام المصري, علاقته مع حماس والإخوان, علاقة السعودية مع قطر وتركيا, علاقة حماس بإيران وحزب الله, علاقة حماس – فتح ومستقبل حكومة الوحدة, حماس – وباقي فصائل المقاومة, التوازن الإسرائيلي – الفلسطيني, أفق المواجهة بين حزب الله و”إسرائيل”, وثم المستقبل السياسي لنتنياهو ومصير حكومته. والأهم أن “إسرائيل” تدرك خطورة الانفلات الهستيري للعنف في الشرق الأوسط ومستوى المخاطر غير المسبوق فيه, وبالتالي فإن خروجها بمظهر الهزيمة من غزة قد يشجع كثيراً من اللاعبين للتحلل من قواعد الردع والتجرؤ على استهدافها.
المقاومة انتصرت, الكل يعرف ذلك, المعضلة الآن أمام حلفاء “إسرئيل” وشركائها, في كيفية تظهير صورة تلطف من وقع الانتصار. المجازر هي جزء من هذا “التلطيف”. لكن هل يمكن الوصول لصيغة “رفع حصار” قادرة على إرضاء الجميع بأي ثمن وزمن؟ أم هل يصرح الإسرائيلي أنه حقق جملةً من أهداف العملية البرية وثم يعلن هدنة من طرف واحد, ويحرج الجميع؟