غاز شرق المتوسط: أصل الحكاية
صحيفة العربي الجديد ـ
سمير صالحة:
تزامن موضوع تحريك التنقيب عن آبار الطاقة واستخراجها في شرق المتوسط قبل عقد تقريباً مع قرار الاتحاد الأوروبي التمدّد الاستراتيجي في هذه البقعة الجغرافية، عبر ضم قبرص اليونانية إلى المجموعة عام 2004، لتكون جسراً يوصلها إلى المنطقة، بعد تراجع فرص تركيا في العضوية الكاملة والانحسار التدريجي لهذا الهدف.
استطاعت أوروبا بسبب حاجتها إلى الطاقة، وضرورة التحرّر من الهيمنة الروسيةوالضغط النفطي العربي، في إنجاز عملية الاختراق الاستراتيجي هذا، تسجيل أكثر من هدف في مرمى لاعبين إقليميين ودوليين في المنطقة، من خلال عودتها إلى المكان الذي أُجبرت على مغادرته قبل سبعة عقود، وتموضعها مرة أخرى أمام حدود أهم مصادر الطاقة غير المكتشفة وغير المستخرجة بعد في شرق المتوسط.
كان هذا الحراك الأوروبي أيضاً سبباً في تحرك لاعبين إقليميين، مثل تركيا ومصر وإسرائيل، للاندفاع بحماس نحو حماية مصالحهم الغازيّة، حتى لا يتحولوا فريسةً بيد الشركات العالمية الأوروبية التي بدأت في الأعوام الأخيرة تتسابق على تقديم العروض والخدمات المغرية للدول المتشاطئة هناك.
لن يستغرب أحدٌ إذا ما وصلت الأمور بعد عامين، مثلاً، إلى درجةٍ من التعقيد والخطورة، تدفع الدول والحكومات إلى إرسال قطعها العسكرية البحرية لتواكب سفن البحث والتنقيب عن الطاقة واستخراجها. توجه تركيا منذ خمسة أعوام رسائل من هذا النوع إلى بقية الدول وكبار المساهمين في شركات التنقيب. وبدأت مصر وإسرائيل واليونان تسير على المنوال نفسه. وبدأت أقلام مصرية تكتب عن الدهاء السياسي لقياداتها التي أعادت بناء (وتحديث) أسطولها البحري الذي سيتولى عملية حماية حقوق مصر المائية، ويقطع الطريق على من يهدد “أكل عيشها”، كائناً من كان.
المزاج التصعيدي الهجومي وكيل التهم ولغة التحدي هي المهيمنة اليوم بين اللاعبين الأساسيين في تسيير الملف، بانتظار أن يتحرك لبنان والساحل الغزاوي، وتسترد سورية عافيتها. وفجأة يضع أحدهم أمامنا حكم المحكمة العليا المصرية، على خلفية دعوى تقدم بها سفير مصري سابق طالب، في أغسطس/ آب 2016 الماضي، بوقف تنفيذ وإلغاء الاتفاقيتين الموقعتين بين مصر وكل من قبرص وإسرائيل حول ترسيم الحدود المائية، بزعم أنه يترك لهما جزءاً كبيراً من مساحات حقول الغاز في شرق المتوسط، على الرغم من قرب هذه الحقول إلى السواحل المصرية.
أين نحن اليوم؟ كثير من التصريحات النارية والتهديدات المتبادلة التي تنذر ببوادر أزمة جديدة بين مصر وتركيا حول حقوقهما المائية في شرق المتوسط، وكأن ما عندهما من خلافات لا يكفي. يقول وزير الخارجية التركية، مولود شاووش أوغلو، إن الاتفاقية المبرمة بين مصر وقبرص حول تحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة قبل أربعة أعوام لا تحمل أي صفةٍ قانونية، لأنها تنتهك الجرف القاري التركي عند خطوط الطول 32، و16، و18 درجة، وترد مصر سريعاً أن أي محاولةٍ للمساس أو الانتقاص من حقوقها السيادية في المنطقة ستقابل بالمواجهة المناسبة وبكل الأساليب والوسائل.
وتقول أنقرة إن سبب اعتراضها على الاتفاقية حصة القبارصة الأتراك، بصفتهم شركاء في ملكية الجزيرة، ولهم حقوق غير قابلة للتصرف في الموارد الطبيعية المحيطة بها، فيما تتهم قبرص اليونانية أنقرة أنها تسعى إلى إرباك عمليات البحث عن الغاز التي تجريها في المنطقة. وتتمسك تركيا، على الرغم من تحسن علاقاتها الاستراتيجية مع روسيا في خطط نقل الطاقة، بفكرة أن التعاون الغازي مع إسرائيل سيعني مشاركتها في تقاسم أكثر من ترليون متر مكعب من هذه الموارد، والحصول على حصة لا بأس بها من 235 مليار يورو، وتقليص حاجتها للغاز الروسي والإيراني. وإنها من حيث المبدأ اعترضت على الاتفاقية القبرصية مع مصر وإسرائيل، في إطار حقها القانوني، وضرورة الخروج بتفاهماتٍ واضحةٍ ومحدّدة بشأن رسم الخرائط، بناء على معايير معروفة وواضحة في القانون الدولي، تقر بجملةٍ من الأسس بينها خصوصية منطقة شرق المتوسط بحراً شبه مغلق، والتفاهم بين الأطراف العشرة المتشاطئة، وتبنّي قواعد العدل والإنصاف والتقاسم النسبي حسب موقع كل طرف، ومساحته وجغرافيته، والتعاون والتنسيق في قضايا البحث عن مصادر الطاقة واستخراجها ونقلها. والمشكلة ليست بين أنقرة والقاهرة، بل بين دول متشاطئة عديدة في المنطقة. كما أن النزاع اللبناني الإسرائيلي والمصري الاسرائيلي والتركي القبرصي وتجاهل حصة غزة مسائل لا يمكن تجاهلها خلال الحديث عن التنقيب، واستخراج غاز هذه البقعة الجغرافية وتصديرها.
و”سعاة الخير” جاهزون كالعادة لصب الزيت فوق نار التوتر التركي المصري، فالرئيس التركي، أردوغان، برأيهم لن يتخلى عن المشروع العثماني القديم الجديد “إرجاع المنطقة إلى زمن السلاطين”، والبرلمان التركي، بمصادقته على تمديد عمل القوات البحرية التركية عاماً آخر، في المنطقة يكرس حقيقة “المطامع التركية وأهداف أنقرة للتدخل في الشؤون الداخلية لدولها”. ويقال في القاهرة إن القلق بدا واضحاً على تركيا من “المكاسب التي باتت تراكمها القيادة المصرية في هذا السياق، وتشمل إلى العلاقات السياسية والاقتصادية الروابط العسكرية”. ولا بد من الرد، مهما كان نوعه، مثل قرار محافظ القاهرة تغيير اسم شارع السلطان العثماني، سليم الأول، في حي الزيتون، بعد اعتراضٍ على التسمية التي لا يجوز منحها لسلطان يحمل لقب “أول مستعمر عثماني للبلاد”، حتى ولو كانت الحادثة وقعت عام 1517، وكانت في إطار إنقاذ مصر من حكم المماليك الذي طالب به المصريون وقتها، كما تقول وثائق الأرشيف التركي. وأعلن بعضهم عن إفشال “محاولة التوغل التركية في السودان”، بعد لقاء قمة مصري سوداني، وإفراغ الهدف التركي الاستراتيجي بالوصول إلى البحر الأحمر عبر خطة ترميم جزيرة سواكن، ومحاولة توقيع اتفاقيات أمنية وعسكرية بين الجانبين من مضمونه. وفي الأثناء، بدأ لبنان التحرك للاحتفال بتوقيع أول عقود النفط والغاز التي أبرمتها وزارة الطاقة اللبنانية مع ثلاث شركات عالمية، إيذاناً بدخوله نادي الدول النفطية.
وتفرح إسرائيل، لأن الجميع دخل مصيدة التناحر والمواجهات، حتى تكون هي أول من يصنع الاتفاقيات والتفاهمات، وبالطريقة التي تريدها، وتقطع الطريق على أية اتفاقات مائية على حسابها.
وبدأت تركيا تردد، أخيراً، أنها ستسرع عمليات التنقيب عن الطاقة واستخراجها في المنطقة بدورها، طالما أن بعضهم اختار الذهاب نحو عقد الاتفاقيات الثنائية، لحماية حصته ونفوذه،
وأنها قد لا تكون وقعت على اتفاقية قانون البحار عام 1982، إلا أنها لن تتنازل عن حقوقها المشروعة، وحصتها وحصة شريكها القبرصي التركي هناك. والحديث عن ضرورة حماية حقوق مصر في طاقة شرق المتوسط شيء والحديث عن إنشاء ترسانة عسكرية بحرية لحماية القرار المصري ومصالح مصر في شرق المتوسط شيء آخر. وقد تسرّعت مصر في عقد اتفاقيةٍ من هذا النوع مع قبرص الجزيرة، قبل أن توقع اتفاقية أكبر وأهم مع الجانب التركي نفسه، لأنها كانت، وبناء على مساحة السواحل بين البلدين والتواصل الجغرافي، ستمنح الجانب المصري حوالى 12 ألف كلم أكثر مما حصلت عليه في اتفاقيتها مع قبرص، والذي حدث الآن هو العكس، حيث حاصرت القاهرة نفسها باتفاقيةٍ من هذا النوع، تتحول إلى عقبة قانونية أمام الاتفاقيات اللاحقة التي ستوقعها مع الدول الأخرى المتشاطئة في شرق المتوسط. وأن عودة مصر إلى قلب المشهد الإقليمي بقوتها الاستراتيجية لن تزعج تركيا، طالما أن هناك دولة إسلامية أخرى، بثقل مصر ووزنها، إلى جانبها، في بناء منظومة شرق المتوسط الأمنية والاقتصادية. وكانت تركيا، في مطلع عام 2007، قد نفذت تهديداتها في التصدي لخطط حرمانها، هي وقبرص التركية، من حقوقها المائية والاقتصادية، وقامت بتحريك قطعها البحرية في وجه سفن التنقيب، وإقناعها بالعودة من حيث أتت. قبل أيام فقط، اعترضت قطع بحرية عسكرية تركية سفينة تنقيب تابعة لشركة إيطالية في شرق المتوسط، بحجة إجراء مناورات عسكرية هناك. ولن تتأخر تل أبيب والقاهرة كثيراً في اللجوء إلى اللغة والأساليب نفسها، خلال عامين على أبعد تقدير، لحماية مصالحهما.
مياه شرق المتوسط قادرة أصلاً على إنجاز كثير من خطوات المصالحة، وإزالة التوتر والخلافات، بما تقدمه من بدائل وخيارات مالية واقتصادية وإنمائية عملاقة للدول المتشاطئة.
خيار وحيد لا تناقشه الأطراف المعنية، لأسباب ونزاعات سياسية قائمة: أليس من الأفضل الإسراع في عقد طاولة حوار مشتركة على النمط الغربي في حماية المصالح وتقاسمها، كما جرى في اتفاقية المضائق التركية، أو اتفاقية بحر الشمال الثلاثية بين هولندا وألمانيا والدنمارك مثلاً، بدل الصراع على ملكية المكعبات المائية والبلوكات الوهمية في المنطقة.