عندما باع برج ايفل!
المحتال الأكثر تلوناً وخداعاً والمتصف بالوسامة ولباقة الحديث، نال لقب الكونت لرقته وأتقن 5 لغات بطلاقة وانتحل 45 اسماً، واعتقل عشرات المرات، منها 50 مرة في أمريكا وحدها.
ولد الكونت فيكتور لستج في النمسا عام 1890، ومنذ مطلع حياته قرر أن يرى العالم، فاتجه للغرب، ولم يجد مكاناً أفضل من السفن المكتظة بالمسافرين الأثرياء لكسب المال، بدأ بالتحدث مع رجال الأعمال الناجحين على متن الخطوط البحرية بين باريس ونيويورك، وحين تُدار دفة الحديث لمعرفة مصدر ثرائه يكشف وعلى مضض وبكل ثقة عن سر الصندوق، وفي النهاية وبعد إلحاح يوافق على أن يُظهِر الآلة الغريبة مُدَّعياً أنه صادف وجودها بحوزته.
كان الكونت فيكتور صبوراً شديد الحذر، يبدأ عملية الإحتيال بالشرح عن آلية عمل الآلة وذلك بإدراج ورقة نقدية من فئة $100 داخلها، مبدياً استياءَهُ من أن الآلة تستغرق 6 ساعات لطباعة ورقة واحدة من نفس الفئة، حينها يستشعر الضحية كمية الأرباح الطائلة التي سيجنيها، ويبدي استعداده لشرائها بمبلغ خيالي يصل أحياناً إلى $30,000، وعلى مضض ينظر الكونت فيكتور بعين الفراق إلى الصندوق إذا كان السعر المقترح مناسباً، وبعد أن تتم الصفقة وخلال الإثنتي عشرة ساعة التالية تطبع الآلة ورقتين أخريين، وبعد ذلك تستنفذ إمداداتها وتنتج ورقة فارغة، وبحلول وقت اكتشاف الخدعة يكون الكونت فيكتور قد اختفى.
وفي إحدى أيام ربيع عام 1925 بعيد وصول الكونت فيكتور إلى باريس واضعاً نصب عينيه عمليات احتيال أكبر، جلس يقرأ صحيفة، وتوقفت عيناه عند خبر صدأ برج إيفل وارتفاع تكلفة الصيانة والتصليح، وأن معظم الباريسيين مستاؤون ويرون بأن البرج القبيح يجب إزالته، ازدادت عيناه اتساعاً حين تراءَت له كافة الإحتمالات الممكنة خلف الخبر، ولمعت في رأسه فكرة جهنمية.
شرع الكونت فيكتور على الفور بتنفيذ المخطط الذي جعل منه أسطورة المحتالين للقرن العشرين، استأجر غرفة في إحدى الفنادق العريقة، وبدأ بالبحث عن أكبر تجار الخردة المعدنية في باريس، وانهمك في كتابة دعوات رسمية لستة من التجار للإجتماع سراً في فندق “كريون دي” لمناقشة صفقة تجارية، مستخدماً في ذلك أوراقاً حكومية مزورة.
حضر الجميع، وقدم الكونت فيكتور نفسه على أنه نائب المدير العام لوزارة البرق والبريد، واستطرد موضحاً: إنَّ اختياركم تمَّ بناءً على سمعتكم الجيدة كرجالِ أعمالٍ صادقين، وسكت برهة ليستجمع أفكاره ثم تابع: تعلمون أن التكاليف الباهظة لصيانة برج إيفل جعل من المستحيل الحفاظ عليه، لذا تقرر بيعه كقطع خردة وذلك من خلال تقديم العديد من المزايدات للحصول على حق هدم البرج وحيازة 7,000 طن من المعدن، ثم صمت لبرهة ليستشف وقع كلماته على وجوههم وأضاف قائلاً: أحيطكم علماً بأنَّ المسؤولية قد وضعت على كاهلي لتحديد التاجر المناسب للمهمة، لذا أرجو تقديم العطاءات في الغد على أبعد تقدير، واسترسل مشدداً: كما وأرجو أن يبقى الموضوع سراً فيما بيننا إلى أن تتضح جميع التفاصيل، ولا تنسوا بأن الأمر يعتبر سراً من أسرار الدولة.
استأجر الكونت فيكتور سيارة ليموزين واصطحب التجار في جولة تفقدية إلى البرج، مما أعطاه الفرصة لجس النبض في محاولة لمعرفة أياً منهم الأكثر حماساً وسذاجة، كان التاجر المدعو أندريه بويسون جديداً إلى حدٍ ما في المدينة، وسرعان ما قرر الكونت فيكتور التركيز عليه، وحين بدأ “أندريه” بإمطاره بوابلٍ من الأسئلة استغل الكونت فيكتور لهفته وبدأ بإغرائه قائلاً: أنا كمسؤولٍ حكومي لا أجني ما يكفي من المال لأواصل نمط الحياة التي أستمتع بها، وأحتاج إلى إيجاد سبلٍ لزيادة دخلي، وأنت تعلم أنَّ إيجاد مشترٍ لبرج إيفل يعتبر قراراً كبيراً، فهم “أندريه” مغزى كلامه، وتبادر إلى ذهنه أنه يتعامل مع مسؤول حكومي فاسد يريد رشوة، مما جعله يشعر بالراحة، فهذه الأصناف مألوفة بالنسبة له، وليس لديه أي مشكلة في التعامل مع أحدهم.
نجحت الحيلة، واستطاع الكونت فيكتور أن يحصد أموال بيع برج إيفل ($50,000) بالإضافة إلى مبلغ كبير من الرشوة ($20,000)، وفر هارباً على عجلٍ وبيده حقيبة ممتلئة بالنقود مستقلاً بذلك القطار المتجه إلى فيينا.
انتظر لفترة إلى أن يُعلن في الصحف عن قصة الإحتيال، وربما معها أوصافه بالإضافة إلى رسم سكيتش لصورته، ولكن من المستغرب أن شيئاً من هذا لم يحدث، فقد كان “أندريه” يشعر بالإذلال لدرجة أنه لم يبلغ البوليس وآثر السكوت على أن يـُفتضح أمر خداعه.
وبعد شهر عاد الكونت فيكتور إلى باريس ليعطي المخطط محاولة أخرى مع تجار آخرين، محاولاً بذلك تكرار نفس عملية الإحتيال ولكن بحذرٍ أكثر من أي وقت مضى، ولكنه هذه المرة شعر بأن أحد تجار الخردة الجدد الذين تواصل معهم قد أخطر البوليس، ففرَّ هارباً إلى الولايات المتحدة.
وفي شيكاغو، أقنع الكونت فيكتور أخطر عصابات المافيا وأغناها “آل كابوني” عن حاجته إلى $50,000 لاستثمارها في صفقة أسهم، ووعد بسداد المبلغ مضاعفاً خلال شهرين, اشتبه “آل كابوني” بالأمر، ولكنهم في نهاية الأمر سلموه المبلغ المطلوب، احتفظ بالمبلغ في صندوق ودائع، ثم عاد وأخذ المال لـِ “آل كابوني” مدعياً أن الصفقة لم تنجح وأنه عاد لسداد القرض، أعجب “آل كابوني” بنزاهته، وقرروا أن العملية التي قام بها لم تكن كارثية وأعفو عنه وأعطوه $5000، وهذا ما كان يريده، إذ لم يكن هدفه استخدام المال لأي شيء سوى كسب ثقة “آل كابوني” ومن ثم الحصول على بعض المال، مما ذاع صيته بأنه الرجل الذي استطاع خداع “آل كابوني” بدهائه.
وفي عام 1930 دخل الكونت فيكتور في شراكة مع كيميائي في منتصف العمر من مدينة نبراسكا يدعى توم شو ، كانت مهمته حفر لوحات لطباعة الأوراق النقدية المزورة، وأنشأوا نظاماً يعمل على ضخ أكثر من $100,000 شهرياً في جميع أنحاء البلاد، ونجح الكونت فيكتور في إبقاء الأمر سراً، وعلى مر الشهور استمر تدفق الملايين من العملة المزيفة، وحاولت المخابرات تعقب الكونت فيكتور مشيرين إلى فواتير مالية بإسمه والتي قد تعطل النظام النقدي في البلاد.
وفي إحدى ليالي عام 1935، كان الكونت فيكتور يمشي في أحد شوارع نيويورك، في البداية لم يكن المخبرون السريون واثقون من أنه هُوَ، فنمو شاربه الحديث جعلهم يترددون لبرهة، وعلى حين غفلة باغتوه وهو يُعدِّل من ياقة معطفه، وانقضوا عليه، نظر إليهم الكونت فيكتور مبتسماً وبكل هدوءٍ وسلاسة مدَّ يده وأعطاهم حقيبته، لاحظوا ندبة على وجنته اليسرى وهالة من السواد حول عينيه الحمراوين، ولدى استجوابه كان هادئاً مبدياً استعداده.
توقع المخبرون أن تحتوي الحقيبة على أوراق نقدية مطبوعة حديثاً أو ربما ملايين الدولارات من الأوراق النقدية المزيفة، ولكنها لم تحتوي إلا على الملابس الفاخرة والباهظة الثمن، وفي النهاية سحبوا محفظته من المعطف، ووجدوا فيها مفتاحاً، حاولوا جعل الكونت فيكتور يقر بأمر المفتاح ولكنه هز رأسه متجاهلاً، وبعد العديد من التحريات قادهم المفتاح إلى محطة مترو الأنفاق “تايمز سكوير” حيث فتح خزانة يعلوها الغبار، ووجدوا فيها $51,000 من النقود المزيفة.
احتجز الكونت فيكتور في المقر الفيدرالي الرئيسي في نيويورك – المعروف آنذاك بأنه منيعاً – بانتظار المثول أمام المحكمة، وبالرغم من تعدد التهم الموجهة إليه إلّا أنَّ اللعبة بالنسبة له لم تنتهي بعد، وكان يتفاخر بأسلوبه الهزلي بأنه ليس هناك سجن يعصى عليه في الهرب، وفي اليوم السابق لبدء المحاكمة ارتدى سروالاً ونعالاً وعقد أطراف أغطية الأسرَّة وتسلل هارباً من النافذة متظاهراً بأنه يمسح النوافذ وهو يتأرجح هبوطاً من الطابق الثالث للمبنى حيث رآه العشرات من المارة ولم يشك أحدهم بالأمر، وعند موعد المحاكمة توجه مسؤولي السجن إلى الزنزانة لإحضاره، وكم كان ذهولهم حين لم يجدوا أيَّ أثرٍ للسجين.
بعد شهر من الحادثة تم القبض عليه في بيتسبرج وأقر بأنه مذنب في التهم الأصلية، وحكم عليه 20 عاماً في سجن الكاتراز، وفي عام 1947 مرض بالإلتهاب الرئوي، ومات متأثراً بمرضه في المركز الطبي للسجناء في سبرينغفيلد بولاية ميسوري، وفي شهادة الوفاة تم إدراج مهنته كمندوب مبيعات مبتدئ.
موقع المردة