عن «موت» الاتفاق النووي الإيراني
صحيفة الوطن السورية-
عبد المنعم علي عيسى:
من الممكن الجزم بأن الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن لم يكن مختلفا في نظرته تلك التي كان يتبناها سلفه الديمقراطي باراك أوباما تجاه «الملف النووي الإيراني»، فكلا الاثنين كانا يتمترسان وراء نظرة حزبهما الديمقراطي، التي تقضي بوجوب شد طهران بعيداً عن محور موسكو – بكين تحصيلاً لمكاسب جمة، ولعل في الأمر رؤية تقول إن انجذاب طهران نحو الغرب، قد يفضي إلى تحولات داخلية من شأنها الدفع بشرائح ليبرالية إلى سدة السلطة مما يمهد الطريق أمام تكرار السيناريو السوفييتي الذي تسببت عوامل عدة فيه لكن من بينها الانفتاح على الغرب الذي أدى سريعاً إلى شق الطريق واسعاً أمام تلك الشرائح وصولاً إلى تفكك حزب السلطة ثم انهيارها، والشاهد هو أن أوباما كان قد مضى لتوقيع اتفاق فيينا تموز 2015 مع طهران في الوقت الذي كان فيه بايدن يشغل منصب نائب الرئيس، ثم إن برنامج هذا الأخير الانتخابي كان على رأس أولوياته إحياء «اتفاق فيينا»، والوقت لم يتأخر به، بعد وصوله إلى سدة السلطة في البيت الأبيض شهر كانون الثاني من العام 2020، حتى أطلق المفاوضات مع طهران التي ترمي للعودة إلى ذلك الاتفاق، أو إنتاج واحد آخر معدل عنه.
سرب موقع «بريكينغ نيوز» الأميركي يوم الثلاثاء 20 كانون الأول الجاري مقطعاً مصوراً لاجتماع في البيت الأبيض قال إنه جرى شهر تشرين الثاني الماضي، وفيه عرج المجتمعون على مناقشة الملف، والاتفاق النووي الإيراني، حيث راح كل من هؤلاء يدلي بدلوه في هذا الاتجاه، لكن الرئيس حسم النقاش عندما وصف الاتفاق بـ«الميت»، ولهذا التوصيف الذي جاء على لسان من تتقاطع عنده كل المعلومات والمعطيات، دلالات عدة أبرزها أن من العبث التفكير بإعادة الحياة إلى جسد ميت، والسؤال الآن الذي تفرضه السردية السابقة لماذا قال بايدن ما قاله بعدما كانت سياساته كلها تقوم على وجوب التلاقي مع طهران، بل تقوم على أن ذلك التلاقي ممكن؟
من الصعب القول إن بايدن ذهب نحو ما ذهب إليه نتيجة معطى داخلي إيراني يتمثل باندلاع الاحتجاجات التي تشهدها بعض مناطق إيران منذ شهر أيلول الماضي، فيكون عندها الرهان الأميركي، وفق ما ذهب إليه العديد من التحليلات، منصباً على إمكان أن تتطور تلك الاحتجاجات باتجاه سقفها الأدنى، على ضعف قبضة السلطة على كامل البلاد، والشاهد هو أن الموقف الأميركي الراهن من هذه الأخيرة لا يزال يراوح عند السقوف التي وقف عندها باراك أوباما في العام 2009 عندما شهدت البلاد أيضاً موجة من الاحتجاجات، والراجح أن الأمر يعود للحظ الإدارة الأميركية للتموضعات التي اتخذتها طهران ما بعد اندلاع الحرب الأوكرانية، وفي ذلك اللحظ، ترى واشنطن أن طهران تقاربت مع موسكو بدرجة لم تكن مسبوقة منذ أن انجلى العصر السوفييتي عن هذه الأخيرة، الأمر الذي يمكن تلمسه عبر تسويق الغرب لتقارير من نوع إقدام طهران على تزويد الجيش الروسي بطائرات مسيرة، ولربما صواريخ بالستية وفق تقارير أخرى، وهو ما تراه واشنطن تجاوزاً لكل الخطوط الحمر في صراع بدا من المؤكد أن النتائج التي سيفضي إليها ستكون راسمة ومحددة، للكثير من التوازنات الدولية، والراجح أيضاً أن واشنطن والغرب، نظرا إلى الرد الإيراني على «مسودة الاتفاق» التي تقدم بها الاتحاد الأوروبي مطلع شهر آب المنصرم، وقال عنها مسؤول العلاقات الخارجية للاتحاد جوزيب بوريل، إنها نهائية، على أنها نعي مبكر لـ«اتفاق فيينا» بحكم التموضعات الإيرانية من الحرب الأوكرانية، كما قال هذا الأخير بعد قراءة الرد الإيراني الذي اعترض فقط على توصيف المسودة بالـ«نهائية»، وقال إنها جيدة كأساس يمكن البناء عليه، ولا شك أن تلك النظرة الغربية كانت قد وقفت مطولا أمام تصريح لكمال خرازي، مستشار مرشد الثورة علي خامنئي، كان قد أطلقه من على منبر قناة «الجزيرة» قبل نحو خمسة أشهر، وفيه قال إن طهران إذا ما وجدت أن طريق العودة إلى اتفاق فيينا متعثر قد يكون خيارها هو الوصول إلى «العتبة النووية»، وهذا الخيار يعني امتلاك القدرات التقنية الكاملة للوصول إلى سلاح نووي من دون الولوج في مسار تصنيع ذلك السلاح.
الاتفاق النووي الإيراني لم يمت، والذي مات هو طريقة التعاطي الأميركية والغربية، في إدارة ذلك الملف التي كانت تقوم فيما مضى على الترغيب طوراً وعلى الترهيب أطواراً أخرى، وما كان صحيحاً قبل 24 شباط لم يعد صحيحا بعده، والمؤكد هو أن إيران كانت سباقة في لحظ المتغيرات التي فرضتها الحرب الأوكرانية، وسباقة أكثر في محاولة تجييرها لتكون خادمة لمصالح البلاد، وهي إذ تفعل تقيس انفراجة خطواتها بما يتناسب مع مقدار التهتك الحاصل في نسيج الهيمنة الغربية على العالم الذي وإن لم يتهتك تماماً لكنه أصيب بالتأكيد بشقوق بالغة الحدة بدرجة قد لا تفيد معها آلية «الترقيع» التي يجهد الغرب في إنضاج طبعات محدثة منها، وكنتيجة فإن الراجح الآن هو أن الغرب لن يمضي باتجاه التصعيد مع طهران، وهو لن يقوم بتمزيق «اتفاق فيينا» كما يوحي به توصيف بايدن الوارد أعلاه، وإنما سيجهد في المرحلة المقبلة نحو طرح «مسودة» أخرى لا تحمل صفة «النهائية» ولا يجري توصيفها على أنها «الفرصة الأخيرة» لأنه ببساطة لم يعد يملك حق إطلاق تلك التوصيفات، وبمعنى أدق لم يعد وكيلاً حصرياً يمنح الفرص حين يشاء، ويحجبها متى أراد.