عن الدولة والتيار الديمقراطي في العراق
صحيفة الخليج الاماراتية ـ
عبد الحسين شعبان ـ باحث ومفكر عربي:
للتيار الديمقراطي جذور عميقة في العراق، إذ لا يمكن الحديث عن الدولة العراقية المعاصرة التي تأسست في العام 1921 من دون الحديث عن نشوء تيار ديمقراطي بإرهاصاته الأولى . وكان الدستور العراقي الأول (القانون الأساسي) الذي صدر في العام ،1925 وهو دستور دائم تم سنه بمساعدة خبراء بريطانيين، ولكنه قياساً لزمانه كان متقدماً، وتجلى ذلك بتقنين الحريات، وخصوصاً حرية التعبير وإعلاء سيادة القانون وإجراء انتخابات لبرلمان عراقي، بغض النظر عن درجة تمثيله للسكان، وتزوير الانتخابات فيه، لكنه كان خطوة أولية لممارسة لم تكن الدولة العراقية تألفها من قبل .
لقد ولد التيار الديمقراطي في رحم الدولة العراقية الأولى، على الرغم من ارتباط هذه الدولة بمعاهدات واتفاقيات غير متكافئة مع بريطانيا، وهي اتفاقيات اقتصادية، تتعلق بالنفط أساساً، واتفاقيات عسكرية وأمنية، كما هي اتفاقية العام ،1930 ومحاولة فرض معاهدة العام 1948 المعروفة باسم “معاهدة بورتسموث”، التي أسقطها الشعب وأطاح الحكومة، والاتفاقية العراقية – البريطانية لعام 1954 وكذلك الاتفاقية العراقية – الأمريكية في العام نفسه، إضافة إلى “حلف بغداد” المعروف لاحقاً باسم “حلف السنتو” وحلف “المعاهدة المركزية” العام ،1955 الذي انسحب منه العراق بعد ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958 .
وبخصوص النفحات الديمقراطية الأولى لبلورة تيار ديمقراطي، فقد كانت هناك صلة وثيقة وعميقة بين أطراف التوجهات الوطنية، ممثلة بروافد ثلاثة: الجماعة اليسارية وخصوصاً النواتات الأولى في العشرينات، ممثلة بجماعة حسين الرحال والروائي محمود أحمد السيد وآخرين، والجماعة العروبية (القومية العربية) ممثلة بنادي المثنى وحزب الاستقلال وقيادات مثل محمد مهدي كبه وفايق السامرائي وصديق شنشل، والجماعة الديمقراطية التي تمثلت بجماعة الأهالي في العام 1932 وفرعها جمعية الإصلاح الشعبي، وضمت عبد الفتاح ابراهيم، وحسين جميل ومحمد حديد وعبد القادر اسماعيل، ثم انضم إليها في العام 1933 محمد جعفر أبو التمن وكامل الجادرجي وحكمت سليمان .
وأسس الجادرجي لاحقاً الحزب الوطني الديمقراطي في العام ،1946 وأصبح هو وحزبه الأكثر استقطاباً للتيار الديمقراطي الناشئ، وذلك عندما أجازت وزارة توفيق السويدي ووزير داخليتها سعد صالح خمسة أحزاب سياسية في العام 1946 وهي إضافة إلى الحزب الوطني الديمقراطي، حزب الشعب بقيادة عزيز شريف، وحزب الاتحاد الوطني برئاسة عبد الفتاح ابراهيم، وحزب الاستقلال (القومي العربي) برئاسة محمد مهدي كبه، وحزب الأحرار الذي ترأسه توفيق السويدي بعد استقالة الوزارة وأعقبه بعد فترة قصيرة سعد صالح الذي كان أكثر راديكالية من سلفه، وهو حزب خرج من معطف الحكومة ليرتدي بدلة المعارضة السياسية الديمقراطية .
كان التيار الديمقراطي الأكثر إيماناً وممارسة لمسألة الحوار وتقبل الرأي الآخر، والحوار كمبدأ وأسلوب سواءً كان مع الحكومة أو مع القوى السياسية، وكان الأكثر شفافية في التعامل الوطني، ولاسيما بالمقارنة مع التيارات الشمولية القومية واليسارية، فضلاً عن التعامل الداخلي بينه وبين قيادته وأعضائه .
وقد انتعش التيار الديمقراطي في الأربعينات بشكل خاص، وبالتحديد بين أعوام الحرب العالمية الثانية 1941- 1945 وبعده بعام واحد عندما أجيز حق تأسيس الأحزاب، لكنه بعد بضعة أشهر عادت المسألة إلى ما قبل الحرب، ولاسيما شح الحريات وتكميم الأفواه ومحاولة فرض معاهدات مع بريطانيا، لا يرتضيها الشعب، الأمر الذي قاد إلى احتجاجات وتظاهرات عارمة، لكن الحكومة قابلت ذلك بإصدار قوانين غليظة تحت عنوان مكافحة الأفكار الهدامة، وذلك عشية التمهيد لحلف بغداد .
الدستور العراقي الدائم الذي تم تشريعه في العام 1925 أطيح به في العام 1958 عقب الثورة، ولكن المفارقة الحقيقية، أن ” قيادة الثورة” ذاتها ضاق صدرها سريعاً، واستدارت بالبلاد بعد العام الأول من الثورة صوب الحكم الفردي- الدكتاتوري، بدلاً من التوجه لتوسيع دائرة الحريات وتأكيد احترام سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان وتعزيز المواطنة والانتقال إلى حكم نيابي يحظى بدعم الشعب من خلال انتخابات حرة ونزيهة .
وخلال الأعوام من 1958 ولغاية وقوع العراق تحت الاحتلال في العام 2003 حُكمت البلاد بنصف دزينة من الدساتير المؤقتة، ابتداء من دستور العام 1958 وقانون المجلس الوطني العام 1963 ودستور العام 1964 ودستور العام 1968 ودستور العام 1970 الذي استمر لنحو 33 عاماً .
وخلال فترة ما بعد الاحتلال حكم العراق بدستور مؤقت أطلق عليه “قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية لعام 2004″، الذي شرع في عهد بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق من 13 أيار/مايو 2003 – 28 حزيران (يونيو) 2004)، وكان هذا الدستور قد وضع مسودته الأولى اليهودي الأمريكي نوح فيلتمان، وعلى أساسه تم تشريع الدستور العراقي الدائم لعام 2005 والاستفتاء عليه في 15 تشرين الأول (اكتوبر) وإجراء انتخابات على أساسه بعد شهرين أي من 15 كانون الأول (ديسمبر) 2005 .
الدساتير المؤقتة جميعها قلصت الفرص أمام تعزيز وجود تيار ديمقراطي، وذلك بتوجهها الشمولي “التوتاليتاري”، وتحت عناوين مصلحة الثورة ولاحقاً “الحزب القائد”، ولعل دور الجيش والعسكريين، قد ارتفع رصيدهما بعد ثورة 14 تموز (يوليو) ،1958 الأمر الذي دفع التيار الديمقراطي المؤمن بالدولة المدنية الديمقراطية العقلانية الحداثية إلى الخلف، حيث ساد الرأي الواحد والذوق الواحد والزعيم الواحد، وما عداه فإنه محرم تحت عناوين مختلفة .
إن السعي لإعادة بناء تيار ديمقراطي ليس رغبة ذاتية فحسب، لأنه سيأتي إسقاطاً إرادوياً من فوق، بل يحتاج إلى مستلزمات موضوعية ليصبح حاجة، خصوصاً أن الأمر يتطلب إعادة نشر وتعزيز القيم والأفكار الديمقراطية في مجتمع عانى الاستبداد عدة عقود من الزمان، ففي التراث الديمقراطي للرعيل الأول من قادة التيار الديمقراطي مثل الجادرجي وعبد الفتاح ابراهيم وحسين جميل ومحمد حديد وآخرين كانت المسألة الوطنية ملازمة للمسألة الديمقراطية، في حين أننا نرى اليوم ضعف المناعة الوطنية إزاء التعاون مع القوى الخارجية، بزعم أن الحركة السياسية بقضها وقضيضها لم تكن قادرة على مقارعة النظام الدكتاتوري، وحدها، فما بالك بتيار ضعيف وقليل الإمكانات ويسعى لإعادة لملمة بعض من يحسب عليه، مع تبرير أن المسألة تستهدف “تحرير العراق” من النظام السابق وعندها سيكون لكل حادث حديث .
لكن الأمر لم ينتهِ عند هذا “التنظير”، بل استمر بالتعاون مع الاحتلال وقبول دستور قائم على أساس “المكونات” ويحتوي على العديد من الألغام ويتعارض مع الأسس الأساسية لدستور ديمقراطي، وجرت المسألة إلى تأييد اتفاقية عراقية – أمريكية مذلة مفروضة على العراق، وبين طرفين أحدهما ضعيف ومحتلة أراضيه والآخر قوي ومحتل، بل إن هناك من طالب ببقاء القوات الأمريكية ولا يزال يتشبث بوجودها، بل ويدعوها إلى حل المشكلات مع الأطراف الأخرى كلما حدثت مشكلة بينه وبين غرمائه العراقيين، وينسى هؤلاء جميعاً أن ما يسمى بالديمقراطية دون الوطنية، إنما هي تقود إلى قبول التبعية ومصلحة الغير على حساب المصلحة الوطنية، كما أن هذه الأخيرة دون الديمقراطية تؤدي إلى التفرد والتسلط والدكتاتورية .
مناسبة هذا الحديث كان حواراً دولياً جاداً ومسؤولاً في أنقرة شارك فيه نحو 400 أكاديمية وأكاديمي ومن جامعات وبلدان مختلفة شمل قضايا الشرق الأوسط، وكان الموضوع العراقي وخصوصاً الدولة ومآلاتها والتحديات التي تواجهها قد اندرج ضمن المؤتمر .