عزلة الإمبراطورية الأميركية.. استراحة بين حربين
لعل التحول الأكبر الذي يشهده عالمنا هو توجه القرار الامبراطوري الأميركي نحو الانكفاء على الذات أو نحو عزلة ما للانشغال بإعادة ترتيب البيت الداخلي. لكن ماذا عن طبيعة هذه العزلة. لعل استحضار سوابق تعامل القرار الامبراطوري الأميركي مع مفهوم العزلة يسهم في استكناه خصائص العزلة لديه.
بمجرد انتهاء حرب الاستقلال الأميركي (1775-1783) وتثبيت أركان الكيان الأميركي الجديد الذي تم إعلان استقلالـه كاتحـاد فيدرالي العام 1776، اتجه القرار الأميركي نحو إرسال سفنه إلى البحر المتوسـط كخـطوة مباشرة في مسعى امبراطوري. وخلال سنوات عمره الأولى، دخل القرار الامبراطوري الأميركي في حربه المتوسطية الأولى مع طرابلس عام 1805 التي عرفت باسم حرب الساحل البربري الأولى بسبب احتدام الخلافات بينه وبين يوسف باشا القرمانلي حول دفع ضريبة عن مرور السفن الأميركية قريبا من سواحل طرابلس. وقد أكدت كلمات جيفرسون ثالث رؤساء أميركا (1801-1809) في معرض حديثه عن مواجهة حاكم طرابلس أن حضور السفن الأميركية في البحر المتوسط جزءٌ من مسعى امبراطوري إذ قال: «سوف نلقن هذا العثماني الأبله درسا لن ينـساه في فنون القتال وسنجعله نصرا مدويا ندشن به حقبة جديدة لأسطولنا وتواجدنا العسكري في أكثر مناطق العالم حيوية، وبهذا أيها الســادة نكون قد خطونا الخطوة الأولى نحو بناء الامبراطورية الأمــيركية». لكن الحرب انتهت بإخفاق الولايات المتحدة واحتراق سفيــنة فيلادلفيا بالأسطول السادس ومحاصرة القوات الأميركية التي غزت درنة، وهو ما ترتب عليه فرض غرامات وضرائب على الولايات المتحدة ظلت تسددها للباب العالي ولحاكم طرابلس حتى عام1812. كما خاض القرار الامبراطوري الأميركي في 1815 حرب الجزائر أو حرب الساحل البربري الثانية والتي أسفرت عن معاهدة تدفع بموجبها الولايات المتحدة ضريبة لحاكم الجزائر.
أما بعد انتهاء الحرب الأهلية (1861-1865) وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914-1918) ، فقد اختار القرار الامبراطوري الأميركي الدخول في عزلة. خلال تلك العزلة انشغل القرار الأميركي بإعادة بناء اقتصاده الذي أنهكته الحرب الأهلية. وخلال تلك الفترة، استفاد الاقتصاد الأميركي من موجات هجرات الأدمغة الألمانية المتعاقبة التي سمحت له أن يقطع أشواطا واسعة في توطين حزمة من الاختراعات الحاسمة والصناعات الاستراتيجية كصناعات الأسلحة والأغذية والخشب.
ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى اختار القرار الامبراطوري الأميركي المشاركـة في الحـرب العالميـة الأولى العـام 1939 مشاركـة محـدودة كمساعد. وقد أسهمت مشاركته في الحرب في رجحان كــفة الحــلفاء. وقد اتضح أن النمو الذي حقـقه الاقتـصاد الأمـيركي خلال مرحلــة العـزلة التي دخلها كان وراء ملاءته الاقتصادية التي أسهمت في ترجيح كفة الحلفاء.
بعد أن أصاب الكساد الكبير البيت الأميركي خلال العشرينات والثلاثينات اختار القرار الأميركي العودة إلى العزلة لفترة محدودة. كان أبرز ما قام به القرار الأميركي خلال العزلة تغيير النموذج الليبرالي المتطرف الذي ظل يحكم النشاط الاقتصادي في البلاد بإحلال نموذج جديد جوهره توسيع دور الحكومة كضابط ومنظم للسوق وتحفيز دور اتحادات العمال. وخلال هذه المرحلة، استفاد الاقتصاد الأميركي من موجات جديدة من موجات هجرة الأدمغة الألمانية واليابانية في الارتقاء بمستوى البحث العلمي والتصنيع والاختراع. وكان صعود النازية من بين أبرز العوامل التي أفضت إلى هجرة الكثير من الأدمغة الألمانية تحديدا إلى الولايات المتحدة.
أما بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية في 1939، فقد اختار القرار الأميركي المشاركة الكاملة في الحرب بعد عامين من اندلاعها. وقد استغل القرار الأميركي قيام طائرات سلاح الجو الياباني بضرب السفن الأميركية وميناء بيرل هاربر في 7 دسيمبر 1941 في إقناع الشعب بوجوب المشاركة. وقد خرج القرار الأميركي من الحرب محققا أكبر المكاسب ومصابا بأقل الخسائر. ومرة أخرى، كانت الملاءة الاقتصادية النسبية التي حققها القرار الأميركي خلال مرحلة العزلة أحد أسباب النصر العسكري. وقد أتاح ذلك للولايات المتحدة أن تتبوأ مقعدها كواحد من قطبين يهيمنان على العلاقات الدولية.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في نهاية الثمانيات اختار القرار الأميركي خوض سلسلة حروب غرضها تثبيت مكانة الولايات المتحدة الجديدة كامبراطورية العالم العظمى التي لا منافس لها أي كقطب وحيد. وقد بدأت سلسلة الحروب تلك بالحرب ضد العراق العام 1991 لإخراجها من الكويت، والتي تبعها حصار العراق طيلة التسعينيات، ثم أعقب ذلك الحرب ضد يوغوسلافيا العام 1999. ومنذ العام 2001 جاءت موجة أخرى من الحروب شملت الحرب ضد أفغانستان والعراق، ثم لبنان في 2006 والتي قام القرار الامبراطوري الأميركي بدفع القرار الإسرائيلي لشنها لتأسيس نظام إقليمي جديد.
ومع نجاح المقاومة العراقية في إلحاق خسائر كبرى بالقوات الأميركية ومع إصابة الاقتصاد الأميركي بأزمة مالية خانقة اختار القرار الامبراطوري الأميركي العودة إلى عزلة نسبية. خلالهـا، انشغـل القــرار الأمــيركي بعــدد من المفات الداخلية كتحفيز الشركات الكبرى وتصحيح أطر التأمين الصحي وأنظمة الهجرة وخفض الإنفاق العام. وخلال الانشغال بترميم البنيان من الداخل، امتنع القرار الامبراطوري الأميركي عن المشاركة الكاملة في حرب «الناتو» ضد جيش القذافي في 2011، وفي محاربة سوريا في 2011.
عندما ننظر في سلوك القرار الامبراطوري الأميركي عبر هذه المحطات، تستوقفنا الملاحظات الآتية:
الملاحظة الأولى: أن المسعى الامبراطوري مُكوِّنٌ تأسيسي من مكونات السياسة الخارجية الأميركية. المقصود بذلك أنه من المساعي المعبرة عن تصورات تأسيسية قام البنيان الجمعي الأميركي لتحقيقها فغدت جزءا من سبب وجوده raison d’etre. ولعلنا نستحضر أن الولايات المتحدة الأميركية هي من الدول الجديدة التي أسست بكليتها في سياق نسق الحداثة الذي أخذت تباشيره تظهر اعتبارا من نهايات القرن الثالث عشر. ومعلوم أن مفهوم الاستعمار مكون تأسيسي من مكونات الدول الحداثية الكبرى. ومن ناحية نُظُمَية، فإن التصورات التأسيسية تظل في الغالب الأعم حاضرة في سياسات الدول منذ تأسيسها وحتى فنائها.
الملاحظة الثانية: أن الفهم السائد للعزلة خلال المسيرة المذكورة هو أنها عزلة مؤقتة غرضها الاستعداد الاقتصادي والعسكري لجولة جديدة من جولات المسعى الامبراطوري. وفي ذلك يلاحظ أن سياسة العزلة في الفكر السياسي الأميركي لم تختلف عن سياسة العزلة في الفكر السياسي الامبراطوري البريطاني خلال القرن التاسع عشر التي عرفت باسم العزلة الرائقة splendid isolation والتي كان جوهرها الابتعاد عن الدخول في مواجهات القوى الأوروبية ضد بعضها. وقد تمت صياغة المصطلح لبيان كيف أن الانكفاء الجزئي على النفس قد منح القرار البريطاني فرصة النمو الاقتصادي وعدم استنزاف الذات في الانفاق العسكري. المهم بالنسبة للعزلة البريطانية أنها قد جاءت ضمن إطار استمرار الحضور البريطاني في الساحة الدولية بل استمرار النهج الاستعماري البريطاني. باختصار، لم يكن معنى العزلة التي عرفها القرار الامبراطوري الأميركي والبريطاني من قبله الانكفاء الكامل على الذات.
الملاحظة الثالثة: ان القرار الامبراطوري الأميركي في أكثر من مناسبة قد واجه صعوبة في إقناع الشعب الأميركي بضرورة الخروج إلى الحرب، وهو ما اضطره إلى توظيف هجومين جسيمين على الوطن في 1939 وفي2001 لتسويغ الخروج إلى الحرب. إن معنى ذلك أن ثمة توجها لدى قطاعات واسعة ضمن الشعب الأميركي جوهره رفض المشاركة في الحروب. من ثم، فهنالك قناعتان متناقضتان. القناعة الأولى هي وجوب استمرار المسعى الامبراطوري وركوب مخاطره، وهي القناعة التي تتبناها قطاعات واسعة في السلطة. أما القناعة المواجهة فهي عدم وجود مسوغ للمشاركة في الحروب. ولقد فسرت لنا الفقرات السابقة القناعة الأولى. فكيف يمكن تفسير القناعة الثانية؟
في الإجابة نقول إنه مثلما أن تصور ضرورة الاستعمار واحتلال البلدان كان من التصورات الحداثية المؤسسة للبنيان الأميركي الوليد، فإن تصور حياة الرفاه وتأسيس الفردوس الأرضي والتنعم بخيراته كان هو الآخر من التصورات الحداثية المؤسسة للبنيان الأميركي. ومن الطبيعي أن يؤدي تصور حياة الرفاه الحداثية إلى رفض المشاركة في الحروب والتضحية بالنفس. ولعل ذلك من بين العوامل التي أدت إلى أن تكون مشكلة التجنيد وقبول أبناء الشعب المشاركة في الحروب من المشاكل المزمنة منذ تأسيس الاتحاد، ولعله كذلك من بين العوامل التي أدت إلى أن يسعى القرار الامبراطوري الأميركي إلى توخي حلول مؤقتة لمواجهة هذه المشكلة كزيادة استغلال الأميركيين الأفارقة غير المتمتعين بحقوق مواطنة كاملة خلال حرب فيتنام، وكمقايضة المهاجرين الجدد بمنحهم الجنسية مقابل المشاركة في الجيش خلال حرب أفغانستان والعراق، وكزيادة ظاهرة الاعتماد على التعاقد مع شركات خاصة توفر مجموعات مرتزقة مثل «بلاك ووترز».
صحيفة السفير اللبنانية ـ
مهدي الدجاني