عاشوراء وهاجس الأمن: «فدا الحسين»

Ashura 47

تكثر الشائعات عن أن النبطية ومناطق أخرى قد تحمّل، في أيام عاشوراء، رسائل دموية سياسية ومذهبية من الجماعات التكفيرية. لكن التهديدات لا تخيف أهل «مدينة الإمام الحسين»، أو الجنوبيين عموماً، والآلاف الذين يقصدونها من مختلف المناطق لإحياء المراسم العاشورائية التي تتميز بها.

صحيفة الأخبار اللبنانية ـ
آمال خليل:

بعد عيد الأضحى مباشرة، دخلت النبطية في أجواء عاشوراء. الكل يساهم في التحضير لإحياء المناسبة السنوية التي ارتبطت شعائرها بالمدينة منذ عقود. من شرفات المنازل تدلى الوشاح الأسود، وعلى السطوح ارتفعت رايات «يا حسين» السوداء والحمراء. والمؤسسات التجارية على اختلافها عبرت عن «كربلائيتها». واجهات محال الألبسة الرجالية والنسائية وتلك المخصصة للأطفال و… محال «اللانجري» توحدت بزي أسود. السوبر ماركت ومحطات المحروقات وبسطات الخضر لصقت الشعارات التي رددها الإمام الحسين في واقعة كربلاء.

كلما اقترب الأول من محرم، تصبح أصوات الندبيات واللطميات جزءاً من طقوس الناس في الشوارع، علماً بأن محالّ وبسطات تفتح أبوابها مؤقتاً بالتزامن مع هذه المناسبة لتبيع اللوازم العاشورائية. واللافت أن ذلك المشهد لا يرسمه الناس والأحزاب والهيئات المحلية فحسب، بل إن البلدية وبعض المؤسسات الرسمية تستثمر صلاحياتها في الأماكن لترفع الرايات في المستديرات العامة والشوارع ومداخل المدينة.

هذا المشهد يتكرر كل عام، كأن النبطية اختارت أن تختصر تراثها الأدبي والنضالي والفكري بشعائر عاشوراء التي تحولت إلى هوية التصقت بها. عدد من كبار السن يعيد السبب إلى أن المدينة احتضنت أول ناد حسيني في لبنان أنشأه الشيخ عبد الحسين صادق في 1909، بعد عودته من دراسة الشريعة في النجف الأشرف. والنادي الذي يصطلح على تسميته حالياً «الحسينية»، نسبة إلى الإمام الحسين، كان يخصص لاستعادة ذكرى استشهاده في كربلاء من خلال رواية الواقعة وما سبقها ونتائجها. كبر حجم النادي الصغير إلى أن أصبح في الوقت الحالي صرحاً دينياً يطل على الساحة العامة الرئيسية في النبطية التي تسمى «ساحة عاشوراء». ويعيد الكبار فضل نشر الشعائر العاشورائية التي تقام حالياً من مجالس العزاء إلى تجسيد واقعة كربلاء تمثيلياً إلى شخص إيراني يدعى «الميرزا» لجأ إلى المدينة هرباً من حكم الشاه واستقر وتزوج وأنجب فيها. إلا أن الشعائر تطورت إيجاباً وسلباً، وبرز منها عادة التطبير أو شق الرؤوس بآلات حادة أو ما يعرف بـ«ضرب حيدر»، ليسيل الدم منها مواساة للحسين وأهل بيته الذين قطعت رؤوسهم. تلك العادة تستقطب كل عام وسائل الإعلام الأجنبية. فهل يسيل دم النبطية هذا العام بسبب داعش والنصرة؟ «فدا الحسين»، قالت الحاجة قاطعة سؤالنا عن تأثر مشاركتها في مراسم عاشوراء بالتهديدات الأمنية. لا بل إن السيدة الستينية «تمنت الشهادة على مذبح عاشوراء». إصرارها على المشاركة رغم التهديدات، يقابله تخوف البعض منها واختياره لأن يستمع إلى المجالس العاشورائية على التلفاز في منزله عوضاً عن حضورها في الحسينيات تحسباً للاعتداءات المحتملة.

مصدر أمني كشف لـ«الأخبار» عن توافر تقارير استخبارية حول جدية الخطر المحدق بعاشوراء هذا العام كجزء من انعكاس الأزمة السورية. واستعرض عشرات الوثائق التي جمعتها أجهزة استخبارية لبنانية وأوروبية وغربية وتابعة لوحدات اليونيفيل، في الأشهر الأخيرة رجحت تنفيذ النصرة وداعش لتهديداتها وإيصال رسائلها في ذكرى عاشوراء لما تمثله من رمز شيعي. الوثائق تستعرض أشكالاً عدة للاعتداء، من السيارات المفخخة وأحزمة وعبوات ناسفة تفجر عن بعد. ولمواجهة هذا الخطر، دعا رئيس فرع استخبارات الجيش في الجنوب، العميد علي شحرور، مسؤولي اللجنة الأمنية في حزب الله وحركة أمل في الجنوب، لتنسيق الإجراءات الأمنية التي ستتخذ مواكبة لإحياء ذكرى عاشوراء بدءاً من اليوم. الاجتماع وضع اللمسات الأخيرة على خطة الثنائي الشيعي الذي عمل عليها بشكل تفصيلي منذ أشهر، لمواجهة التهديدات التي أطلقتها مجموعات متطرفة بتنفيذ اعتداءات على المواكب والتجمعات الحسينية على غرار ما يحصل في العراق.

بدءاً من يوم أمس، بدأ الجيش نشر وحداته حتى انتهاء المراسم في 17 تشرين الثاني الجاري. ومن المنتظر أن تتخذ إجراءات مشددة وتستحدث حواجز تفتيش دقيق للمارة والسيارات على المداخل المؤدية إلى النبطية خصوصاً، وصور وبنت جبيل وحارة صيدا وفي محيط أماكن إقامة مجالس العزاء والمسيرات. أما في البلدات والقرى، فيتولى عناصر الحزب و«أمل» والشرطة البلدية، بالتنسيق مع الجيش والأجهزة الأمنية، منع مرور السيارات بالقرب من أماكن المجالس أثناء إقامتها وضبط حركة الدخول والخروج إليها وتسيير دوريات لضبط التحركات غير الاعتيادية، على غرار ما حصل في عاشوراء الماضية. مصادر مواكبة للتحضيرات العاشورائية، أشارت لـ«الأخبار» إلى أن قيادتي الحزب و«أمل» تأثرتا بالتهديدات التي أطلقتها جبهة النصرة ودولة الإسلام في العراق والشام «داعش» لضرب المناطق الشيعية وقواعد حزب الله الشعبية في الجنوب والبقاع والضاحية. التأثر لم ينعكس تقليصاً لعدد المجالس والمسيرات وتوحيداً لأنشطة الحزب و«أمل» وحصرها في مكان واحد تخفيفاً لوقوع عدد كبير من الضحايا في حال استهدافها، بل قررت القيادتان رفع عدد الأنشطة وتكثيفها في المدن والبلدات الشيعية لكي «توجّه رسالة تحدّ للنصرة وداعش وأخواتها وتهديداتها». المصادر أوضحت أن خطة القيادتين العاشورائية الأمنية قسمت المناطق الشيعية إلى مستويات عدة، أولها: المدن الحاضنة كالضاحية والنبطية وصور وبنت جبيل وبعلبك. وثانيها: البلدات المختلطة مذهبياً، وتلك التي تعج بالسوريين ولا سيما المعارضين للنظام. وثالثها: المناطق الساحلية التي تقع على مقربة من مداخل المخيمات الفلسطينية، ولا سيما حارة صيدا وصور. أما رابعها: المناطق الحدودية التي تقع على تماس مع معابر تسلل المقاتلين السوريين المعارضين من شبعا حتى بعلبك _ الهرمل، مروراً بقرى البقاع الغربي الشيعية.

في المدن الجنوبية، وزع حزب الله منشورات تطلب من المواطنين اتباع «إجراءات وقائية» خلال أيام عاشوراء؛ منها عدم التجمع أمام الحسينيات قبل وبعد مواعيد المجالس، والحضور من دون حمل أغراض غير ضرورية؛ منها حقيبة اليد النسائية وعدم أخذ مصاحف وكتب أدعية خوفاً من أن تكون مفخخة. وفي النبطية، أصدر محافظ النبطية محمود المولى والمنطقة التربوية قراراً بتخفيض دوام مدارس محافظة النبطية ساعة واحدة طيلة أيام عاشوراء، استكمالاً للتدابير الأمنية المتخذة التي تشتد يومياً، بدءاً من ساعات ما بعد الظهر حيث تقفل المدينة ومحالها تحضيراً للمجلس الحسيني المركزي المسائي. وفي صيدا، أوصى مجلس الأمن الفرعي في محافظة الجنوب بوجوب «منع تعليق اللافتات التي من شأنها إثارة التحديات والنعرات الطائفية بأشكالها وأنواعها كافة، ومنع المسيرات على مختلف أنواعها وعدم قطع الطرق الرئيسية تحت أي عنوان».

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.