«طوفان الأقصى».. حقائق ومآلات
صحيفة الوطن السورية-
عبد المنعم علي عيسى:
أفرزت الأيام العشرة المنصرمة على بدء عملية «طوفان الأقصى» التي أطلقتها «حركة المقاومة الإسلامية – حماس» يوم السابع من شهر تشرين أول الجاري في مواجهة العنجهية الصهيونية، جملة من المعطيات والعديد من المتغيرات على ضفاف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي التي سرعان ما طالت آثارها أيضاً نظيرة لها على امتداد المنطقة العربية التي كانت تمر، قبيل 7 تشرين أول، بحالة من مراجعة المواقف التي بينت على جملة من تغيرات في الرؤى والحسابات التي كان الجديد منها يقول إن «التقارب» مع كيان الاحتلال يمكن أن يشكل «مظلة وقائية» للأنظمة العربية في ظل التحولات الكبرى التي يشهدها العالم، وفي ظل مرحلة انتقالية تبدو شديدة الخطورة على مصائر دول وكيانات عدة في العالم.
أبرز الحقائق التي أظهرتها الأيام العشرة أن كيان الاحتلال تلقى ضربة عميقة طالت مفهوم «قوة الردع» التي بنى مفاهيم آمنه على أساسها، والضربة هزت عميقا في جدران البنيان المجتمعي الذي تهاوى جزء غير قليل منه كاشفاً عن وهن الجسور والأعمدة ومعهما «حشوات البيتون» الحافظة لكلا الأخيرين، وللمرة الأولى منذ بدء الصراع العام 1948 اضطرت الولايات المتحدة للحضور أصالة عن نفسها في الوقت الذي كانت تكتفي فيه بدور الإسناد والدعم اللوجستي والمعلوماتي في الجولات السابقة، هذا الأمر ذو أهمية فائقة وله حسابات بعيدة خصوصاً أنه جاء بعد حرب تموز 2006 التي كانت خلاصتها الأميركية تقول إن الكيان، إسرائيل، قد دخل مرحلة «الكسل الوظيفي» ما ظهر جلياً في أدائه أثناء هذه الحرب الأخيرة، ومن حيث النتيجة تبرز الحقيقة الثانية التي تقول إن الولايات المتحدة أصدرت «شيكا على بياض» منحت من خلاله تل أبيب، وحدها، حقوق إملاء بياناته التي يجب أن تتضمن عدد الشهداء الذين سيسقطون، وكم التدمير الذي سيحصل، ثم حجم النزوح الحاصل من غزة إلى جهات يبدو اختيارها «مريباً» ولا نبالغ إذا قلنا إن «الأدراج» الإسرائيلية كانت تحتوي ولا شك على سيناريوهات تفضي إلى تلك النتائج، لكنها كانت تنتظر «اللحظة» المناسبة، هذا «الترخيص» الأميركي الممنوح لتل أبيب والذي من السهل تلمسه في التصريحات اليومية الصادرة عن دوائر القرار الأميركي تشير إلى أن واشنطن، وللمرة الأولى، تخشى من انهيار البناء الذي وضعت لبناته الأولى في كامب ديفيد 1977 و1979 ثم عبورا إلى «أوسلو» 1993 و«وادي عربة» 1994، ووصولاً إلى «اتفاقات ابراهام» 2020، حيث الخشية هنا مبررة، إذ لطالما كانت كل المحطات السابقة قد قامت على قاعدة مفادها «الاحتماء» بالمظلة الإسرائيلية من «مخاطر» التحولات الحاصلة داخلا وكذا في الخارج، والحكمة تقول، والحال هذه، إن رهاناً من هذا النوع يبدو رهانا خاسرا إذ كيف لمظلة لا تستطيع حماية «حاملها» أن تكون قادرة على حماية آخرين طالبين لذلك الفعل؟ ولربما كان ذلك هو ما يفسر دفع الولايات المتحدة، بل اشتراطها، على الكيان قيام «ائتلاف» حكومي يجمع ما بين المعارضة وأقطاب اليمين الذين احتوت حكومة بنيامين نتنياهو في كانون الأول 2022 على صفوتهم، فما أرادته واشنطن هنا يتعدى محاولة توحيد «الجبهة الداخلية» الإسرائيلية ليصل إلى تشجيع الأنظمة العربية على الاستمرار في رهاناتها التي قادت إلى قيام «اللبنات» سابقة الذكر.
الآن، يبدو أن قيام إسرائيل بعمل عسكري بري لاقتحام عمق غزة أمر من الصعب العدول عنه تحت أي ضغوط، والصعوبة هنا تتأتى من أن تل أبيب إذا لم تفعل فإن تاريخ 7 تشرين أول سيصبح علامة فارقة دالة على عجز الكيان ومعها أخرى سوف تلطخ جبين كل إسرائيلي مخلفة عليه وصمة عار لا تمحوها سني التقادم، لكن الفعل هو أشبه أيضاً بالمقامرة، فإذا ما مضت إسرائيل نحو عمل عسكري لأجل هدفها المعلن، وهو «اجتثاث» حماس، ولم تنجح، وذاك أمر مرجح لاعتبارات كثيرة، فإن عليها أن تضع في اعتباراتها أن اليوم الذي ستقبل به بوقف إطلاق النار سيرمز إلى نهاية «أسطورة» القوة العسكرية الإسرائيلية التي لطالما لعبت دوراً مهما في غضون كل الحروب التي تلت حرب حزيران 1967 التي شكلت بداية لتلك الأسطورة، والراجح هنا أن كل داعمي «حماس» سوف يعملون على تقديم ما بوسعهم لعدم انكسار شوكة المقاومة الأمر الذي، فيما لو حصل، سيعني رسم ملامح خريطة سياسية جديدة للمنطقة، وهي قد لا تشبه كثيراً تلك التي نعرفها الآن.
من عوامل الضعف الإسرائيلي الآن هو السقف العالي الذي وضعته القيادة السياسية لأي عمل عسكري مقبل، وهو السقف إياه الذي وضعته إبان حرب تموز 2006 ثم انكفأت عنه، ومنها أيضاً أن الدعم الأميركي من الصعب عليه المواظبة على الزخم نفسه إذا ما طال أمد الحرب، حيث من شأن الفعل أن يؤدي إلى إخلال واشنطن بـ«التزاماتها» تجاه أوكرانيا كما سيشغلها كثيراً عن «مسلسلها» الطويل الذي عنوانه «الاستعداد لمواجهة الصين»، ومن عوامل القوة أن خصوم «حماس» ليسوا قلة ولربما كان في صفوف المؤيدين للحق الفلسطيني في إقامة دولته على حدود الرابع من حزيران 1967 من لا يريد لتلك «القيامة» أن تكون على يد «حماس» لاعتبارات أيدلوجية وأخرى سياسية، ومنها، أي من عوامل القوة الإسرائيلية، أن تل أبيب استعارت لمعركتها المقبلة الشعار عينه الذي أطلقته كوندليزا رايس صيف 2006 والذي قال بـ«ولادة شرق أوسط جديد»، والقادة الإسرائيليون اليوم يقولون بـ«تغيير وجه الشرق الأوسط»، مثل هذه الاستعارة تمثل هدفا أميركيا لا يزال قائما للآن ومن المؤكد أن واشنطن لا تزال تعمل على إنفاذه.
في المرة الأولى، أي العام 2006، عجزت «القابلة» الإسرائيلية عن النجاح في مهمتها فالوليد مات في رحم أمه، والراجح أن هذا الأخير سيلقى المصير نفسه في الثانية الحاصلة الآن.
ثمة معايير لا تدخل حسابات القوة الإسرائيلية وداعميها في الغرب وهي تجعل من الاثنين قوة «غاشمة» فللسلاح، أي سلاح مهما تفوق، دور يمكن أن يؤديه، وحدود لا يستطيع القفز فوقها، بل إنه يصبح خطراً على حامليه إذا ما كان الأخيران غير مدركين لذلك الدور وتلك الحدود.