طالبان ومأزق الحاكمية
موقع قناة الميادين-
وليد القططي:
اللبس والضبابية في مفهوم الحاكمية في الفكر السياسي الإسلامي، ووجود تفسيرات متطرفة لها، أسهم في تقديم نماذج إسلامية مشوّهة.
أصرّت حركة طالبان في الاتفاق الذي عقدته في الدوحة مع الولايات المتحدة الأميركية في فبراير/شباط العام الماضي على أن تُعرّف نفسها باسم “إمارة أفغانستان الإسلامية”، وأصرّت الولايات المتحدة الأميركية على أن تتبعها بعبارة “التي لا تعترف بها الولايات المتحدة كدولة والمعروفة باسم طالبان”، وقد تكرّر ذلك 15 مرة في الاتفاقية. وإصرار حركة طالبان على ذلك يدل على تمسكها بأيديولوجيتها الإسلامية القائمة على منظومة فكرية أصولية تُعطي للمصطلح ومفهومه قيمة في الشكل والمضمون، فمصطلح الإمارة بدل الدولة، والشريعة بدل القانون، وأمير المؤمنين بدل الرئيس، وأهل الحل والعقد بدل مجلس الشعب، والشورى بدل الديمقراطية، والبيعة بدل الانتخاب… وربما أهم المصطلحات في تلك المنظومة الفكرية هو (الحاكمية)، الذي أدى غموض مفهومه وتشابك مدلولاته، إلى مأزق في النظرية والتطبيق للجماعات الإسلامية في مرحلتي الحركة والدولة؛ ولذلك من المفيد إلقاء بعض الضوء عليه في إطار فهمنا لحركة طالبان وإمارتها الإسلامية.
أول من اقترب من مفهوم (الحاكمية) هم الخوارج، عندما رفعوا شعار “لا حكم إلاّ لله”، اقتباساً من الآية الكريمة: “إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ” في معركة “صفين” بين جيشي دولة الخلافة وولاية الشام، مُطالِبين بتحكيم شرع الله في الصراع بين الخليفة الراشد ووالي الشام، فردّ عليهم الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب- رضي الله عنه – بقوله: “كلمة حق يُراد بها باطل”، دلالة على صوابية الحاكمية مصطلحاً وشعاراً، وخطأ الحاكمية مفهوماً وتطبيقاً لدى الخوارج.
وفي العصر الحديث تُعتبر (جماعة المسلمين) المعروفة باسم (التكفير والهجرة) امتداداً لفهم الخوارج للحاكمية، المقتصر على حاكمية الشريعة، ووجوب الاحتكام إلى الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم – من دون تمييز بين الحكم الإلهي الثابت في نصه، والاجتهاد البشري المتغير في تطبيقه، فحكموا بكفر من يخرج عن حاكمية الله وفقاً لمفهومهم الخاص للحاكمية.
بعد الخوارج كان للإمام أحمد بن تيمية مفهومه الخاص للحاكمية من خلال رؤيته لعقيدة التوحيد، التي يُقسّمها إلى توحيد الربوبية، وتوحيد الذات والصفات، وتوحيد الألوهية كمدخل إلى توحيد الحاكمية، التي تعني عند إفراد الله تعالى بالتعبد في جميع أنواع العبادات بمفهومها الواسع – شعائر وشرائع- واعتبر أي خروج عن ذلك كالتوسل بغير الله، وطلب الشفاعة من دون الله، وغير ذلك خروجاً عن التوحيد والحاكمية يؤدي إلى الشرك، ويُعتبر التيار الوهابي امتداداً لمدرسة ابن تيمية السلفية، وفهمه لعقيدة التوحيد، فحكم الشيخ محمد بن عبد الوهاب بشرك عرب الجزيرة في زمنه؛ لأنهم يمارسون التقرّب والتوّسل والشفاعة من الأنبياء والأولياء والقبور، تماماً كما كان عرب الجاهلية في زمن الرسالة يعبدون الأصنام تقرّباً إلى الله زُلفى.
وبعد السلفية الوهابية كان الإمام أبو علي المودودي مؤسس (الجماعة الإسلامية) في باكستان قد وضع مفهومه الخاص للحاكمية المرادف لمفهوم الألوهية فعنده “لفظ إله واصطلاح الحاكمية هما اسمان لحقيقة واحدة، فالحاكمية والألوهية لله وحده، وإذا كان لا يجوز للبشر منازعة الله في الألوهية، كذلك لا يجوز منازعته في الحاكمية”، وقد اقتبس هذا المفهوم المفكر سيد قطب وعرّف الحاكمية بـ “كل ما شرّعه الله لتنظيم الحياة البشرية من أصول العقيدة… والحكم… والأخلاق.. والمعرفة”، فالحاكمية وفق مفهوم قطب أوسع من الشريعة لأنها تتضمن: التصور الاعتقادي، والشعائر التعبدية، والشرائع الحياتية… واعتبر أن كل من يخرج عن الحاكمية ينطبق عليه مفهوم (الجاهلية)، التي تعني رفض ألوهية الله، ورفض حاكمية الله، فالحاكمية عنده هي الإسلام، والخروج عنها جاهلية، فإما حاكمية الله والإسلام، أو حاكمية البشر والجاهلية.
وبذلك يكون مفهوم (الحاكمية) هو الجامع المشترك بين الخوارج والوهابية والقطبية وغيرهم داخل الحركة الإسلامية، الذي أدى إلى الحكم على الخارجين عن “حاكمية الله” بالكفر أو الشرك أو الجاهلية، بدرجاتهم المختلفة غير المخرجة من الإسلام والملّة، والمُخرجة من الإسلام والملّة، وقد وضّح الدكتور يوسف القرضاوي مفهوم الحاكمية بعيداً عن الفهم المتطرف لها، بقوله: “حاكمية الله لا تنفي أن يكون للبشر قدر من التشريع أذن به الله لهم، إنما هي تمنع أن يكون لهم استقلال بالتشريع غير مأذون به من الله، وذلك مثل التشريع الذي يحلّ ما حرّم الله ويحرّم ما أحلّ الله… أما التشريع فيما لا نص فيه، أو في المصالح المرسلة، وفيما للاجتهاد فيه نصيب، فهذا من حق المسلمين”. فحاكمية الله وفق هذه الرؤية لا تُصادر حق الأمة في الاجتهاد في تطبيق حاكمية الله، ولا تصادر حق الحاكم في ممارسة السلطة وفق حاكمية الله وسيادة الأمة، والتشابك بين مفاهيم حاكمية الله، وسيادة الأمة، وسلطة الحاكم، في الفكر السياسي الإسلامي مسؤول عن مأزق الحاكمية النظري والتطبيقي.
اللبس والضبابية في مفهوم الحاكمية في الفكر السياسي الإسلامي، ووجود تفسيرات متطرفة لها، أسهم في تقديم نماذج إسلامية مشوّهة سواء في الحركات الإسلامية أم الدول الإسلامية، وقد كانت طالبان كحركة ودولة في مرحلتها الأولى إحدى هذه النماذج التي قدمت نموذجاً متطرفاً للإسلام، رغم أنها في الأصل تنتمي إلى مدرسة إسلامية وسطية تٌعرف بمدرسة (الديوباندية)، نسبةً إلى جامعة (ديوباند) في الهند، التي تتبنّى مذهباً وسطياً في العقيدة هو مذهب (الماتريدية) القريب من الأشاعرة، المعتمد على النقل والعقل، وفي الفقه هو المذهب الحنفي المبني على النص والرأي، وفي التربية هي الطريقة الصوفية السمحة الروحية.
ولكن، تأثرت الحركة بالتيار السلفي الوهابي فمالت نحو التطرف في العقيدة باتجاه المذهب السلفي الوهابي، وفي الفقه باتجاه المذهب الحنبلي، وفي التربية باتجاه التعصب البعيد عن التسامح؛ وهذا ما يُفسّر تطرف حركة طالبان في مرحلتها الأولى، حركةً ودولةً، تجاه المرأة والشيعة والمُخالفين والمختلفين.
حركة طالبان في مرحلتها الثانية بعد انتصارها على الاحتلال الأميركي وعملائه الأفغان أمامها فرصة للتخلّص من المفهوم المتطرف للحاكمية المؤدية إلى نفي الآخر تحت اتهامات الكفر والشرك والجاهلية، والأخذ بالمفهوم المعتدل للحاكمية المؤدي إلى قبول الآخر المُختلف دينياً ومذهبياً وفكرياً وسياسياً وحتى قبلياً، والذهاب نحو التعايش السلمي مع الآخر في إطار التنوع والتكامل في الدائرتين الإسلامية والوطنية، كمنهج إنساني وإسلامي وسطي باعتباره ضرورة حياتية، وفريضة شرعية، وحاجة وطنية، تضمن أن يعيش الأفغان على اختلافاتهم القبلية والعرقية وتنوعاتهم الدينية والمذهبية، وفصائلهم السياسية والفكرية بأمن واستقرار وتطور.