صعود الصين وروسيا.. هل هي إرهاصات ظهور نسقٍ دولي متعددٍ الأقطابٍ؟
صحيفة الوفاق الإيرانية-
خالد البوهالي:
تسعى الدول الطامحة إلى أداء دور محوري مؤثر في الخارطة الدولية إلى تسخير إمكانياتها ومواردها المحلية التي قد تمكنها من امتلاك مقومات القوة على جميع الأصعدة.
يقول ألفريد أورغانسكي في كتابه “السياسة العالمية” حول نظرية “تحول القوة” إنَّ هناك 4 أصنافٍ من الدول: الدولة القوية الراضية، الدولة القوية غير الراضية، الدولة الضعيفة غير الراضية، الدول الضعيفة الراضية، وهو يقصد بالدول القوية غير الراضية، تلك التي تعبّر عن عدم رضاها على توزيع القوة داخل بنية النسق الدولي، عندما يتركز ميزان القوة في يد دولة واحدة أو أكثر.
انطلاقاً من تصنيف أورغانسكي، يتضح أنَّ الأنساق الثلاثة الأخيرة قد تتحوَّل إلى النسق الأول متى توفرت لها عوامل القوة كي تزاحمه، وهو ما يزيد احتمال الصراع حول إعادة رسم خارطة توزيع القوة في بنية النسق الدولي. بمعنى آخر، إنَّ الدول القوية والقانعة يتراجع تأثيرها بسبب صعود قوى أخرى غير راضية، كما في حالة روسيا والصين.
لذا، تسعى الدول الطامحة إلى أداء دور محوري مؤثر في الخارطة الدولية إلى تسخير إمكانياتها ومواردها المحلية التي قد تمكنها من امتلاك مقومات القوة على جميع الأصعدة، الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، فضلاً عن الإمكانيات البشرية، ما يؤهّلها إلى أن تصبح قوة عظمى منافسة في المستقبل.
إنّ التغيرات التي تطرأ على الأنساق الدولية تتمّ بفعل حركية التاريخ الناتجة من تلاحق الأحداث والمتغيرات الدولية، لأن أي دولة أو أكثر، مهما بلغت من قوة، لا يمكنها التفرد بقيادة العالم إلى الأبد، لأنَّ التفرد أو الهيمنة يكونان لفترة زمنية محددة قد تطول أو تقصر بفعل عوامل داخلية وخارجية، لتصعد دول أخرى منافسة لها، وتزيحها عن كرسي الزعامة العالمية.
وكما يقول الفيلسوف الألماني أوزوالد شبنغلر في كتابه “انحدار الغرب”، فإنَّ كل دولةٍ أو حضارةٍ تمر بدورةٍ حتميةٍ من عصور الصعود والانحدار في السلطة، وهي عند العلامة ابن خلدون مثل الطفل الصغير، تنمو وتقوى، وبعد ذلك تتحول إلى كهل، ومن ثم تؤول إلى الموت، والبرهان على ذلك هو التحولات الكثيرة التي طرأت على النسق الدولي منذ معاهدة ويستفاليا في العام 1648، التي أنهت الحروب الدينية، وأدت إلى ظهور نسق دولي متعدد الأقطاب، مروراً بثنائية قطبية، وانتهاءً بأحادي القطبية.
ومن بين أهم عوامل سقوط الدول العظمى، دخولها في حروب ونزاعات مع دول أخرى بغرض الهيمنة، ما ينهكها عسكرياً واقتصادياً وبشرياً، لينتهي بها الأمر إلى الزوال والاندثار، مثل الإمبراطورية الرومانية والبيزنطية والعثمانية، أو في أحسن الأحول إلى تراجع نفوذها، كما حصل لبريطانيا التي كانت الشمس لا تغيب عن إمبراطوريتها.
ينطبق هذا المثل على الولايات المتحدة الأميركية التي تفرَّدت بقيادة العالم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وحاولت فرض هيمنتها وسطوتها على الدول الأخرى، من خلال نشر القيم الليبرالية، وإن تعارضت مع الخصوصيات والقيم الدينية والأخلاقية للبلدان الأخرى، وخصوصاً المحافظة منها، مع الاعتماد على القوة العسكرية لتسوية النزاعات الدولية.
ولأنَّ التفاعلات في النسق الدولي تتّسم بالفعل ورد الفعل، فظهور وحدات سياسية جديدة، مثل روسيا والصين، يبدو أمراً طبيعياً لإحداث توازن دولي. وفي هذا الصدد، يقول جوزيف ناي: “إذا ما حقَّقت دولة أو أمة ما قوةً باهرةً، وأصبحت أقوى من اللازم، فما يحدث هو أن تتكاتف الأمم والدول والشعوب الأخرى وترصّ صفوفها، لكي تبني ما يوصف بأنه توازن القوى مع الدولة العظمى التي أصبحت قوتها زائدةً عن الحد المعقول”، لكن السؤال المطروح: هل يبدو الأميركيون غير واعين لهذه التحولات التي تطرأ على بنية النظام الدولي؟
يكاد العديد من الخبراء والمفكرين الأميركيين، ومن بينهم بريجنسكي وفريد زكريا، يجمعون على أنَّ النفوذ والزعامة الأميركيين سيتقلَّصان، ولن تكون الأوضاع كما كانت سابقاً، وسيعرف العالم ظهور قوى جديدة منافسة للولايات المتحدة، لكنَّ المشكلة تتمثّل بأنَّ أصحاب القرار في واشنطن لا يتقبّلون فكرة أن يشارك أحد بلادهم في الزعامة العالمية، ما يفضي إلى انتزاع هيمنتها؛ ففي اعتقادهم، لا وجود لأمن واستقرار عالمي من دون بلادهم، وإلا فإن العالم سيعيش الفوضى الدولية.
وفي هذا الإطار، توقع المفكر الاستراتيجي الشهير زبيغينيو بريجنسكي في كتابه “رؤية استراتيجية” أنْ لا تتمتع الولايات المتحدة بالنفوذ والزعامة نفسها بعد العام 2025، عارضاً العديد من الأسباب والمسببات الداخلية والخارجية لهذا التراجع، ومن بينها التدخلات العسكرية في العراق وأفغانستان.
ويتّفق المفكر فريد زكريا في كتابه “عالم ما بعد أميركا” مع طرح بريجنسكي القائل إنّ أميركا ستبقى على المستوى السياسي والعسكري مهيمنة على العالم، رغم أنَّ البنية الشاملة للأحادية القطبية على المستوى الاقتصادي والثقافي والمالي ستضعف تدريجياً.
ويقول في هذا الصّدد: “بالطبع، لن يبقى العالم أحادي القطبية لعقود، ومن ثم سيتحوّل في يوم واحد، هكذا فجأة، إلى عالم ثنائي القطبية أو متعدد الأقطاب، بل سيكون هناك تحول بطيء في طبيعة العلاقات الدولية. ستستمرّ الأحادية القطبية بكونها حقيقة محددة للنظام الدولي في الوقت الحاضر، لكنَّها ستصبح أضعف فأضعف مع كلِّ عام. وفي الوقت نفسه، ستزداد قوة الدول الأخرى واللاعبين الآخرين”.
وهنا، أسوق بشكلٍ مختصرٍ شهادة اعتراف للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أدلى بها في خطاب قبل أيام: “لا شك في أننا نعيش نهاية الهيمنة الغربية على العالم، والتي امتدّت 3 قرونٍ. الأمور تتغير. وقد تعمّقت كثيراً بسبب تراكم أخطاء الغرب في بعض الأزمات. أيضاً، بسبب الاختيارات الأميركية لعدة سنوات، والتي تؤدي إلى إعادة الصراعات في الشرق الأدنى والأوسط وأماكن أخرى… إنّه أيضاً ظهور قوى جديدة اليوم، لا شك في أننا قلّلنا من شأنها، وفي مقدمتها الصين، أيضاً الاستراتيجية الروسية، والحقّ يقال إنها تقود منذ بضع سنوات إلى المزيد من النجاح”.
وتابع قائلاً: “انظروا إلى الهند وروسيا والصين. لدى هذه الدول إلهام سياسي أكثر من الأوروبيين. إنَّهم ينظرون إلى العالم بمنطق حقيقي وفلسفة حقيقية وخيال. وهكذا، تغير كلّ هذا بعمقٍ شديد، وخُلطت أوراقنا من دون الحديث عن الصعود الأفريقي كلّ يوم.
استناداً إلى ما سبق ذكره، نصل إلى استنتاج مفاده أنّ نظاماً متعددَ الأقطاب بزعامة روسيا والصين، وربما الهند، في المستقبل المنظور، قادم لا محالة، مُنهياً دورةً تاريخيةً من نظامٍ أحادي القطبيةِ، ليبدأ في أخرى، ويبقى السؤال الأبرز: أين العالم الإسلامي والعربي من هذه التحوّلات؟