شظايا النار الأوكرانية إذ تصل إلينا
صحيفة الوطن السورية-
عبد المنعم علي عيسى:
ضربت الأزمة السورية عشية ذكراها الحادية عشرة، التي حلت ثقيلة هذا العام بمفاعيل داخلية، موعداً مع كرة نار ما انفكت تتدحرج فتقذف بنيرانها في شتى الاتجاهات ومن المقدر أن يكون نصيب السوريين وافراً منها لاعتبارات عديدة أبرزها التقاطع الحاصل فيما بين اللاعبين على ساحتي الصراع، فالذكرى وقبيل أن تحل هذا العام كان مقدرا لها أن تصطلي بنيران أزمة هي دون شك باتت تمثل التحدي الأكبر للاستقرار العالمي، بعد أن حملت الأزمة السورية تلك الصفة على مدى ما يقرب من السنوات العشر التي كان توصف فيها بأنها الأعقد مما شهده العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، والأزمة إذ تفقد تربعها على عرش الأزمات العالمي لتتخلى عنه لمصلحة «شقيقة» لها، من المقدر لها أن تفقد الكثير من «نجوميتها» لتصبح الأضواء المسلطة عليها خافتة، أو هي ليست بالقدر الكافي لكي تجذب الناظرين، وكنتيجة بات من الممكن القول إنه باندلاع الأزمة الأوكرانية أواخر شهر شباط المنصرم، أضافت إلى الأزمة السورية رزمة من التعقيدات التي لم يكن ينقصها المزيد منها.
في سياق الصراع المحتدم راهناً ما بين روسيا من جهة وبين الغرب برأس حربة أميركي من جهة أخرى، راحت الولايات المتحدة تعمل على إرباك موسكو على مختلف الجبهات التي كان من أبرزها السورية، فالتقارير الصادرة مؤخرا عن واشنطن تقول إن هذي الأخيرة تتدارس إصدار قرارات تتضمن إعفاء مستثمرين وشركات من عقوبات «قانون قيصر» لفتح باب العمل في المناطق التي تقع خارج سيطرة الدولة السورية، وتحديداً في شمال البلاد، أي مناطق درع الفرات وريف إدلب، وكذا شمالها الشرقي، وتضيف تلك التقارير إن تلك الاستثناءات لن تكون شبيهة بالمساعدات الإنسانية، وإجراءات مكافحة كورونا، أو الإجراءات التي قالت واشنطن إنها تأتي في سياق دعم «التعافي المبكر»، لأنها، أي لأن تلك القرارات، سوف تتعلق بالاستثمار في البنية التحتية لتلك المناطق، وفي التطبيق شكلت زيارة الوفد الأميركي رفيع المستوى إلى مناطق شرق ولقاؤه بمظلوم عبدي، قائد «قوات سورية الديمقراطية – قسد» مؤخراً، إجراء بالغ الدلالة في سياق تكريس الحالة القائمة راهناً في شرق الفرات، والوفد إذ أكد «استمرار الشراكة ما بين الإدارة الذاتية وبين التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش» كان قد أكد أيضاً على «ضرورة دعم التنمية في المناطق التي تسيطر عليها قسد»، وهنا بيت القصيد، حيث يهدف الفعل الأخير إلى إيجاد تمايزات ما بين مناطق سيطرة الدولة وبين المناطق الخارجة عن سيطرتها، تفضي بمرور الوقت عبر التداعيات التي ستنجم عنها، إلى تعزيز واقع التقسيم بفعل الأمر الواقع، وبمعنى آخر فإن من شأن التفاوت الذي سيحصل في درجة تطور النسيج الاقتصادي الذي سيفرز معطيات جديدة، أن يخلق واقعاً جديداً من شأنه أن يمهد المناخات لحدوث التقسيم إذا ما لاحت ظروف سياسية سانحة.
هذا التفكير تتعزز مشروعيته أكثر عبر استحضار المشروع الذي تقدم به عضوان في الكونغرس الأميركي بغية تمرير قانون يدعو إلى التطبيق الصارم لـ«قانون قيصر» ومحاولة ترميمه بعد التهتكات التي حصلت في نسيجه مؤخراً، لكن أخطر ما فيه هو دعوته إلى رفض أي حوار مع روسيا بشأن سورية، فالفعل الأخير لوحده كاف لكي يدخل الأزمة السورية في طور مراوحة من الصعب التكهن بزمن الخروج منها، ومن الراجح أن التباعدات الحاصلة ما بين موسكو وواشنطن، والتي تبدو وكأنها آخذة بالازدياد بفعل تدحرج كرة النار الأوكرانية، سوف تعزز المناخات المناسبة لإقرار المشروع سابق الذكر.
تقول القراءة الغربية، قراءة المعارضة السورية أيضاً التي تتآلف معها، إن سياسة العقوبات المفروضة على روسيا بعد 24 شباط الماضي سوف تؤدي إلى إفقار روسيا، وإرجاعها إلى الوضع الذي كانت عليه في بدايات القرن العشرين، وهذا، وما نزال هنا في سياقات عرض تلك القراءة، سوف يؤدي بالضرورة إلى إضعاف موقف روسيا العسكري والسياسي في سورية، وتلك قراءة خاطئة بالتأكيد، فيما نرى، فموسكو التي تدير معركتها مع الغرب راهناً على مختلف الجبهات، سوف يكون من المستحيل عليها تهميش الجبهة السورية، بل على العكس من ذلك فإن من المرجح أن تذهب الأولى، أي موسكو، لتحويل الجبهة السورية إلى خط هجوم رئيسي على الغرب وقواعده وحلفائه في المنطقة، في تعزيز لرؤيتها التي أعلنها وزير الخارجية سيرغي لافروف منذ بداية الأزمة السورية حينما رد على سؤال الوفد السوري المعارض الذي استغرب مواقف موسكو من هذه الأخيرة، وفي حينها أجاب لافروف بالقول: «نحن ندافع عن موسكو في دمشق»، والراجح أن الأزمة الأوكرانية ستكرس الجبهة السورية كخط دفاع أول عن الأمن القومي الروسي جنباً إلى جنب خط الدفاع الذي باتت تمثله بيلاروسيا.
وفي السياق بدا المبعوث الأممي لحل الأزمة السورية غير بيدرسون متفائلاً مما لا تشي به المناخات السابقة، فهو أصدر بيانا عشية الإعلان عن موعد انعقاد جولة جنيف السابعة جاء فيه: «إن كل المؤشرات الحالية تشير إلى إمكان حدوث تقدم»، وفي شرحه لتلك المؤشرات ذكر، مثلا، ثبات خطوط التماس عند حدودها على امتداد الأعوام الثلاثة المنصرمة، ثم التهديد المستمر للإرهاب الذي بات يمثل تحدياً لكل أطراف الصراع، وصولاً إلى تدهور أوضاع السوريين في المناطق الثلاث التي يعيشون فيها، وعلى الرغم من وجاهة الأسباب التي ذكرها بيدرسون فإن من الصعب علينا المضي في سياقات تفاؤله التي بدت مشروعة بالنسبة إليه، فالسياسات التي تتبناها أطراف الصراع الخارجية لا تتحدد وفقاً للاعتبارات التي استند عليها لتسويق تفاؤله، إذ كيف يمكن للغرب، مثلا، أن يهتم بتهديد «داعش» إذا ما كان هو الذي يضع لمسة الـ«TUCH» على تحركاته، وإذا ما كانت تحركات التنظيم تبقي «المشروعية» على حليفته «قسد» التي ولدت أساساً من رحم «التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب» الذي أسسته واشنطن صيف العام 2014، وكيف يمكن له، أي للغرب، أن يدرج التدهور المعيشي الحاصل في البلاد على أجندة صناعة القرار السياسي إذا ما كانت الولايات المتحدة هي من ابتكر سيف «قيصر»، ومن ثم فعله ليبقيه مسلطا على الحكومة والشعب السوريين لإنتاج سورية جديدة من النوع المناسب لرؤياه ومصالحه.
لا شك أن بيدرسون يعرف كل ذلك، بل وهو يعرف أكثر من ذلك بكثير، لكن دوافعه التي تحركه في مساره اليوم لربما تنحصر في شقين: أولهما هو أن الحركة هي تأكيد على استمرارية الحياة، بمعنى أن التوقف في مسار جنيف يمكن أن يوحي بموت مسار التسوية برمتها بعد خروجها من تحت الأضواء، وثانيهما أن مهمته، والنجاح فيها، باتت بالنسبة إليه محددة لمستقبله السياسي، فالرجل يبدو طامحاً ولا سقوف لطموحاته، ولربما كان ذلك هو ما يفسر إعلانه عن انعقاد الجولة السابعة التي من المقرر لها أن تنطلق هذا اليوم.