شرح موضوعيّ وضروريّ لميشال سليمان…
صحيفة الأخبار اللبنانية ـ
جان عزيز:
صحيح أن قطار الحكومة الجامعة قد انطلق فعلاً. وصحيح أيضاً أن مساره يتضمن محطات وربما عقبات. وأن وصوله قد لا يكون محتوماً، لأسباب داخلية وخارجية قد تجهضه في أي لحظة. لكن الصحيح أيضاً أن ميشال سليمان لم يتوقف عن الحديث عن حكومة موظفين.
قبل أيام، لحق بأحد السياسيين على الهاتف الى بيته ليلاً، ليعاتبه على تصريح إعلامي رافض لحكومة كهذه: «إنو فلان (أحد أصدقاء المنتحر غازي كنعان) بطّل يسوى؟»، سأله مستهجناً، ومستنكراً خصوصاً المواقف التي تعتبر طرحه لحكومة الموظفين من باب الكبائر. والواضح أن سليمان ينظر الى المسألة بمنظار مزدوج: صلاحياته الدستورية كرئيس، والحساسية الشخصية في العلاقة مع بعض القوى السياسية. لذلك ثمة ضرورة قصوى وحاجة ماسة إلى من يشرح لسيد القصر موضوعياً، أن نعم: إن حكومة موظفين هي كارثة عملية، وخيانة دستورية، واستباحة للديموقراطية…
أولاً، التناقض المطلق بين حكومة موظفين وبين الديموقراطية: إذ معروف ومسلّم به أن أحد أسس الديموقراطية أن يكون الشعب مصدر السلطة. وأن يمارس ذلك عبر المؤسسات. فلا ديموقراطية إلا إذا كان المواطن يملك حق انتخاب سلطاته، ومن ثم يملك سلطة محاسبتها. والمسألتان، الانتخاب والمحاسبة، تكونان عبر صندوق الاقتراع. في نظام رئاسي إذا لم يعجب المواطن بسلوك رئيس، يمنع تجديد ولايته، إذا كان ذلك ممكناً دستورياً، أو يعطي صوته في الانتخابات الرئاسية التالية لمرشح خصم أو لحزب منافس. وصولاً حتى إلى حقه في التصويت على عزل الرئيس. وفي نظام برلماني، إذا أوصل البرلمان حكومة لم تعجب المواطن، اقترع عند أول استحقاق نيابي ضد وزرائها إذا كانوا مرشحين، أو ضد أكثريتها النيابية، فيسقطها ويأتي بأكثرية أخرى تنبثق منها حكومة مختلفة بوزراء مختلفين. أما حيث لا قدرة للمواطن على محاسبة رئيس، ثم نقول له لا قدرة لك على محاسبة حكومة… فماذا يبقى من الديموقراطية؟ فالمواطن اللبناني، على اصطفافه الأعمى، ولو نظرياً على الأقل، لا يزال حتى اللحظة يملك قدرة المحاسبة الديموقراطية لحكوماته السياسية. فإذا لم يعجبه أداء وزراء ميشال عون أو سعد الحريري أو نبيه بري أو أي وزير سياسي آخر، يصوّت ضد مرشحه النيابي. ويحاول بالتالي إسقاطه ومحاسبته وتغييره. لكن إذا كان الوزراء من غير السياسيين، وإذا كانوا لا يمثلون اتجاهاً حزبياً محدداً، ولا ينبثقون من كتلة نيابية معينة، فكيف يحاسبهم المواطن؟ مع من ينتخب ضدهم؟ أو عمن يحجب صوته ليعترض عليهم؟ لا أحد. هكذا يمكن لحكومة الموظفين أن تصادر الديموقراطية فعلياً. يصير صوت الناخب ضائعاً. يقترع لنواب، فتصل حكومة لا علاقة لها بهم ولا بصوته. فيستحيل عليه إعطاء رأيه أو تجسيد خياره وقراره. بهذا المعنى يجب أن يفهم ميشال سليمان أن حكومة الموظفين هي نعم استباحة لآخر ما تبقى أو كان أو ما لدينا من معالم الديموقراطية في هذا البلد.
ثم ثانياً، نعم هي خيانة دستورية. لأن دستور الطائف، على علاته وفجواته، جاء بعد تقاتل اللبنانيين الدموي حول نظامهم وسلطتهم ومشاركتهم فيها كأفراد وكطوائف. وجاء مفروضاً عليهم فرضاً ليوقف اقتتالهم هذا، تحت عنوان بسيط: نسحب السلطة من المواقع الفردية المتفردة المستفردة والمستأثرة، ونضعها في مجلس الوزراء، حيث تكون جماعية توافقية ومناصفة بين عشائر المسيحيين وقبائل المسلمين. ولذلك وُضع لمجلس الوزراء هذا نصاب اجتماع بالثلثين، ونصاب بقائه كحكومة بالثلثين أيضاً، وحتى نصاب إقرار المسائل الأساسية بالثلثين ذاتيهما كذلك؛ حتى يكون الميثاق الوطني الشهير، ذلك الذي لا شرعية لأي سلطة تناقضه، مصوناً داخل مجلس الوزراء. يذهب الطائفيون كلهم إلى الانتخابات. يختارون ممثليهم السياسيين. ثم تُجرى الاستشارات النيابية الطوائفية للتكليف والتأليف، بما يضمن أن يأتي ممثلو الطائفتين إلى مجلس الوزراء، فيمسكوا بالسلطة مناصفة، جماعياً وتوافقياً، فتكون السلطة عندها شرعية وميثاقية… لكن ماذا يبقى من كل ذلك إذا كان الوزراء من غير السياسيين؟ ومن الذين لا يمثلون ممثلي الطائفتين سياسياً ونيابياً؟ ماذا يبقى من الدستور والميثاق إذا كانوا موظفين؟ لا شيء، بل يكون خرقاً فاضحاً للدستور ولمقدمته ولفلسفته، وهو خرق ممكن الملاحقة القضائية، بجرم خيانة الدستور نفسه.
ثم إن نظرية أن يكون للرئيس حق توقيع مرسوم تشكيل حكومة، يدرك سلفاً وحتماً أنها لن تحوز ثقة النواب، إنما هي انتهاك دستوري أفظع. ذلك أن المنطق الدستوري يقيس الارتكاب بتخيل حدوده القصوى. تخيلوا مثلاً أن يُنتخب رئيس عند مطلع ولايته، فيأتي بشخص مكلف تشكيل الحكومة. ثم يوقع معه على تشكيلة من أقارب الاثنين وأزلامهما. تسقط في المجلس بعد 30 يوماً، فيلجأ بعدها الرئيس إلى عدم التوقيع على أي حكومة جديدة. ولا شيء في الدستور يلزمه بذلك. فيحكم عبر حكومة حاشيته المستقيلة، مصرّفاً أعمال الدولة ستة أعوام كاملة… نظرية تستحق أكثر من محاكمة تاريخية!
يبقى ثالثاً، أن تكون حكومة الموظفين كارثة عملية. ذلك أن حكومة كهذه يتم التلويح بها اليوم، كبديل من الوصول إلى فراغ حكومي ومن ثم رئاسي. وهذا ما يعترف به صراحة ميشال سليمان، حين يربط الحديث عنها بتاريخ 25 آذار. لكن، هل سأل سليمان نفسه فعلاً، كيف لحكومة موظفين أن تدير الفراغ؟ هل يتصور تلك الأسماء التي يرددها، في ظل عدم وجود رئيس للجمهورية، ولا مجلس ولا حكومة، وفي ظل وجود يتامى ماجد الماجد وأبناء «داعش» وكشافة «النصرة» الخيرية ولوائح سيارات الموت؟ ماذا سيفعلون؟ كيف سيتصرفون ومن سيأمرون ومن سيأتمر بهم؟ هل نذكّره كيف انتهت في عهده بالذات، مواجهات مشهودة بين وزراء سياسيين وبين موظفين؟ وكيف استبيح الدستور والقانون والأصول، وما كان موقفه هو بالذات؟ وكل ذلك فيما ثمة رئيس مفترض رئيساً، وثمة مجلس وحكومة وسلطات… فهل له أن يتوقع قياساً كيف يكون المشهد في ظل كل ما سبق، مع وزراء موظفين، وفي غياب أي سلطة؟ أي كارثة؟ هي نهاية البلد حتماً، فهل هذا ما يريده ميشال سليمان؟
ما الحل؟ إن افتراض حسن النية لدى سيد القصر، كما طبعاً لدى تمام سلام، يقتضي سؤالهما التالي: طالما أنتما حريصان على البلد وعلى استدراك الفراغ وعلى كل معزوفة المسؤولية التاريخية… وبدل أن تحرجا نفسيكما في مأزق حكومة الموظفين، وانطلاقاً من اعتباراتكما تلك نفسها، لماذا لا تقدمان على إحراج الآخرين؟ لماذا لا تعلنان أن كل ما تقدم، يفرض عليكما تشكيل حكومة أقطاب في اللحظة القاتلة، لا حكومة أطفال؟ لماذا لا تهددان بمرسوم جاهز يحمل أسماء ميشال عون وفؤاد السنيورة أو سعد الحريري ووليد جنبلاط وطلال إرسلان ومحمد رعد ومن يمثل نبيه بري وغيرهم من أقطاب البلد؟ فتكون دعوتكما لهم للإمساك بالسلطة وإدارة الفراغ والحوار والحل، ومن ثم كل الانتخابات الضرورية معاً؟ وليرفضوا هم. فيصيروا هم المحرجين، بدل أن تحرجا نفسيكما والبلد بمسخرة حكومة الموظفين… إلا إذا كان الهدف من ذلك مستوراً، وهو في كل حال لن يمر.