سياسات تركيا الخارجية المستقبليّة.. ضحيّة الإنقسام الداخلي
موقع قناة الميادين-
وسام إسماعيل:
لم يجد المرشح المعارض كليجدار أوغلو أيَّ حرج في الإعلان عن مقاربة تختلف تماماً في جوهرها عن مسار السياسة الخارجية التركية الحالية.
لم يكن الانتقال إلى جولة ثانية لانتخاب الرئيس التركي الثالث عشر مفاجأة، إذ إن المسار الذي ظهر في الفترة السابقة أكَّد خوض الانتخابات في ظلّ فرضية عدم قدرة أيّ مرشح على تحقيق نتيجة تضمن له الفوز من الدورة الأولى، وخصوصاً بعد الحملات المركّزة التي تعرض لها الرئيس رجب طيب إردوغان بسبب سياساته الخارجية والأزمات التي تعرَّض لها الاقتصاد التركي، من دون أن ننسى آثار الزلزال والتركيز على كيفية استجابته لهذه الكارثة.
وإذا كان من الطّبيعي أن تُدار الحملات الانتخابية وفق منطق التنافس على القضايا الداخلية، بحيث ينصبّ تركيز الناخبين دوماً على القضايا الداخلية في الدرجة الأولى، فإنَّ واقع الانتخابات الحالية كان مختلفاً، فقد ركزت المعارضة التركية على سياسة الرئيس التركي الخارجية وربطتها بالأزمات الداخلية.
هذا ما ظهر من خلال شكل التحالفات التي أمكن من خلالها اختصار المشهد في تكتلين؛ الأول بزعامة الرئيس الحالي رجب طيب إردوغان. وقد ضم حزب العدالة والتنمية وبعض الأحزاب الأخرى.
أما الآخر، فقد جاء تحت قيادة المنافس الأول لحزب العدالة التنمية، حزب الشعب الجمهوري، بقيادة كمال كليجدار أوغلو، الذي ضمّ عدداً من الأحزاب المتباعدة أيديولوجياً، إذ يجتمع اليسار مع اليمين الليبرالي مع بعض التيارات الإسلامية المنشقة عن حزب العدالة، كحزب المستقبل الذي يقوده أحمد داوود أوغلو، إضافةً إلى علاقة تحالفٍ غامضة جمعت كمال أوغلو مع حزب الشعوب الكردي.
يمكن القول إنَّ المشروع السياسي لحزب العدالة والتنمية هو الدافع الحقيقي لتكتّل عدد من الأحزاب المعارضة؛ فمن الواقعي والطّبيعي التشكيك في حقيقة تطابق الرؤى الإستراتيجية بين الأحزاب الستة التي يُعرف تحالفها بالطاولة السداسية، إضافةً إلى حزب الشعوب الكردي؛ فالأصول الإسلامية لحزب الديمقراطية والتقدم وحزب المستقبل لا تتوافق مع الرؤية العلمانية لحزب الشعب الجمهوري المتمسك بإرث أتاتورك.
كما أنَّ وجود حزب الشعوب الكردي إلى جانب هذا التحالف سيضيف مزيداً من التعقيد عند محاولة مقاربة رؤية موحدة لهذا التحالف في حال استطاع إيصال مرشحه الرئاسي؛ فحزب الشعوب الكردي، المعروف بسعيه إلى المحافظة على التمايز الكردي في تركيا، لن يجعل من محاولة إقصاء رجب طيب إردوغان عن رئاسة تركيا هدفاً وحيداً من وراء انخراطه في تحالفه الغامض مع كليجدار أوغلو، إنما من الطبيعي أن يركز على كيفية مقاربة الدولة التركية مستقبلاً للقضية الكردية وتعقيداتها، وخصوصاً كيفية التعاطي مع حزب العمال الكردستاني ووقف العمليات العسكرية التركية ضد وحدات الحماية الكردية القريبة من حزب العمال في سوريا. وقد يربط دعمه لكليجدار أوغلو في جولة ثانية بتعزيز الحكم الذاتي في المناطق الكردية.
وإضافةً إلى حقيقة عدم تطابق الرؤى الإستراتيجية بين الأحزاب الداعمة لكليجدار أوغلو، مع ما يعنيه هذا الأمر من تشرذم على مستوى صناعة القرار في حال وصول كليجدار أوغلو إلى الحكم، فإنَّ اهتمامات الناخب التركي التي ارتبطت سابقاً بالواقع الاقتصادي والمالي المتردي تأثرت بقضايا الأمن القومي الذي بات مهدداً بسبب طبيعة العلاقة بين كليجدار أوغلو وحزب الشعوب الكردي، وكذلك بسبب القناعة التي تشكّلت في الوعي الجماعي لجزء كبير من الناخبين حول الموقف الغربي الداعم علنياً لمرشح المعارضة.
وفي هذا الإطار، لم يكن الرئيس التركي مضطراً إلى بذل جهود من أجل إظهار الرفض الغربي لبقائه على أنه استهداف لمشروع تركيا المستقلة ومحاولة إعادتها إلى حظيرة الدول الداعمة لسياساتها ورؤاها.
في المقابل، لم يجد المرشح المعارض كليجدار أوغلو أيَّ حرج في الإعلان عن مقاربة تختلف تماماً في جوهرها عن مسار السياسة الخارجية التركية الحالية. وبناء عليه، يمكن القول إن المحددات الخارجية التي أدّت دوراً محورياً في تحديد نتيجة الدورة الأولى ستكون مؤثرة في المرحلة المقبلة، بحيث إنَّ آثارها لن تنحسر بعد صدور نتيجة الجولة الثانية، وستؤثر في موقع تركيا، سواء بقي الرئيس إردوغان في موقعه أو حل مكانه مرشح المعارضة كمال كليجدار أوغلو.
وإذا كان من الممكن أن نحصر هذه المحددات في إطار علاقة تركيا مع سوريا والعراق، إضافة إلى علاقاتها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وآثار موقفها من الحرب الأوكرانية، فإن تعارض المواقف بين الطرفين يؤكد عمق الأزمة التي ستحكم عملية اتخاذ القرار في تركيا.
وإذا قفزنا فوق ملفّ العلاقة مع دول الإقليم، إذ تحظى سياسة إردوغان لتصفير المشكلات وإعادة توطيد العلاقة مع دول الجوار العربية بدعم أحزاب المعارضة، فإن العلاقة مع الغرب، أوروبا والولايات المتحدة، التي توترت بسبب تعارض الأجندات بين حزب العدالة والتنمية من جهة، والدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى، وخصوصاً تجاه الأزمة في سوريا وكيفية مقاربتها، إضافة إلى عدم الالتزام التركي بالمعايير الأمنية الأطلسية، إذ امتعضت الولايات المتحدة كثيراً من قرار تركيا شراء منظومة الدفاع الجوي الروسي S400، ستجعل إمكانية بناء سياسة خارجية تركية مستقرة أمراً صعباً.
الموقف السلبي الغربي الذي يواجهه الرئيس الحالي سيقابله في حال وصول كمال أوغلو معارضة داخلية قوية يمكن تقدير صلابتها من خلال نجاح تحالف الجمهور بقيادة إردوغان بحجز أكثر من 320 نائباً من أصل 600 في البرلمان الحالي، ومن خلال سهولة استذكار المسار الشاق والفاشل الذي عانت منه تركيا منذ عام 1987 في محاولة انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى صعوبة التخلص من تأثيرات عناصر حزب العدالة والتنمية المنتشرة في إدارات الدولة العميقة التركية.
أما بالنسبة إلى الموقف التركي من الحرب الأوكرانية، فقد استطاع الرئيس الحالي رجب طيب إردوغان إدارة هذا الملف بطريقة أحسنَ من خلالها الاستفادة من موقع بلده الإستراتيجي، وعبَر من خلال سلوكه البراغماتي عن مفهوم المصلحة القومية التركية من دون مراعاة مطالب الولايات المتحدة والدول الأوروبية وهواجسها.
وإذا عدنا إلى تصريحات كليجدار أوغلو، فإن تناقضاً تاماً سيظهر، إذ أعلن أنَّه سيحاول التقرّب إلى الغرب وسيركّز جهوده على محاولة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، كما أنه قد يلتزم بالعقوبات الغربية على روسيا. وإذا عدنا إلى مرحلة ما قبل الجولة الأولى من الانتخابات، فإن استطلاعات الرأي أظهرت رفضاً واسعاً لأيِّ مساومة قد تظهر الالتزام بالسياسات الغربية على أنها توسل تركي للانضمام إلى الشينغن.
وبناءً عليه، فإنّ الموقف من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا سيظهر انعكاساً سلبياً على موقع تركيا، إذ إنّ المعارضة التي قد تتبلور في وجه الرئيس الحالي، انطلاقاً من ربط الأزمة الاقتصادية والمالية الحالية بعدم التجاوب مع الغرب، سيقابلها رفض شعبي وازن للخيار الذي قد يتبناه المرشح المعارض كليجدار أوغلو، وذلك تحت عنوان استقلال القرار الإستراتيجي وصون الهوية الثقافية ومكانة تركيا في العالم.
وبناء عليه، يمكن القول إنّ إشكالية ستعترض السياسة الخارجية التركية، بحيث إنَّ أياً من الفرضيتين المتعلقتين ببقاء الرئيس الحالي رجب طيب إردوغان أو نجاح منافسه كمال كليجدار أوغلو لن تساعدا في الحفاظ على المكانة التي تشغلها تركيا حالياً؛ ففشل الرئيس في حسم المعركة من الدورة الأولى قابله نجاح استثنائي لكليجدار أوغلو، الذي لم يستطع أحد قبله تخطي عتبة 40% في مواجهة إردوغان.