سوريـــة.. ستولـــد مــن رمـــاد النـــار
الإنتخابات الرئاسية التي ستجري مطلع حزيران القادم في سورية، حتى وإن تم تنظيمها وفق أعلى مقاييس النزاهة والشفافية الكونية، إلا أنها لن تكون ديمقراطية بالمعايير الأمريكية، لأن الكونجرس لن يصادق عليها، وبالتالي ستعتبرها الإدارة الأمريكية ومعها حكومات النفاق في الغرب وديكتاتوريات الشقاق في الشرق بأنها غير “شرعية”، لأنها أجريت خارج وصاية مؤتمر “جنيف” الدولية.
هذا مفهوم ومعروفة أسبابه وخلفياته.. لكن، ماذا عن الديمقراطية في مملكة القهر والصمت ومشيخات الزيت؟.. وماذا عن الإنتخابات في الجزائر، هل كانت ديمقراطية؟.. ثم ماذا عن الإنتخابات في مصر؟.. هل يمكن أن تكون هذه الإنتخابات التي جائت نتيجة إنقلاب على الديمقراطية، ديمقراطية؟.. ولا يهم من كان يحكم حينها، لأنه إذا كان الإخوان خونة ومتآمرين على البلاد والعباد، فذاك شأن الشعب المصري الذي ما كان له أن يصوت لهم، وبالتالي، كان عليه أن يتحمل وزر جهله ومسؤولية إختياره ويحترم اللعبة الديمقراطية بأن يعاقب الإخوان المجرمين من خلال صناديق الإقتراع في الإنتخابات التالية.. هذه هي الممارسة الديمقراطية الراقية التي تتقنها شعوب الغرب، وهكذا تتعلم الشعوب ممارسة الديمقراطية بطريقة حضارية.
لكن دعونا من الحديث عن الديمقراطية العربية، فليس من العدل محاكمة أنظمة دهرية قروسطية قهرية بمقاييس ديمقراطية عصر الأنوار، لأن جهل الشعوب هو العامل المسؤول عن الظلام الذي يعيش فيه العرب اليوم من الماء إلى الماء، وبالتالي، فالله العادل، لا يمكن أن يعطي العرب أكثر مما يستحقونه، لأنه كما قال الرسول الأعظم (ص): (كيفما تكونوا يولّى عليكم).
الشعب السوري ينزف دما وغضبا منذ أن اكتشف أن الحكام العرب تآمروا عليه ليدمروا دولته بنظامها وجيشها ومؤسساتها ومقدرات شعبها، وكل ذلك بدعوى إعادة سورية إلى حضن العرب.. أي أنه باسم العروبة المفترى عليها، يتم ذبح شعب وتدمير وطن في حرب بالوكالة لها علاقة بمصلحة “إسرائيل” في المنطقة.
والشعب السوري المفزوع، يأس من الشعوب العربية التي تبيّن أنها عبارة عن قطعان ماشية جاهلة ومسحورة (إلا من رحم الله)، ترى بأم العين أن الهدف من الحرب هو تدمير محور المقاومة لترتاح “إسرائيل” ولا تُصدّق، لكنها تُصدّقُ ما يقول لها إلام العهر والزيت من أن هدف السعودية وقطر وتركيا في سورية هو تطبيق الديمقراطية لتحرير الشعب السوري من ديكتاتورية الأسد.. ومع ذلك، لا أحد يتسائل ببداهة عن علاقة نظام قروسطي، رجعي، قبلي، ظلامي، متخلف، كنظام آل سعود الصهيوني بقضية الديمقراطية أو الديكتاتورية في سورية؟
ثم يطالعنا قوميو ما بعد خراب البصرة، ليحدثوا الناس بعد إنفجار الهوية وسقوط كل الأختام الأصولية والشعارات التقدمية، عن العرب والعروبة، وعن عودة “أم الدنيا” لقيادة الأمة في موزنبيق… وغيرها من الترّهات التي كفر بها الشعب السوري ولم يعد يؤمن بمثل هكذا شعارات طوبوية خدّرت عقول العرب لعقود طويلة، وحوّلت أوطانهم إلى مراتع للعهر والفساد، دون أن يتحقق شيىء يذكر على أرض الواقع ليترجم وحدة ونهضة، بل العكس تماما هو الذي حصل، خلافات وإنقاسامات ومؤامرات ودسائس بين الحكام، وجهل ومرض وفقر وتخلف وحروب بين الشعوب.
ما حصل في سورية خلال الثلاث سنوات من الحرب الكونية، سيكون له ما بعده بشكل إيجابي جدا.. إسألوا التاريخ الحديث قبل القديم لتتأكدوا أن كل الدول التي عانت ويلات الحروب والخراب انبعثت من جديد كطائر الفينق الذي يولد من رماد النار، وأصبحت رائدة في المنافسة الحضارية على المستوى الكوني..
اليابان مثلا، بعد هزيمتها في الحرب أمام الولايات المتحدة المجرمة التي قصفتها بالقنابل الذرية، خرج الإمبراطور إلى شعبه ليقول له ما مفاده: “الدولة منهارة، البلاد طالها الموت والخراب والجوع والمرض.. والخزينة فارغة، ولا أملك لكم من شيىء سوى أن تنقذوا بلدكم ومستقبل عيالكم بأنفسكم، ولا سبيل لذلك إلا بالتطوع”.
ليس لليابان طاقة ولا موارد، سلسلة جبلية جاثمة فوق أفواه البراكين.. ومع ذلك، كان أول ما قام به هذا الشعب العظيم، هو أنه قرر التطوع بحماسة منقطعة النظير، تنم عن روح وطنية عالية، ليقوم بجمع مخلفات الدمار ثم القمامة من الشوارع حتى لا تنتشر الجراثيم وتتفشى الأمراض، ثم العمار والإقتصاد فالتعليم… وفي ظرف 3 عقود فقط، تحولت اليابان إلى قوة إقتصادية وتكنولوجية كبرى، فدخلت عصر ما بعد الحداثة.
الدول الأوروبية نفسها خرجت من الحرب العالمية الثانية مدمرة والشعوب جريحة ومنهارة، جائعة ومريضة. لكنها بالإرادة والعمل والإنتاج والعطاء، حولت بلدانها إلى أيقونات إقتصادية عالمية، ولنا فيما قاله رئيس الوزراء البريطاني ‘وينستون تشرشل’ لحكومته العبرة، حين دخل عليه وزرائه وهو مستلقي على أريكة يدخن السجار في مكتبه، والطيران النازي يقصف لندن بلا هوادة، ليسألوه عما يجب فعله، فقال لهم: “هل القضاء بخير؟”.. استغربوا السؤال، لكنهم أجابوا بنعم، فقال لهم: “لا تخافوا، شعبنا سينتصر إذن”.
وفي منطقتنا، يعتبر أنموذج إيران مفخرة للأمة الإسلامية ومثال يحتدى به من قبل الدول العربية التواقة للنهضة، فبرغم 8 سنوات من الحرب الطاحنة، وبرغم الحصار، أصبحت إيران في ظرف 3 عقود أو يزيد قليلا، قوة إقليمية كبرى بفضل العلم والعمل والإنتاج والتضحية التي قدمها الشعب الإيراني العظيم حيث لعبت الإديولوجيا الدينية دورا حاسما في التغيير والإقلاع، ومحركا فاعلا دفع الشباب للجهاد في ميادين العلم والمعرفة والإنتاج.
وهو ما يؤكد أهمية الإستثمار في المواطن الذي وحده، بحبه لبلده وحرصه على دولته ولحمة شعبه وتاريخه وحضارته، وتطلعه لمستقبل مشرق واعد، يستطيع أن ينتصر ضد الظلام، وضد الخراب، وضد الموت، لتستمر الحياة أجمل مما كان، وهذه هي قمة التضحية التي أبان عنها الجيش العربي السوري البطل وإخوانه في السلاح من رجال المقاومة بأشكالها وألوانها الإسلامية والقومية والوطنية، كما غالبية الشعب الذي التفّ حول دولته ورفض الإنسياق وراء المؤامرة.
وبالتالي، نستطيع القول على ضوء ما شاهدناه في سورية، أنه وقع تلاحم حد التمازج بين الجيش العربي السوري وحزب الله والمقاومة الشعبية، أنتج عقيدة متينة وجديدة ستشكل لا محالة الأساس الثقافي لبلورة إيديولوجيا جامعة وفي نفس الوقت جذابة، تجمع بين العامل الديني والعامل القومي الذي تحدث عنه الرئيس الأسد مؤخرا.
لذلك، ما من شك أن الدور جاء اليوم على سورية، لتبرز كأول بلد عربي يركب قطار النهضة الحقيقية ليصل إلى محطة ما بعد الحداثة في ظرف قد لا يتجاوز عقدين من الزمن على أقصى تقدير، لأنه لن ينطلق من الصفر ما دامت إيران حليفة قوية ووفية إلى جانب المارد الروسي أيضا.
ولعل أولوية القيادة والشعب في سورية بعد أن تحملوا ما لا طاقة للجبال بحمله من غدر العرب، وخيانة العرب، ونفاق العرب، وإجرام العرب… ليس التوجه شطر العرب، بل شطر الإخوة الحلفاء الأوفياء والأصدقاء الأقوياء، ونقصد بذلك إيران وروسيا ودول البريكس. لأنه في إطار هذا المحور الإقليمي والدولي الممتد من أقصى الصين إلى شواطىء البحر الأبيض في سورية ولبنان، والذي ولد من رحم المعاناة في سورية، ستأخذ هذه الأخيرة مكانتها لتحدد دورها وسياساتها الداخلية والخارجية، ولن يقبل الشعب السوري المتجانس والمتسامح بأن يُولّي النظام وجهه شطر السعودية مهما كانت الإعتبارات السياسية والإكراهات الإقليمية والدولية، لأنه يرفض العودة للعيش في الماضي السحيق زمن الجاهلية الأولى.
إن الأساس المتين التي تقوم عليه العلاقات داخل مجتمع من المجتمعات المنتظم في دولة وطنية يقوم على ثلاث مستويات مرتبطة ببعضها ومتداخلة بشكل وثيق بل ومعقد، وهي كما أوجزها الفيلسون وعالم الإجتماع الكبير ‘إنجلز’: “الإديولوجيا، السياسة، الإقتصاد”.
وإذا كان الرئيس الأسد قد بدأ الحديث مسبقا عن “الإديولوجيا”، في إشارة ذكية للمثقفين مفادها، أن سورية انتصرت، وأنه حان دورهم لوضع الأسس الفكرية المتينة لإديولوجيا وطنيــة تمزج بين العروبة والإسلام، وتكون أنموذجا لثقافة المحبة والتعاون والسلام في المنطقة.. فلأن الإديولوجيا هي تعبير اللا وعي الجمعي للأمة وعلاقة مختلف مكوناتها بعالمهم الذي يمثل الوحدة التي تلتحم فيها علاقاتهم الحقيقية بظروف عيشهم، والتي في حالة سورية، نعتقد أنه يجب أن تقوم على أساس المواطنة والدولة الوطنية التي تخدم الجميع وتسهر على تحقيق الرفاهية لأبنائها دون إقصاء أو تمييز، لأن الإستثمار في المواطن وحده كفيل بصنع شعب قوي، منيع، ومنتج.. ولتسقط كل شعارات العهر التي تاجر بها العرب لعقود خلت دون نتيجة تذكر، ففقدت بريقها الخادع حين اكتشف الناس أنها ثقافة بلا معنى.
أما الإقتصاد، فسورية بلد غني بفضل مقدراته من الطاقة، والفلاحة، والصناعة، وأجيال من المواطنين المتعطشين للعلم والعمل في صمت، والإنخراط في مشروع قومي للإقلاع الإقتصادي يكون هدفه خلق أكبر شريحة ممكنة من الطبقة الوسطى العاملة والمنتجة في سورية، بدل طبقة الأغنياء من الأزلام والإنتهازيين الذين يغتالون الحلم في قلوب الأمهات ويقتلون الأمل في عيون الأطفال الفقراء..
قدر سورية كما هو مدون باللوح المحفوظ، هو أن تكون قلب الأمة العربية والإسلامية في معركة الوجود والمصير المرتقبة مع الكيان الصهيوني الغاصب للأرض، والمغتصب لعرض العرب وشرفهم وكرامتهم، ولا عذر لأحد لا يقاوم هذا الظلم بالبندقية أو الخنجر أو القلم أو الكلمة، وذلك أضعف الإيمان.
ولعله من الأهمية بمكان معرفة أن من أهداف الحرب على إيران بالوكالة في لبنان ثم سورية، هو تدمير فكرة أن العرب والمسلمين يستطيعون الخروج من عصور الظلام الطويلة إلى عصر النور والحضارة بالإعتماد على أنفسهم دون حاجة للغرب. لأن هذه القضية ظلت لسنين طويلة من المسلمات لدى المثقف العربي، الذي كان يقول للناس، أن لا خلاص لكم للخروج من تخلفكم سوى بالمرور بنفس المراحل والأطوار التي مر منها الغرب قبل أن يصبح على ما هو عليه اليوم.. وهذا جهل ودجل جعلنا أمة تابعة ومستهلكة لكل شيىء ينتجه الغرب بما في ذلك القيم..
وإذا كانت إيران قد أثبتت لنا اليوم بالتجربة عكس هذه المقولة، وأوحت للشعوب العربية أن سر التحرر والنهضة والتقدم يكمن في الناس، فهذا معناه أننا بحاجة لثقافة جديدة مجدية غير زبالة الثقافة التي أفرغت في عقولنا بعد أن حولها الإعلام العربي إلى مكبّ للنفايات.
سورية اليوم على موعد مع التاريخ لعمار الوطن وبناء الإنسان، ولها من المقومات والمقدرات والعقول والطاقات ما يؤهلها لأن تمضي بثقة وثبات نحو المستقبل، لتدخل عصر ما بعد الحداثة، وتخلع عنها غبار تاريخ طويل من الجهل والظلم والمؤامرات.. وحدها المصالح العليا للشعب السوري ستكون المعيار، لأن الرئيس الأسد قالها مرة بتواضعن واعترف بأنه ارتكب أخطاء وأنه عازم على الإصلاح بما يحقق للشعب السوري ما يطمح له من حرية وديمقراطية ومشاركة سياسية في صنع التغيير المنشود.
وبالتالي، ما بعد الإنتخابات، سيكون حتما مغايرا تماما لما قبلها، وسيبدأ عهد جديد لا وجود فيه لديكتاتورية الأفراد أو الأحزاب، ولا مكان فيه لإقتصاد ليبرالي متوحش ينتج الفقر ويلد الفقراء، ولا حديث فيه عن تبعية، والعمالة في قاموس سورية الجديد لن تعتبر وجهة نظر كما هو الحال في لبنان، بل ستُعرّف كجريمة خيانة للوطن يعاقب عليها قانون الشعب.
هذه تحولات كبرى تنتظر سورية في المدى المنظور.. لكن ماذا لو عرقلتها السعودية وتركيا وإسرائيل؟.. هذا ما سيحاولون فعله لا محالة بشن عدوان جديد من الشمال والجولان لإفساد العرس الديمقراطي السوري، لكنهم سيفشلون كما فشلوا في أكثر من محطة ومناسبة، لأن سورية ما قبل الإنتخابات، أصبحت أكثر قوة، ولحمة، وشراشة في الدفاع عن وجودها ومصيرها ودورها وخياراتها التي يحاربها العالم بسببها، خوفا على أمن “إسرائيل” ومستقبلها في المنطقة.
أحمد الشرقاوي – بانوراما الشرق الأوسط