روسيا ضرورة استراتيجية في النظام العالمي الحديث
جريدة البناء اللبنانية-
نمر أبي ديب:
(العالم بمقدراته السياسية وهوامشه الاستراتيجية على منعطف نووي استثنائي)، عبارة أكبر من تحوُّل، وأخطر من انزلاق عالمي في مجهول «الفوضى المستمرة» على أكثر من مستوى أمني، سياسي وآخر اقتصادي وغذائي بلغ بمؤثراته العالمية سقف الخطاب السياسي ملامسات وجودية غير مسبوقة، أعادت إلى الأدبيات السياسية عناوين وتعابير طواها الزمن منذ الحرب العالمين الثانية حيث شكل الاستنهاض الحديث للمقدرات النووية مادة استهلاكية، رفعت سقف «التحدي العالمي» على مستوى المواقف السياسية، كما التقييم الميداني للمدى الأعلى، نتيجة الفوضى الممنهجة التي فرضتها عوامل عديدة من بينها مقدرات الانتقال العالمي من نظام آحادي إلى آخر متعدّد الأقطاب، فرضتها سياسات الدول الكبرى في زمن الانحسار الأوروبي والعجز عن تقديم الدور الفاعل المتقدم والمركزي على الساحة الدولية والشرق أوسطية في زمن المواجهات الغير مباشرة وحروب الوكالة، التي سمحت بعمليات استنزاف طويلة، بلغت من وجهة نظر الجميع الحدّ الفاصل ما بين الخسارة الميدانية الكاملة والربح الكامل.
هنا تجدر الإشارة إلى أنها المرة الأولى بعد «حرب فيتنام»، التي تخطو فيها البشرية خطوات ثابتة وملموسة على مسار الحروب القاسمة في العسكر والسياسة وحتى في الاقتصاد الشكل الذي نشهده اليوم مع ازدواجية حرب أوكرانيا وسياسة تصدير الحبوب.
قد يكون الحديث العالمي عن احتمال انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو (معاهدة حلف شمال الأطلسي) واجهة سياسية لمواقف نارية تناولت في العديد من جوانبها أمكانية الدخول العالمي في «حرب عالمية ثالثة»، كما أشار رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان حين حذَّر من (نشوب حرب عالمية جديدة حال انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي)، لكنه في الحقيقة انعكاس لعدم تقبّل القوى العالمية في كلا المحاور فكرة العبث أو التغيير الاستراتيجي في موازين القوى العالمية تحديداً الأوروبية، ما يشير مع مجمل المواقف السلبية الصادرة عن وزارة الخارجية الفرنسية في الدرجة الأولى وأيضاً عن صندوق النقد الدولي، المتعلق بـ «الأمن الغذائي» إلى دور روسيا المحوري في هذا الملف، وأيضاً إلى الحاجة العالمية ومن ورائها الأوروبية إلى أمن روسيا الاتحادية وتلك حقيقة وجودية، فرضها الروس من خلال «حرب الغاز» وموقف بوتين الأخير من اتفاقية تصدير الحبوب.
الحديث اليوم عن حاجة عالمية لـ «روسيا الاتحادية» في قطاعات عديدة مختلفة، يشمل في حدّه الأدنى الانتظام السياسي الجديد، الذي بدت فيه الصين الشعبية جزءاً لا يتجزأ من تكامل المحاور، من اصطفافات استراتيجية فرضتها الأحادية الأميركية من جهة، والترهّل المبكر في الدور المركزي، الذي اختصرت به ومن خلاله الولايات المتحدة الأميركية المشهد العالمي لسنوات ما قد يفتح باب الاجتهاد السياسي والتحليل، حول مسائل عديدة أبرزها الشيخوخة الأميركية في الدرجة الأولى والذهاب التدريجي نحو تقاطعات سياسية وعسكرية واقتصادية لفظت على مستوى الحضور العالمي والتأثير الاستثنائي للولايات المتحدة الأميركية، «الهالة الأميركية» من جهة، و»النظام الأحادي» الغير قابل للحيات أو حتى التماهي مع التعددية الدولية التي يشهدها اليوم النظام العالمي الجديد.
بعيداً عن حسابات الربح والخسارة العالمية، وأيضاً عن ردود الفعل العسكرية وحتى الاقتصادية، التي يمكن أن تدلي بها أو تتبناها المنظومة الأوروبية الرافضة لمواقف وخيارات موسكو العسكرية، حصر المواجهة السياسية بـ خيار ضمّ أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي من عدمه إعلان هزيمة سياسية عسكرية حتى اقتصادية للولايات المتحدة الأميركية مع حلف شمال الأطلسي، ونسف أيّ محاولة دولية هادفة إلى توسيع دائرة الحرب الأوكرانية والدخول في مواجهات مباشرة وعلنية مع روسيا بعيداً عن حرب الوكالة والأساليب التي باتت تنتهجها الإدارات الأميركية، انطلاقاً من حتمية الحسم الروسي، والانتقال الميداني من مراحل «الفوضى المحصورة» جغرافياً، إلى مرحلة تثبيت التوازنات والعمل على إقرار «سلة عالمية» تتضمّن إضافة إلى أمن «الغذاء العالمي»، ترسيم الحدود السياسية لمساحات النفوذ المشتركة الروسية والصينية والأميركية في القارة الأفريقية.
انطلاقاً مما تقدّم يقف العالم اليوم بمحاوره الدولية ومقدراته السياسية، العسكرية وحتى الاقتصادية على منعطف وجودي لا يحتمل الحدّ الأدنى من التدهور أو الخطأ الاستراتيجي في مراحل بحت استثنائية، بدت فيها أبواب المراوحة العالمية مفتوحاً على مصراعيها، ما يرتب على المستوى الدولي جهود دبلوماسية كبيرة وجبارة، لم ترتقِ في أبعادها السياسية ودوافعها الاستراتيجية إلى مستوى الحلول الإنقاذية، في مراحل لا تملك فيها الدول المعنية «كلفة المشاركة البشرية» في الحروب العسكرية المحتملة، بالتالي هل يملك الفريق الرافض للخطوات الروسية، خيارات سياسية وبدائل استراتيجية قادرة على إحداث متغيّرات جوهرية في أساس المشهد الأوروبي وحتى العالمي، في مراحل أكثر من وجودية لم تنضج فيها بعد ظروف الحل السياسي الاقليمي والدولي.
روسيا بمقدراتها العالمية وحضورها الاستثنائي ضرورة استراتيجية للنظام العالمي الحديث، وضمانة ميدانية للأمن الغذائي الذي شكل على مستوى الحاجة الدولية والأولويات الأوروبية عصب التعاطي العالمي مع روسيا، بعد استراتيجية «حصار الغاز» و»حرب الطاقة»، ما يؤكد على امتلاك الروس أكثر من ورقة رابحة، ومنافذ حيوية كفيلة ببقاء العظمة الروسية، مع الدور المركزي الفاعل والمؤثر في سياسات أوروبا والعالم.