“داعش” واغتيال الحريري… إعادة التحقيق؟
صحيفة البناء اللبنانية ـ
ناصر قنديل:
– إذا كانت الحرب على العراق قد شكلت الحلقة الفاصلة في الغزوة الأميركية العسكرية للمنطقة، وتوقف على فشلها إعادة تموضع المشروع الأميركي ومحاولة إعادة إنتاجه بعنوان استراتيجيات الحرب الذكية أو الحرب الناعمة، فإنّ اغتيال الرئيس رفيق الحريري كان الحلقة الأبرز في هذا النوع من الحرب، بعيداً عن توجيه الاتهام ومن نفذ الاغتيال، بل من زاوية كيف تقوم أجهزة الاستخبارات بتوظيف حدث، أو بالتغاضي بهدف التوظيف عن أحداث تعلم بها مسبقاً، أو بتقديم الدعم والمساعدة من دون أن يدري المعني بهذا الدعم وهذه المساعدة لأنّ الهدف هو التوظيف، أو بحجب معلومات ومعطيات عن التحقيق لتركه يسلك طريقاً يخدم هذا التوظيف ويسمح له ببلوغ أهدافه.
– ليس خافياً، بعيداً عن الجهة التي قامت بالعملية، حجم توظيفها في عزل المقاومة عن بيئات عربية وإسلامية، وكيفية شنّ أشرس حرب إعلامية ونفسية ضدّها وضدّ سورية وشيطنة صورتيهما إلى ما لا حدود له، وكلّ ما كان صعب التخيّل بلوغه لولا هذه العملية، ولا يخفى دور هذه الشيطنة ومترتباتها في التمهيد لحرب تموز لاختبار مفاعيلها في إنشاء موازين جديدة للقوى، كما ليس خافياً دور الاغتيال في إطلاق العصبيات والغرائز المذهبية التي وفرت البيئات الحاضنة لكلّ ما جاء سياسياً باسم الإسلام السياسي، وهي عصبيات مذهبية دموية تستهدف مكوّنات إسلامية أخرى على الطريق الجاهلية بعيداّ عن كلّ دين، وكذلك ما شهدناه من نمو لمفردات «القاعدة» وامتداداتها وصولاً إلى «داعش» وغيرها ممّن يجاهرون بأنّ قضيتهم هي قتال مذهبي، واستبدال العداء لإسرائيل بالعداء لإيران، ولا يتخيّل أحد أنّ السقوط الأخلاقي لدول الخليج ما بعد تحرير الجنوب اللبناني وغزو العراق كان ممكناً ترميمه وصولاً إلى جعل مشيخات وممالك وإمارات الخليج قيادة رسمية وعلنية لثورات تمّت تحت شعار الديمقراطية والحرية، لولا ما ترتب على الاغتيال، والأهمّ هو أنّ «القاعدة» بمفرداتها القديمة والجديدة ما كانت لتجد بيئة حاضنة كالتي وجدتها لولا هذا الاغتيال وتداعياته الإجمالية والمتشعّبة.
– من الطبيعي أن يعتبر البعض ممّن يؤيدون اتهام المقاومة وسورية بالعملية ويناصبونهما العداء، أنّ النتائج المترتبة على الاغتيال وتحديد المستفيدين لا يكفيان لتوجيه الاتهام، ويعتبر ذلك مجرّد سوء تقدير من المتهمين وحسن استثمار من خصومهم، وأن لا يرى في تشكيل لجنة التحقيق الدولية ومن بعدها المحكمة، والطريق الذي سلكه التحقيق ومن بعده الاتهام إلا مجرّد تضامن دولي مع لبنان، على رغم الإدراك الكامل بكون القرارات التي صدرت بتشكيل اللجنة والمحكمة صناعة أميركية، طالما كان مجلس الأمن قبل زمن الفيتو الروسي ـ الصيني، إطاراً تحدّد واشنطن وحدها مهامه وكيفية تصرفه، ونفهم من دون أن نعذر أن يتغاضى هذا البعض متعمّداً عن كون نتائج التحقيق والاتهام أكملت النتائج المؤذية بحق قوى المقاومة في المنطقة وشكلت أحد أدوات استهدافها.
– مبرّر الحديث اليوم هو ما صار بين أيدي العالم كله من وقائع حول مخطط موجود ومكتوب لدى قيادات «القاعدة» في العراق منذ عام 2003، في شأن التحوّل خلال عشر سنوات نحو إقامة «دولة العراق والشام» التابعة لـ»القاعدة»، والتي يشكل لبنان ساحة من ساحاتها الرئيسية، والتي كان يشكل الرئيس رفيق الحريري فيها وجوداً لأكبر زعامة إسلامية للطائفة الأهمّ في المنطقة والمانع الرئيسي لنمو «القاعدة» وتقدمها، هذا غير ما ترتب على اغتياله من نتائج تحفيزية لهذا النمو، وبعدما صار في جعبة كلّ الجهات الأمنية الإقليمية والدولية ما يكفي من الوقائع حول الخطوات الإجرائية لتنظيم أبو مصعب الزرقاوي ومن بعده أبو بكر البغدادي لتحقيق هدف إقامة الدولة المنشودة، هل يمكن التفكير مرة أخرى بجريمة الاغتيال؟
– يعتمد المؤرّخون وسيلة علمية منهجية بعد الأحداث الكبرى، خصوصاً التي تكون نتيجة خطة تقف وراءها جهة ظهرت قدراتها فجأة، كشنّ حرب أو القيام بانقلاب، فيعودون إلى ما يسمّونه إعادة البناء الديناميكية للأحداث، بمحاولة ربط بنيوية لفراغات كانت تبقى مشوّشة أو غير مفسّرة في أحداث هامة وقعت، ويحاولون البحث عما إذا كان ممكناً إيجاد رابط ما بين هذه الأحداث وملء الفراغات بتفسيرات منطقية، وربطها بالقوى الصاعدة التي ظهرت قدراتها ومخططاتها إلى الضوء، والأكيد أنّ المؤرّخين في لبنان والمنطقة والعالم سيهتمّون كثيراً في ما سيكتبونه عن المنطقة، ومن ضمنها الأحداث الكبرى المفصلية والغامض منها خصوصاً، وبصورة أخصّ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، في محاولة الربط بحدث كبير يهزّ المنطقة اسمه، هذه الولادة لدولة «داعش»، والخطط التي كانت وراءها والإمكانات والعمليات السرية التي مهّدت لها، ومحاولة الجواب عن سؤال، ما إذا كانت التداعيات التي ترتبت على الاغتيال تجعل مسؤولية «داعش» ومتفرعات «القاعدة» واحدة من الفرضيات الجدية؟
– السؤال اليوم برسم المحققين إذا كانوا محققين وليسوا مجرّد رجال استخبارات ينفذون خطط حكوماتهم، بإنجاز استهداف مبرمج بواسطة تحقيق مبرمج لتوجيه اتهام مبرمج، كما هو برسم القضاة إذا كانوا قضاة فعلاً وليسوا مجرّد موظفين جرى استدعاءهم بثوب القضاء لإصدار أحكام لها وظيفة في مشروع كبير، هل هناك من سيفكر بالسؤال عما إذا كان يجب إعادة النظر من باب الفحص والتحقق، بكلّ ملابسات التحقيق والاتهام وطرح فرضية جدية تحتاج منحها فرصة الدراسة وإعادة قراءة السيناريوات والمعطيات ومحاولة إنشاء سيناريو افتراضي لدور القاعدة والتحقق من مدى جديته؟
– هل هناك من يسمع أو من يهتمّ؟ أو هل هناك من يريد أو يجرؤ على الأقلّ، بين ولاة الدم للتوقف أمام هذا الكلام بعين غير سياسية ويقول إنّ الأمر يستحقّ؟