«خليج ليكس» قريباً
إنها قضية حق الشعوب في الاطلاع على المعلومات التي تريد الحكومات إبقاءها في الخفاء. هي نفسها معركة موقع «ويكيليكس». وهي برنامج عمل إدوارد سنودن وغلن غرينوالد اللذين كشفت وثائقهما الكثير من أسرار واحدة من أهم وكالات الاستخبارات الأميركية. في ما يأتي أول مقابلة لوسيلة إعلامية عربية، أجرتها «الأخبار» مع غرينوالد الذي أكّد اقتراب موعد نشر وثائق سنودن الخاصة بالشرق الأوسط
أعلن الصحافي الأميركي غلين غرينوالد، الذي نشر عدداً من الوثائق السرية الخاصة بوكالة الأمن القومي الأميركية، أنه سيتم قريباً الكشف عن وثائق تسلّط الضوء على برامج الشراكة والمراقبة القائمة بين الوكالة وأجهزة استخبارات في الشرق الأوسط، على الأخص في دول خليجية. وقال غرينوالد الذي كان أوّل من فجّر فضيحة وكالة الأمن القومي عام 2013، وفاز بجائزة بوليتزر عن تغطيته المستمرة للقضية، إنه سيتم الكشف عن وثائق إضافية متعلقة بمنطقة الشرق الأوسط.
ووكالة الأمن القومي (NSA) هي وكالة الاستخبارات الأميركية المتخصصة بالتجسس التكنولوجي. وتسمح القوانين الأميركية لها بالعمل في كل أنحاء العالم، وداخل أراضي الولايات المتحدة الأميركية نفسها. وينتمي غرينوالد إلى مجموعة ضيقة من الأشخاص الذين يمتلكون جميع وثائق الوكالة، ويستمر في لعب دور ريادي في فضح حجم عمليات المراقبة التي تقودها الوكالة وشركاؤها حول العالم.
وفي مقابلة مع «الأخبار» من منزله في البرازيل، وهي مقابلته الأولى مع وسيلة إعلامية عربية، تحدث غرينوالد عن الدور الذي تلعبه وكالة الأمن القومي وتأثير التسريبات التي تمّ نشرها على تغيير المواقف من الولايات المتحدة وعلى العلاقات معها، كما تناول الوثائق المتوقعة في المستقبل. وقال: «من الأمور الأساسية التي نريد العمل بشأنها، وثائق تفصّل تعاون وكالة الأمن القومي مع بعض أسوأ الطغاة في منطقة الخليج لتعزيز قدراتهم على التجسس على المواطنين، ولتتشارك وكالة الأمن القومي مع تلك الأنظمة المعلومات التي ترد عن تلك الدول». وأضاف: «هذه قصّة مهمة جداً علينا أن نرويها، ونريد أن نعمل عليها الآن» من دون أن يعطي إطاراً زمنياً محدداً.
وردّاً على سؤال حول تفاصيل المعلومات التي تتشاركها وكالة الأمن القومي مع إسرائيل، قال غرينوالد: «لا يمكنني أن أجيب عن أسئلة تتعلق بوثائق لم تنشر بعد، كلّ ما أستطيع البوح به هو أنه لا يزال هناك الكثير ليقال عن تلك المنطقة من العالم».
عمليات مراقبة واسعة
في كتابه الأخير «لا مكان للاختباء: إدوارد سنودن، وكالة الأمن القومي، ودولة التجسس الأميركية»، كشف غرينوالد عن وثائق تسلّط الضوء على حجم تجسس وكالة الأمن القومي على الأعداء والحلفاء على حدّ سواء، بينها أدلة على تصنيف دول كشركاء «موافق عليهم في فئة الاستخبارات الإنذارية SIGNIT»؛ من ضمنها إسرائيل والأردن والسعودية وتونس وتركيا والإمارات.
وتشير إحدى الوثائق التي تعود إلى عام 2010، إلى أن سفيرة الولايات المتحدة إلى الأمم المتحدة في حينها سوزان رايس طلبت من وكالة الأمن القومي استخبارات إنذارية عن الدول التي لم تكن قد اتخذت موقفاً حاسماً بعد حيال التصويت في مجلس الأمن الدولي على قرار فرض عقوبات على إيران، وذلك من أجل «وضع استراتيجية» تهدف إلى إقناع تلك الدول بالتصويت إلى جانب واشنطن.
وبحسب الوثائق، فقد جمعت وكالة الأمن القومي معلومات عن فرنسا والمكسيك واليابان والبرازيل قبل عملية التصويت. وقالت بعثة الولايات المتحدة إلى الأمم المتحدة إن برنامج الاستخبارات الإنذارية «ساعدنا على اكتشاف متى قال المبعوثون الدائمون الحقيقة، وكشف موقفهم الحقيقي حيال العقوبات… ما أعطانا اليد العليا في المفاوضات… ووفر لنا معلومات حول الخطوط الحمر التي تضعها بعض الدول».
وكانت فضيحة وثائق الوكالة قد تفجرت في حزيران عام 2013، بعدما حمّل المتعاقد السابق مع الوكالة إدوارد سنودن، عدداً غير محدد من الوثائق التي تظهر حجم عمليات المراقبة التي كانت تتم على الأراضي الأميركية وفي الخارج، وفرّ بعدها إلى هونغ كونغ.
آمن سنودن بحقّ الرأي العام بالاطلاع على حجم عمليات المراقبة التي تقودها وكالة الأمن القومي، فتواصل مع غرينوالد ومنتجة الأفلام الوثائقية لورا بويتراس لمساعدته على فهم الوثائق التي كانت في حوزته ونشرها. وبدأ غرينوالد الذي كان كاتباً في صحيفة «غارديان» البريطانية في حينها، بنشر معلومات مقلقة حول حجم عمليات المراقبة التي تقودها وكالة الأمن القومي، تفصّل كيف تقوم الوكالة بعمليات تجسس اقتصادية وصناعية من أجل تحقيق نفوذ سياسي.
ومن بين المعلومات الصادمة، تفاصيل عن جمع وكالة الأمن القومي بيانات هواتف 120 مليون مشترك في شركة «فيريزون»، واستحواذها على ملايين بيانات الاتصالات الهاتفية والدردشة على الإنترنت والبيانات الأخرى على الإنترنت من خلال برنامجَي PRISM وXKeyscore السريين، وقيامها بعمليات مراقبة غير مسبوقة استهدفت بعثات دول أوروبية ومقرّ الأمم المتحدة في نيويورك.
وكشف غرينوالد في أيلول 2013 أن وكالة الأمن القومي تمنح إسرائيل كميةً هائلةً من المعلومات حول الاتصالات من دون أن «تتعب نفسها بغربلتها». كما نشر مذكرة التفاهم الموقعة بين وكالة التجسس الإسرائيلية ووكالة الأمن القومي، ما يوفّر المزيد من التفاصيل عن العلاقة الوثيقة بينهما. وقال: «ثمّة وثائق تشير إلى أنه على الرغم من أن الحكومة الأميركية تقدم مساعدات ضخمة إلى الإسرائيليين، فإن الإسرائيليين هم في الواقع من أشرس المتنصتين على الحكومة الأميركية وعلى أميركا بشكل عام».
وأضاف «كما هو متوقع، لم تحظَ (هذه القصة) بالانتباه الذي تستحقه في وسائل الإعلام الأميركية، فأي شيء ينعكس سلباً على إسرائيل يتم تجاهله في وسائل الإعلام الأميركية».
وأخيراً، أطلق غرينوالد مع عدد من الصحافيين الاستقصائيين المجلة الإلكترونية (ذا إنترسيت)، الفرع الاستقصائي الرقمي التابع لمؤسسة «فيرست لوك ميديا»، وتتولّى حالياً تغطية وثائق وكالة الأمن القومي التي سربها سنودن.
وفي ما يتعلق بالشرق الأوسط، نشرت «ذا أنترسيت» في وقت سابق هذا العام مقالاً سلّطت فيه الضوء على الدور السرّي الذي تلعبه وكالة الأمن القومي في اليمن، وكيف تستهدف أشخاصاً بواسطة غارات تشنّها طائرات بدون طيّار، استناداً إلى مراقبة إلكترونية وتحليل واصفات البيانات، بدل الاستخبارات البشرية. وحذّر غرينوالد من أن هذه الطريقة المتبعة «غير موثوقة، وتكاد تضمن سقوط ضحايا مدنيين، وتؤدي إلى القتل بدون التأكد من الشخص المستهدف». وقال «في بعض الأحيان، تعترض وكالة الأمن القومي اتصالات بين أشخاص، يعتبرون، بغضّ النظر عن غموض كلمة «إرهاب»، أهدافاً شرعيين لوكالة الأمن القومي، لكن المشكلة أن معظم ما يقوم به هؤلاء الأشخاص لا علاقة له بذلك».
وعلى الرغم من أن العديد من المسؤولين الحكوميين وحتى الصحافيين يحذّرون من أن نشر وثائق وكالة الأمن القومي يعرّض الأمن القومي وسلامة الأشخاص الذي يعملون لحماية البلاد من التهديدات والهجمات الإرهابية للخطر، يؤكد غرينوالد أن الوثائق تظهر أن الوكالة ذهبت أبعد من المهمات الموكلة إليها، وهي تستخدم «الحرب على الإرهاب» كحجة للقيام بعمليات مراقبة واسعة وغير مقيدة تستهدف أفراداً ومجموعات وقادة سياسيين، بهدف الحفاظ على سيطرة سياسية واقتصادية. وقال: «الأمر يتعلق بإخضاع شعوب كاملة للمراقبة، واستهداف الأفراد والشركات من أجل مصالح اقتصادية، وبشكل عام، السعي لاستخدام المراقبة كوسيلة لفرض السيطرة على العالم». وشرح «كلّما عرفت أكثر ما يقوله الناس حول العالم وما يفعلونه، زادت سطوتك عليهم».
وركّز غرينوالد على استهداف الوكالة أشخاصاً يعتبرون «أصوليين»، وهم «أشخاص يعبّرون عن وجهات نظر أصولية، لكنهم ليسوا، حسب الوثائق، إرهابيين وغير متصلين بأي منظمات إرهابية».
وتراقب الوكالة نشاطاتهم عبر الإنترنت، لمعرفة ما إذا شاركوا في أي نوع من الدردشة الجنسية أو زاروا مواقع إباحية، ثمّ تستخدم هذه المعلومات ضدهم من أجل التشكيك بصدقيتهم. وأضاف «هذا في ما يتعلق باستهداف الأشخاص الذين تعتقد الحكومة الأميركية أن لديهم أفكاراً أصوليةً واستخدام المراقبة لتدمير حياتهم… وثمّة وثائق أخرى تناولناها تشير إلى جمعها معلومات عن أشخاص يزورون موقع ويكيليكس، أو محاولتها تشويه سمعة ناشطين بالنيابة عن مجموعة أنونيميس».
ويعمل غرينوالد وفريقه حالياً على تحديد المجموعات التي استهدفتها الوكالة على الأراضي الأميركية، بأكثر وسائل المراقبة مراوغةً، ما يظهر كيفية استهداف الوكالة لـ«المعارضين والناشطين والمناصرين لقضايا ما، كوسيلة انتقام من مواقفهم السياسية».
التغيير على الأرض
لا تنحصر نشاطات وكالة الأمن القومي بالأشخاص الذين تعتبرهم «راديكاليين» أو منشقين سياسيين. ففي العام الماضي، كشف غرينوالد أن وكالة الأمن القومي تجمع بشكل عشوائي «معلومات ضخمة» عن اتصالات وبيانات الإنترنت الخاصة بملايين المواطنين البرازيليين، وهي دولة تعتبر صديقة للولايات المتحدة. كما تعرضت شبكة الاتصالات الفرنسية للاستهداف أيضاً، وكشفت الوثائق أن وكالة الأمن القومي جمعت بيانات هواتف حوالى 70.3 مليون مواطن خلال 30 يوماً.
وفي آذار، كشفت بويتراس، بالتعاون مع صحيفة «دير شبيغل» الألمانية، حجم عمليات التجسس التي تقودها وكالة الأمن القومي وشركاؤها البريطانيون وتستهدف حلفاء سياسيين، على الأخص الشركات الألمانية والمستشارة أنجيلا ميركل.
لا يتوقع غرينوالد أن تؤدي هذه المعلومات إلى خلق عداوة بين الحلفاء، لكنه يؤكد أنها ألحقت الضرر بالعلاقات في ما بينها، ودفعت بعض الدول إلى البحث عن وسائل بديلة للحدّ من السطوة والسيطرة الأميركية. وقال: «إن الغضب حقيقي جداً في قيادات الحكومة الألمانية، ولكن أعتقد أن العلاقة تضررت ولم تتدمر»، وتابع: «يسعى الألمان إلى جانب الفرنسيين والبرازيليين وبعض الدول الآسيوية للتوصّل إلى بناء نوع جديد من الإنترنت لا يعبر من خلال الولايات المتحدة أو لتقديم تشريع في الأمم المتحدة يمهد الطريق لنظام دولي جديد يشرف على الإنترنت لمنع السيطرة الأميركية».
وحتى في الولايات المتحدة، يُتوقع أن يُفرض التغيير من قبل أطراف من خارج الحكومة. فعلى الرغم من الغضب الذي خلّفه كشف المعلومات حول مراقبة المواطنين الأميركيين عشوائياً، ومطالبة بعض النوّاب بآليات إشراف فعّالة على هذه العمليات، يقول غرينوالد إن التغييرات التي قامت بها الحكومة لا تزال سطحيةً. وشرح غرينوالد «ستطلق الحكومة الأميركية بعض المبادرات لتوحي أنها تقوم بذلك، ولكن أعتقد أن تقييد قدرات الحكومة الأميركية على التجسس سيأتي من وقوف دول أخرى حول العالم جنباً إلى جنب، كي لا تتحكم الولايات المتحدة بالنظام المادي للإنترنت». وأشار إلى أن شركات التكنولوجيا الرائدة ستطالب بالحدّ من التدخل الحكومي، بما أنها تخشى من أن النظرة المشككة بسلامة الاتصالات الأميركية ستحدّ من عدد العملاء في المستقبل. لكنّه توقّع أن ينبع التغيير الأهم من «أفراد حول العالم سيدركون أن خصوصيتهم تتعرض لتهديد ممنهج وسيبدأون باستخدام أدوات تشفير تسهم في الواقع في إبعاد وكالة الأمن القومي عن حواسبهم وعن استخدامهم للإنترنت ورسائلهم الإلكترونية، ما سيصعّب على الوكالة القيام بما تريده».
نور سماحة – صحيفة الأخبار اللبنانية