خطر التهديدات الاقتصادية وتراجع هيمنة السلاح النووي المالي
صحيفة الوطن السورية-
الدكتور قحطان السيوفي:
العالم الآن يعيش «كساداً جيوسياسياً»، بسبب التنافس المتزايد بين الغرب والقوى الأخر، فالحرب الأوكرانية مرشحة للتوسع وكذا الحرب الإسرائيلية الهمجية على غزة، وربما الولايات المتحدة على مسار تصادمي مع إيران، وتستمر الولايات المتحدة والصين في الجدال حول النفوذ في آسيا ومصير تايوان، وكل ذلك يؤدي إلى المزيد من خطر التهديدات الاقتصادية، ومع إعادة تسليح الولايات المتحدة وأوروبا وحلف شمال الأطلسي، أصبحت مستويات الإنفاق المرتفعة على الأسلحة التقليدية وغير التقليدية، بما في ذلك الأسلحة النووية والإلكترونية والبيولوجية والكيميائية، شبه مؤكدة.
المشهد العالمي يشير إلى الاقتراب من صراع عالمي في عصر ما بعد الحرب الباردة، وإبان الحرب الباردة، ساعـد اثنان من العوامل اليقينية الثابتة للحفاظ على استقرار الأمور على الرغم من خطورتهما: توازن الرعب النووي عبر الدمار المتبادل المؤكد، وهيمنة الدولار الأميركي الذي يـنـظـر إليه على نطاق واسع على أنه سلاح نووي مالي.
كانت الـسـمة المشتركة بين هاتين الأداتين اللتين تتمتعان بقوة مادية ومالية في ظل القطبية الأحادية التأثيرات الارتدادية، والأضرار الجانبية، والعواقب التي قد تترتب على ذلك، والآن، تغير الموقف، فلا يخلو الأمر من صراعات مستمرة، حيث قد يشعر أحد الأطراف بالخطر إلى الحد الذي يجعله يهدد باستخدام سلاحاً نووياً، وهذا ما تم التلميح له في الحرب الأوكرانية، وكان الدولار يـسـتـخدم بالفعل كسلاح هيمنة بشكل كامل وكوسيلة لنشر العقوبات المالية الظالمة على الدول التي تعارض سياسة الهيمنة الأميركية بحجج واهية.
صحيح أن المشكلات الناجمة عن هيمنة الدولار كانت قائمة لفترة طويلة، لكن الدولار أصبح اليوم عـرضة على نحو متزايد للاضطرابات المالية، وهو ما أجل هذه المشكلات ذات الطبيعة الفنية جزئياً، لكنها مشكلات سياسية أيضاً، ففي غياب أسباب انعدام اليقين بشأن موقف أميركا المالي في الأمد البعيد، نشرت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، استثمارات عامة ضخمة، في وقت أصبح الكونغرس الأميركي في حالة إرباك، الأمر الذي يلقي بظلال من الشك على قدرة الإدارة حتى على الإبقاء على الوضع المالي للحكومة الأميركية حرجاً، وخاصة مشكلة سداد الديون، ومن المرجح أن تكون هذه الالتزامات المالية والجمود السياسي الحالي من سمات الحكم طويلة الأمد.
في الولايات المتحدة الدولار معرض للخطر أيضاً لأن العالم يحاول من خلال وصل النقاط فهم استراتيجية الولايات المتحدة في دعم أوكرانيا ضد روسيا، والدبلوماسية في الشرق الأوسط التي أخرجتها حركة المقاومة الوطنية حماس الآن عن مسارها، والجهود الرامية إلى الحفاظ على السلام في مضيق تايوان، كما لاحظ نائب مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق خوان زاراتي، فإن العقوبات الأميركية الظالمة تحقق نجاحاً ضد الدول الصغيرة نسبياً، ولكن كلما كان الهدف أكبر، ازداد الضرر الذي تُلحقه العقوبات بأولئك الذين يفرضونها.
ثمة سبب آخر وراء ضعف الدولار حالياً في الشكوك العميقة التي تساور عدداً كبيراً من الأميركيين إزاء ما يسمى العولمة المفرطة والاعتماد المفرط على التمويل، ورجل الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل أنجوس ديتون، تحدث بلسان كثيرين عندما نشر كتاباً جديداً انتقد فيه بقسوة، غيره من خبراء الاقتصاد الذين ساعدوا على تحويل العالم إلى مكان غير متكافئ، كما أشار ديتون إلى أن الوضع في أميركا اليوم يذكرنا بالتفكك الاجتماعي في أواخر العهد السوفييتي في روسيا.
الواقع أن الانتخابات الرئاسية المرتقبة في الولايات المتحدة في 2024 ستجمع بين كل عناصر فوضى الدولار هذه، وخاصة إذا كان الاقتصاد راكداً، وفي خضم مثل هذه الاضطرابات المالية، ربما يضيف هذا السيناريو إلى جاذبية أولئك الذين يقترحون تخلي أميركا عن دورها القيادي والمواقف السياسية التي تبنتها بعد 1945.
لقد أبقت إدارة بايدن على أغلب التعريفات الجمركية التي فرضت في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وفشلت المحادثات الأميركية مع الاتحاد الأوروبي بشأن خفض التعريفات، والتصدي لصادرات الصين من الصلب بطرق متوافقة مع منظمة التجارة العالمية.
من الواضح أن المجتمع الدولي بحاجة إلى مبادئ توجيهية أفضل لإدارة الدبلوماسية المالية أشبه بتلك التي جرى تطويرها أثناء سباق التسلح النووي إبان الحرب الباردة.
في عام 1969 بدأت القوى العظمى العالمية تتخذ خطوات لجعل العالم أكثر أماناً عبر محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية SLLT، التي تمخضت عن معاهدات الحد من الأسلحة الاستراتيجية، ورغم أن تقييد استخدام الأسلحة النووية لا يزال يشكل أولوية قصوى في نظر المجتمع الدولي فإن وقف تحويل القنوات المالية العالمية إلى «سلاح نووي» يعني إعادة الاتصال بموضوعات تسوية ما بعد 1945.
في مؤتمر بريتون وودز ومؤتمر الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو، كان الاقتصاد والأمن وجهين لعملة واحدة، لكن العلاقة الوثيقة بين الأمم المتحدة ومؤسسات بريتون وودز «صندوق النقد والبنك الدوليين» كانت معيبة، وكان أكبر خمسة مساهمين في المؤسسات المالية الدولية هم أيضاً الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن الدولي، ولهم سلطة النقض التي دمرت فاعلية تلك الهيئة، والآن تسربت روح سلطة النقض إلى مؤسسات بريتون وودز عبر قواعد التصويت بالأغلبية المطلقة.
ومن الممكن أن تسير محادثات الحد من الأسلحة النقدية على خطا محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية، وربما يتوج الأمر بمعاهدة الحد من الأسلحة النقدية، ويجب أن يكون هذا أولوية، ذلك أن النظام النقدي الدولي الأكثر قوة من شأنه أن يعمل على توليد قدر أعظم من الأمان بإيجاد قدرة عالمية أقوى للوقاية من انتهاكات السلام التي تمارسها قوى الإمبريالية الأميركية ووقف هذه الانتهاكات، بالمقابل عصرنا معرض للخطر بالتهديدات الاقتصادية والنقدية والمالية، كالتضخم وعولمة التجارة ومشاكل الدين وتغير المناخ والعمالة، وهذه التهديدات آخذة بالارتفاع وتتفاعل بخطورة مع مختلف التطورات الاجتماعية والسياسية والجيوسياسية والصحية والتكنولوجية الأخرى.
هناك إدراك متزايد بأن ليس الاقتصاد العالمي وحده المعرض للخطر، بل أيضاً بقاء البشر، وفي عام 2022 شهدنا طفرة في معدلات التضخم في الاقتصادات المتقدمة والأسواق الناشئة، وتباطؤاً حاداً في النمو العالمي استمر حتى عام 2023، وعلامات على مشكلات ديون حادة تواجه القطاعين الخاص والعام مع قيام البنوك المركزية برفع أسعار الفائدة لتحقيق الاستقرار في الأسعار، واستمر تراجع العولمة مع تحول مزيد من البلدان من التجارة الحرة إلى التجارة الآمنة، ومن التكامل الاقتصادي إلى الانفصال و«الحد من الأخطار».
علاوة على ذلك، تعمل الشيخوخة المجتمعية في أوروبا واليابان والصين على تقليل المعروض من العمال في وقت تعوق فيه القيود المفروضة على الهجرة تدفق اليد العاملة من البلدان الفقيرة إلى البلدان الغنية، وكل هذا من شأنه أن يؤدي إلى زيادة تكاليف العمالة.
إن تغير المناخ يؤدي بالفعل إلى تغذية الطاقة وانعدام الأمن الغذائي، وزيادة تكاليف الطاقة والغذاء، ومع اعتماد الولايات المتحدة بشكل أكبر على الدولار كأداة للسياسة الخارجية، يظل تراجع هيمنة الدولار كسلاح نووي مالي، لا يزال العالم يواجه أخطار التهديدات الاقتصادية التي أشرنا إليها والتي من المرجح أن تصبح أغلبها أكثر حدة في العقد المقبل.
يواجه العالم «معضلة ثلاثية»، كيفية تحقيق استقرار الأسعار مع تجنب الركود والأزمة المالية، هذه المعضلة الثلاثية تشكل قضية خطيرة.
ثم هناك مشكلة تزايد عدم المساواة في الدخل والثروة، التي تسبب تأجيج رد فعل عنيف ضد الديمقراطية الليبرالية ورأسمالية السوق الحرة، والظلم الملحوظ في النظام العالمي وهيمنة المؤسسات المالية الدولية التي تسيطر عليها واشنطن، والدور السلبي الذي يلعبه الدولار، والضعف الذي يسببه للدول النامية.
إنه انتصار للسياسة على الاقتصاد، مع انتهاء فترة ما بعد الحرب الباردة التي اتسمت بالهيمنة الأميركية العالمية وخطر التهديدات الاقتصادية وتراجع هيمنة السلاح النووي المالي.