الخليج الإماراتية ـ ثقافة ـ إبراهيم اليوسف:
تعدُّ رؤية المثقف-عادة-خلاصة موقفه الفكري من العالم، وهي تتأسس من خلال الثقافة العالية، والتجربة العميقة، وتتصف بجديتها، وابتعادها عما هو تلقيني، ببغاوي، وإن كانت ستلتقي مع آراء سواه، ضمن إطار حدي ثنائية الخير والشر، أصل كل رؤية على الإطلاق . إذ يمكن أن يتم تقويم أيّ موقف حياتي من خلال هذين الحدين، ليكونا المعيار الذي لابد منه .
وإذا كان أيُّ رأي ينوس بين حدي هذه الثنائية، فإن تلك الآراء الرَّمادية التي يقف أصحابها، في المنطقة الوسطى، لا يمكن لأصحابها أن يتمكنوا من استقطاب جدواها، قيمياً، لأنها نتاج تردد، وعدم تبلور ونضوج، أو أنها قد تكون دليلاً على عدم إمكان حسم الموقف من قبل هؤلاء، وله أسبابه المعرفية الأخلاقية المعروفة .
ومن المعروف، أن كلا الرأيين المتناقضين، لهما فلسفتهما الخاصة، وإن كنا ندرك أنه شتان مابينهما، إذ لايمكن أن يكون هناك رأيان متناقضان، إلا يندرج أحدهما في خانة مصلحة الإنسان، كي يندرج الآخر في الخانة الأخرى، المقابلة، المعادية له،،سواء أكان هذا الرأي معنوياً، أم ممارسة فعلية، حيث إن هذين الرأيين سيواصلان صراعهما، بلا هوادة، على مدى التاريخ والحياة، لأن لكل منهما بذوره، وتربته، وحاضنته، وفق المنافع المتناقضة التي توفر لهما ظروف الدَّيمومة .
ولعلَّ بعضهم قد يستغرب، كيف أن هناك مثقفاً، لا يستطيع التفريق بين الخير والشر، ويتخذ موقفاً غير لائق به، وهي ملاحظة وجيهة، وصحيحة، إلا أنه لابد من أن نضع في البال أن من تنحرف بوصلة الرؤية لديه، ويتخذ موقفاً غير لائق برصيده المعرفي، إنما هو مدرك -في الواقع- حقيقة موقفه، بيد أنه غير قادر البتة أن يتخلص من بين فكي الغريزة المنفعية التي تدفع مثل هذا المثقف للتعامي عما يراه، والتغاضي عما هو مطلوب منه، كي يؤدي دوراً مرسوماً له، وعليه أداؤه، مكرهاً، ملغياً بذلك، طوعاً، ما هو منوط به .
ومفهوم المنفعة،هنا، مفتوح، لا يمكن حصره في مجرد إطار محدد، خاص، بل إنه ينداح، كي تكون له وجوه، وحقول، ومجالات هائلة، تبدأ من منفعة الحرص على الرغيف، والخوف من مواجهة الحقيقة، وتكاد لا تنتهي برغبة جعل مثل هذا التنازل من قبله، سلماً لقطف جنى كثيرة، من بينها المكانة المؤسسية، أو الاجتماعية وغير ذلك .
ولا يمكن للرؤية الصائبة لدى المثقف أن تتشكل، بمعزل عن جرأة مواجهة الذات، والتنكر لكل ضروب المنافع، بيد أن هذه الخصلة، لن تكون كافية، ما لم تتعزز بالجهد، والحفر المعرفي، والتجربة الفعلية، وشجاعة مواجهة الذات والعالم، على أن يتملص من أية تأثيرات سلبية تؤثر في استقلالية رأيه، في خدمة القيم الأخلاقية العليا، التي يرتئيها، وتشكل درجة الإخلاص لها إرثه ورصيده الكبيرين .