حكومة الدكتور حسّان دياب والكورونا
صحيفة البناء اللبنانية ـ
زياد حافظ:
لم يكن رئيس الحكومة الدكتور حسّان دياب بحاجة إلى مواجهة جائحة الكورونا في لبنان إضافة للمتاعب التي يواجهها يومياً في محاولاته لإخراج لبنان من الأزمة المالية والاقتصادية الوجودية التي تمرّ بها البلاد. لكن وقد حصلت فعليه أن يحوّلها إلى فرصة لتكريس مسيرة إصلاحية مطلوبة منذ زمن. ولا نقول ذلك من باب التمنّيات وإنْ كانت تعكس تمنّيات اللبنانيين بأكثريتهم الساحقة بل لتوظيف إخفاقات الحكومات السابقة والسياسات المدمّرة لفرض دون تفاوض مع أصحاب المصالح الفاسدة الإجراءات المطلوبة. فحالة الطوارئ التي أوجدتها جائحة الكورونا تبرّر اتخاذ قرارات استثنائية رغم تردّد وعراقيل بعض المكوّنات للطبقة السياسية القائمة.
فإذا كان فيروس كورونا 19 يفتك بأرواح اللبنانيين فإنّ الوباء الذي تشكّله بعض مكوّنات الطبقة السياسية التي حكمت لبنان في حقبة الطائف أخطر من الكورونا. فالفيروس قد يكون له علاج في المستقبل القريب بينما تلك الطبقة السياسية وباء لا علاج له إلاّ بالكيّ! وما يزيد الطين بلّة استهتار النظام المصرفي في لبنان الذي دعم الطبقة السياسية مقابل السكوت عن جشعها فأكل الأخضر واليابس من أموال اللبنانيين. ويصل الاستهتار باللبنانيين إلى درجة إذلالهم يومياً في رفض دفع مستحقّاتهم أو في منّهم حقوقهم المالية وكأنها إكرامية من قبل المصرفيين. لذلك لا بدّ من تنظيف الخرّاج عبر المضادات أو عبر الكيّ قبل البدء بالإصلاح.
لكن رغم كلّ المصائب التي تحيط بلبنان، فهناك أوراق عديدة يملكها الرئيس دياب تزداد فعاليتها يوماً بعد يوم عبر أدائه وأداء حكومته الذي يلاقي رضى أكثرية اللبنانيين. فهذه الحكومة تملك شرعيتين لم تملكها حكومات سابقة إلاّ في جزء منها. الشرعية الأولى هي الشرعية الدستورية التي منحها مجلس النوّاب وهذا مشترك مع الحكومات السابقة. أما الشرعية الثانية فهي الشرعية الشعبية أو شرعية الحراك الشعبي التي انعكست في البيان الوزاري وفي إطلالة رئيس الحكومة على اللبنانيين. فهذه الشرعية الثانية افتقدتها الحكومات السابقة برموزها ولن تعود لها في المستقبل القريب بسبب التغيير في موازين القوّة داخلياً وعربياً ودولياً. فتلك الحكومات ولدت من رحم تلك الموازين بينما حكومة الرئيس دياب تعكس تغييرات فيها. وهذا التغيير في تلك الموازين والذي يقلق الطبقة السياسية وامتداداتها الخارجية يزداد لصالح القوى التي تدعمه الآن، وخاصة قوى محور المقاومة في لبنان، بعد تسميته وتكليفه. كما أنّ خلال الشهرين الماضيين استطاعت الحكومة تقديم أداء لم يكن سهلاً بسبب العراقيل التي تضعها بعض القوى السياسية في مسار الحكومة.
جائحة الكورونا تهديد للبنان بل عدوان عليه شامل وخبيث. فرغم الصعوبات كان أداء الحكومة في مواجهة الوباء وخاصة أجهزة القطاع العام وفي طليعته المستشفى الحكومي ليعيد المصداقية للدولة وأجهزتها بينما أخفق القطاع الخاص إنْ لم نقل تقاعس في تلك المواجهة. فأداء المستشفيات الخاصة لم يكن بالمستوى المطلوب في مواجهة الوباء مقارنة مع ما قدّمه طاقم المستشفى الحكومي وإمكانياته المحدودة بسبب سياسات الحكومات السابقة التي أهملته عن قصد وتعمّد. لذلك تستطيع حكومة الرئيس دياب أن تبني على ذلك الرأس المال من الثناء الشعبي لتمضي في مخططها الذي عرضته في البيان الوزاري وفي الإطلالة التليفزيونية لرئيسها. ولكن في المقابل قد يشكّل فرصة للحكومة لتجاوز العراقيل التي تواجهها. وليست التعيينات الأخيرة المؤجّلة إلاّ عيّنة عنها والتي أظهرت تلك العراقيل.
الرئيس دياب مدعوّ بصراحة إلى التسلّح بالغطاء الشعبي الذي يزداد يوماً بعد يوم ليتجاوز الابتزاز الذي تفرضه الطبقة السياسية عبر وباء المحاصصة في ملفّ التعيينات. المطلوب هو ان تكون التعيينات مبنية على الكفاءة والإخلاص الوطني وليس على الولاءات السياسية. وهذا أمر صعب تحقيقه في الظروف الحالية وضمن بيئة حكم الطائفية والمذهبية. لا نقول بالضرورة إنّ الخروج من الطائفية أمر مستحيل بل نكتفي بالقول إنّ رفض احتكار التمثيل الطائفي والمذهبي بقوى معيّنة أو شخصية معيّنة هو الطريق لتذويب الطائفية والمذهبية. والتهديد باستقالة قوى سياسية من مجلس النوّاب لا يجب أن يكترث له أحد. فالأمة مستمرّة “فيهم وبلاهم”! فالإنصاف بين الطوائف مطلوب وربما حاجة وطنية في الظروف الراهنة، ولكن المحاصصة ليست إنصافاً بل هي تكريس لهيمنة قوى متسلّطة على الطوائف والمذاهب. وهذا التسلّط بعيد كلياً عن الوطنية بل مدعوم وتابع لمرجعيات خارجية. فهذه القوى تفتقد القوّة الفعلية الشعبية التي من خلالها يمكنها أن تحقق أهدافها فلذلك تستعين بالمراجع الخارجية سواء كانت إقليمية أو دولية.
فالتدخّلات الخارجية وخاصة الأميركية هي التي سبّبت تأجيل التعيينات في مصرف لبنان. وهذا أمر غير مقبول. التدخل الأميركي جاء صراحة وعلناً على لسان الناطق باسم السفارة الأميركية في لبنان الذي اعتبر التدخل كان من “باب الصداقة”. فإذا كانت “الصداقة” على هذا الشكل فما هو العداء؟ نستذكر هنا مقولة الرئيس الخالد الذكر جمال عبد الناصر في تحديد العلاقات مع الدول: “نصادق من يصادقنا ونعادي من يعادينا”. فأين الولايات المتحدة والدول الأوروبية في نظرة الحكومة من هذه المقولة؟ فهل هي في موقع الصديق فعلياً أم في الموقع المعادي؟ المعيار هو الموقف من المقاومة وحق لبنان في الدفاع عن نفسه في مواجهة أطماع الكيان الصهيوني العدو والمحتلّ لجزء من لبنان، ونقطة على السطر!
قد تكتسب حكومة الرئيس دياب شعبية وقوّة سياسية إضافية إذا ما استطاعت أن تبرهن عن استقلالية، وليس العداء، عن الإملاءات التي تمليها “الدول الصديقة”. لم يصل إلى لبنان من تلك “الصداقات” إلاّ البلاء عبر دعمها لقوى سياسية فاسدة أوصلت البلاد إلى ما هي عليه إضافة إلى فرض توجّهات لم تكن في يوم من الأيام من مصلحة لبنان بل لمصلحة العدو الصهيوني.
الحكومة مدعوّة لمعالجة الملفّات التالية اليوم قبل الغد: ملف إعادة هيكلة الدين العام، ملف إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وملف إعادة هيكلة الاقتصاد اللبناني في تحويله من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد إنتاجيّ. الجامع المشترك بين هذه الملفّات هو القطاع المصرفي بشقّيه، الحكومي أيّ مصرف لبنان والخاص أيّ مكوّنات جمعية المصارف. التدخّلات الخارجية في التعيينات لمؤسسات مصرف لبنان تدلّ على أنّ مهمة الحكومة ستكون في غاية الصعوبة. الحكومة مدعوّة لتجاوز تلك الضغوط وإفهام مَن يتدخّل من الخارج أنّ العلاقة معه على المحكّ وأنّ للبنان خيارات أخرى غير الخيارات التقليدية التي تبيّن أنها غير مجدية. فالتوجّه شرقاً أيّ نحو الصين وروسيا والجمهورية الإسلامية خيار جدّي ومجدٍ بينما الاستمرار بعلاقة مريضة مع دول لا تعير مصلحة لبنان أيّ اعتبار آن وقت المراجعة فيها.
حكومة الرئيس دياب منهمكة في مواجهة الكورونا، ولكن هذا لا يعفيها عن استمرارها في مقاربة الملفّات المذكورة أعلاه. ربما حالة الحجر الصحي المفروض على البلاد قد تكون فرصة لاتخاذ إجراءات مفصلية كما تسرّب من معلومات في تخفيض عدد نوّاب الحاكمية وأعضاء لجنة الرقابة إضافة إلى مراجعة في الرواتب. لكن كلّ ذلك قد يكون دون أيّ فائدة طالما رأس الهرم في مكانه. لا بدّ من تغيير حاكم مصرف لبنان وتعيين مكانه شخصية صاحبة كفاءة ونزاهة وقبل كلّ شيء وطنية. وإلا ستكون الإجراءات التي تنوي اتخاذها الحكومة فقط لمصلحة الحاكمية ولجمعية المصارف. فكيف يمكن إعادة هيكلة القطاع المصرفي مع وجود المسؤولين عن فساده في موقع السلطة والقرار؟
إذا استمرّ الرئيس دياب في مصارحة اللبنانيين في مختلف القضايا وإذا سار في طريق استقلالية القرار الوطني بعيداً عن التدخلات الخارجيّة فلن تجدي التهديدات بالعقوبات لأنّ لبنان يستطيع أن يتجاوزها. فلا يجب أن ينسى اللبنانيون أنهم استطاعوا بفضل المقاومة طرد المحتلّ الصهيوني المحميّ من قبل المجتمع الدولي رغم القرارات الأمميّة التي أكّدت سيادة لبنان. فهل التهديد بالعقوبات أكثر من الاحتلال وفظائعه؟ فهناك حلول يستطيع لبنان اتخاذها لتجاوز الابتزاز الذي قد يضرّ فقط في بعض المصالح الفاسدة أساساً فلماذا نضع البلاد رهينة لمصالح هؤلاء؟
يستطيع الرئيس دياب أن يقلب الطاولة على الذين يعرقلون قراراته. فلا مجلس النوّاب يستطيع سحب الثقة، وليس هناك من إمكانية الدعوة إلى انتخابات مبكرة. في المقابل، قد يكون له الدعم الشعبيّ الذي يمكّنه من الاستمرار. فالقرار عائد له أولاً وأخيراً ونحن معه في اتخاذ تلك القرارات المطلوبة في إعادة هيكلة الدين، والقطاع المصرفي، وإعادة هيكلة الاقتصاد كما جاء في البيان الوزاري وإطلالته التلفزيونية.
*كاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي.