حارة حريك ، ماذا حدث ؟
كل شيء كان يسير على ما يرام في حارة حريك. كانت أفخر أنواع التُمور تسمّى حسن نصرالله في الأسواق الشعبية للقاهرة، كان عُتاة الماركسين العرب يُعنّفون “المانيفستو” وسائر عماراتهم الفلسفية لمنح حزب الله شرعية نضالية أممية، وكان رفيق الحريري يُهدي سيّد المقاومة حذاء طُبيا لحمايته من أوجاع الظهر وفي الوقت نفسه يساهم وأخرون في حماية ظهر المقاومة السياسي. حتى في المراحل اللاحقة، كانت المقاومة لا تنكسر أمام إسرائيل وكل حرب جديدة معها كانت ستعني حتما إضافة “بَعد” جديدة إلى معادلة ما بعد حيفا بتكلفة قرار أممي سرعان ما سيجري تفريغه من محتواه ليتحول إلى ظاهرة صوتية فصلية يصرّ عليها بسماجة بان كي مون.
في تلك الأثناء وفي مكان ما، لا شك أن أكاديميا مشرقيا كان يتساءل كيف حدث أن التمر السني صار شيعيا طوعا، مع ما للتمر من ثقل في لاوعينا من حيث أنه كان ربا يُعبد ذات جاهلية. كيف حدث أن تمكن “أبو هادي” ببسمته الساحرة أن يتجاوز قدرا طائفيا دمويا بدا حتميا في التقويم الغربي للعمر الذهني لذلك الطفل الهائل المُسمّى بالشرق الأوسط، هو القدر ذاته الذي إحتاج الغرب لمجازر وإخفاقات وحروب عبثية ليخرُج منه إلى ما هو عليه الآن مستعينا بتراث لا يقدّر بثمن من التنوير إضطلعت به جامعات ومساهمات عبقرية لفلاسفة ومفكرين ومثقفين. لم تتأخر بلاد الشام كعادتها في تزويد التاريخ بأجزائه الأكثر دموية، ففي اللحظة الأولى التي أُختُبرت فيها ” القضية ” أمام خيط الثأر والدم القابع في لحظات التدشين الأولى للمذاهب والطوائف الإسلامية ، كان سقوطها مدويا. خرج الضُلع السني الوحيد في محور الممانعة عندما إنحازت حماس إلى جيناتها الإخوانية تاركة هذا المحور “يعاني” من شيعيته المُحرجة في سياق نظرية المعركة مع الغدة السرطانية التي تحتل فلسطين، فلسطين ” السنيّة “.
الآن فقط، يستطيع هذا الأكاديمي أن يبتسم لأنه كان رومانسيا، ويستطيع أن يتنفس الصعداء لأن التحقيب الغربي للتاريخ لا يزال صالحا في الشرق الأوسط. السؤال حتما: هل كان هذا الأكاديمي متفردا في رومانسيته ؟ وإذا كان الأخير سيكتفي بإبتسامته، هل يستطيع صانع القرار أن يحذو حذوه أيضا ؟ . ليس بإستطاعة المكابرين أن يتجاوزا حقيقة أن الشارع العربي الذي راكم صمتا فلكيا عندما شاهد مسلسل القهر والاستيطان في فلسطين على مدى عشرات السنين، خرج عن صمته مطالبا برغيف خبز ربما أو بحريات سياسية، فقط. لم يُسجّل لهذا الخروج “شعارات” فلسطينية أو قومية، كان الأمر واضحا حتى بالنسبة للرومانسيين الجُدد، هناك أولويات وفلسطين ليست جزء منها. كانت هذه اللحظة الاستراتيجية وجبة دسمة لما يُسمّى بمحور الإعتدال العربي، فاقم هذا الأخير من جراح المحور المُقابل فقط بزيادة جُرعة الاتهام التقليدي له بأنه لا شيء آخر سوى محور شيعي، أو هلال شيعي كما يحلو للبعض أن يسمُوه.
يبدو الآن أن الإعتراف برومانسية إستراتيجية عمرها ما يفوق الأربعين عاما حاسما، قد يفترض البعض أن حقيقة بُلغوها سن الرُشد بسنيّها الأربعين يُصعّب عملية إقناعها بإبتلاع لاواقعيتها ولكن هذا “البعض” يجب أن يقتنع أن الشعوب يجب أن تبلغ سن الرشد أيضا، وقد يقول أحد الخُبثاء أن القضايا التي لم تُعمّر سوى على المنابر وفي مواسم الهيجان العاطفي يجب أن تُختبر بصلافة في سياقات موازية وأحيانا مضادة، وما يجري الآن في سوريا تأكيد بليغ على الإنهيار الشامل لنظرية الممانعة بما هي تجاوز عملي للإشكالية الطائفية لصالح قضايا جامعة يضيف هذا الخبيث، ويرمق بنظره أشلاء ما كان يوما ضلعا سنيا غادر جُلّه (أو غدر) ماكينة الممانعة العرجاء سُنيا.
حارة حريك، كما طهران، يجب أن تتساءل الآن ماذا حدث؟ الإجابة ستُحدد إستجابتها للآتي من الأحداث والتحديات. تبدو الإجابة الآن في حارة حريك للمتابعين: لا شيء على الإطلاق!. على طريقة علي بن أبي طالب الذي قال يوما إعرف الحق تعرف أهله، لأن الحق لا يُعرف بالرجال. أنصار هذه الإجابة يمضون ثابتين في الصراع ويشخّصون ما آلت إليه الامور بأنه فقط مرحلة جديدة من الصراع مع الفكر الاستسلامي تتطلب مزيدا من الثبات ووضوح الرؤية، بهذه البساطة. لا تزال وجهة النظر المُقابلة في مرحلة التشكّل هناك في مركز المحور في طهران، والانفتاح الايراني على الغرب إحدى أهم تجلياتها. وإذا ما قُيّد لهذا المنطق أن يكون وُجهة سير مُستحدثة للمحور بأكمله، نكون قد دخلنا في مرحلة جديدة بالكامل بحيث تختصر إيران نفسها بشيعيّتها وتتصرف مع محورها على هذا الأساس. الخاسر الأكبر بالطبع هي القضية الفلسطينية وليس محور الممانعة الذي لن يحتاج إلا الى القليل من الدهاء ليُثمّر عتاده العسكري وأذرعه المقتدرة على حساب “مبادئ” تبدو غير ملائمة أو على الأقل لا تنتمي إلى هذه اللحظة. الرئيس الإيراني حسن روحاني الذي جازف ليتحدث بخفر إلى الولايات المتحدة الآن يقوم فعليا بعملية إستطلاع حذرة يحاول من خلالها تحقيق مكاسب آنية ليستثمرها في الداخل الإيراني المتوجس تقليديا من الغرب. وإذا ما قُيّد للإنفتاح الإيراني أن يكتسب شرعية “ثورية” داخلية فستكون وجهته التالية حارة حريك لا محال. عندها سيواجه حزب الله التحدي الأكثر حراجة في تاريخه وهو ضرورة التكيّف كإحدى مفردات بقائه، ومن المُسلّم به أن عمليات التكيّف داخل المنظمات تحتاج عادة إلى جيل من القادة إبتعد بما فيه الكفاية عن طهارة وبراءة لحظات البداية الإشعاعيّة، والخطورة في نموذج حزب الله أن جُلّ قادته هم من الرعيل الأول الذين عاصروا وشاركوا في صناعة أسطورته المُثيرة للإعجاب.
في حارة حريك تعيش الطهارة الثورية لحظات إستثنائية، ليس أنها لا تستطيع أن تكون ملكية أكثر من الملك نفسه، بل أن الحسين الذي قال عنه يوما السيد نصرالله أنه يقاتل في غزة مع المقاومة الفلسطينية بات شخصا غير مرغوب به هناك، وهذه الحقيقة الموجعة تُضاف إلى كابوس العمليات الإنتحارية في البيئة التي لطالما قال الحزب انه سيخدمها بأشفار عيونه هما المدماك الأول ” لفتوى إستراتيجية ” مُحتملة تقضي بحماية هذه البيئة بما هو أكثر من الإجراءات السلبية المعمول بها الان. عندها، سيحتاج الحزب إلى غطاء دولي لدوره المستجد الذي سيندرج ربما في سياق المعركة الكونية ضد الإرهاب، هذه المعركة ستكون مقدمة لبيئة إستراتيجية جديدة ستضع على المحك قدرته على التكيّف مع مستقبل لن يُشبه ماضيه بالتأكيد.
أيمن عقيل – بانوراما الشرق الأوسط