جدليةُ المجتمع والثورات
صحيفة المسيرة اليمنية-
عبدالرحمن مراد:
برز في الآونة الأخيرة الحديث عن التطورات الاجتماعية والثقافية، وجدلية الاندماج الاجتماعي، والاندماج السياسي للجماعات والأحزاب والطوائف، وما يزال العقل الاجتماعي والعقل الفلسفي يخوض في تفاصيل الحركة الاجتماعية التي تعيد إنتاج نفسها من خلال الاشتغال على التفكيك في البنى التقليدية، وذلك بحثاً عن وسائل مثلى لدعم التسامح، وقبول الآخر، والاعتراف بوجوده، والتعايش معه، واحترام معتقداته وثقافته، ولعل البحث عن تلك العلاقات الشكلية بين مكونات المجتمع المختلفة والدولة وفق المفهوم الجديد الذي أفرزته وتفرزه حركة المجتمع يقود إلى الحديث عن دمج كُـلّ الفرق والجماعات والأحزاب في إطار المفهوم الجامع الشامل الذي تستظله عبارة “المواطنة المتساوية”.
ولعل إشباع مفهوم “المواطنة” تنظيراً وجدلاً وتكثيفاً وتشريعاً وممارسة هو الباب الذي نلج منه إلى البناء الصحيح في توطيد الروابط الاجتماعية، والمشاركة في النشاط الاجتماعي المتنوع سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعياً وثقافيًّا، وبحيث نصل إلى حقيقة الاستقرار والشعور بالوجود لكل أطياف المجتمع ومكونه العام، فالتعدد ظاهرة محمودة تمنع الاستبداد وتحد من الطغيان من خلال التدافع الصامت الذي يحدث بين مؤسّسات الدولة المختلفة وبين المؤسّسات المدنية والذي يحدث بشكلٍ غير مباشر وبصورةٍ بينية، فالفصل، بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية يعمل على تفعيل خاصية التدافع الصامت من خلال المواجهة والاحتكاك بين السلطات، فالسلطات الثلاث تحتك وتتضاد مع الأُخرى وبما يفضي إلى القول إن الدولة من خلال تعدد سلطاتها ستحد من الدولة.
ذلك أن السلطة في ظل التعدد والتنوع، وفي ظل الأنظمة الديمقراطية الحديثة لها شكلان، شكل داخل الدولة والآخر خارجها، فالسلطة داخل الدولة -كما يرى ذلك فقهاء القانون- هي للقانون، فالدولة تكون طرفاً دستورياً محايداً، ومسؤولو الصف الأول لن يكونوا إلا موظفين ترتبط سلطتهم بالقانون، وبالفترة الزمنية التي ينص عليها الدستور، وبحيث لن يكون بوسع أية جماعة أَو حزب أَو طائفة أن يتجاوزوا ذلك السقف الزمني.
أما الشكل الذي خارج الدولة فيتمثل في إعادة توزيع السلطة/النفوذ بالطريقة التي تحفظ التوازن بين المجتمع الرسمي أي مجتمع الدولة، وبين المجتمع المدني من أحزاب ونقابات ومراكز ومراجع دينية، وهذا الشكل يخلق لحظته المتفاعلة مع الزمن، ويجد من الصراع، ويقلل من ظواهر الطغيان والاستبداد والفساد وبما يتوافق مع المصالح المرسلة للجماعات والكتل التاريخية التي تعمل حركة المجتمع على خلقها في لحظات التحول والتبدل.
وكما قلنا آنفاً في السياق إن المفهوم يتغير تبعاً لما هو كائن من حركة وتغير وتبدل وتعدد، فالوعي الاجتماعي كان في زمن ما قبل 2011م ضحية تعسف رسمي متعدد الجوانب والآليات عمل على إخضاع مشاعر الناس وعقولهم على التصور بأن مفهوم الدولة لا يتجاوز الهيمنة السياسية ومجموعة الرموز التي يخضعون لها كالرئيس والوزير والمحافظ والشيخ، ولكنه ومن خلال ما تشهده من حركة بدأ المجتمع يعي، وبدأ يقرأ الفروق اللازمة بين مفهوم سلطة الدولة ودولة السلطة، فسلطة الدولة تعني أن جميع أجهزة الحكم فيها من مؤسّسات ودستور وقوانين وقيادات تعمل في منظومة متكاملة لتحقيق الغايات الوطنية، ودولة السلطة تعني أن أجهزة الدولة ومؤسّساتها وأدواتها القانونية والدستورية تعمل في منظومة واحدة لتحقيق مصالح السلطة الحاكمة ويصبح الوطن وثرواته ومواطنيه ملكاً لها.
وطبقاً لما سبق نذهب إلى القول إن ما يحدث في واقعنا هو عملية انتقالية وتبدل في المفهوم، ومثل ذلك يضعنا في مواجهة زمن جديد يتوجب التفاعل مع متغيراته ومظاهره العامة.
فالثورات تحدث تبدلاً في شكل العلاقة بين الدولة والمؤسّسات الاجتماعية والثقافية وبين فرق وطوائف المجتمع، فالتبدل والتغيير من خاصية الثورات والهزات الاجتماعية العنيفة التي حدثت في كُـلّ حقب التاريخ، ولذلك لا تكف الأخبار في تداولاتها اليومية عن حدث أَو صراع أَو حركة اجتماعية، فالتدافع الذي يحدث هو صراع بين ماضٍ يتشبث بالوجود وحاضر متبدل يرغب في الوجود، ومثل ذلك التدافع من سنن الله في كونه، ويحدث خوف الفساد وخوف الثبات، وتبعاً لذلك التدافع يتمايز الناس إلى جماعات وأحزاب، ويحدث أن يطغى الأقوى ويستبد، والطغيان والاستبداد من طبائع المنتصر في أي تجمع بشري ولن تحد منه إلا الفنون التي تجهد في تكثيف موضوعها في صناعة حيوات وبحيث تجعل من فردية الفرد كلية، فهي عن طريق الفن تعمل على زيادة الوعي باللحظة والوعي بالذات في إطار المجموع الوطني أَو الإقليمي أَو العالمي، وميزة أي حدث ثوري تكمن في قدرته على إحداث متغير في حياة الناس والمجتمع وتلك من خصائص تورة 21 سبتمبر التي عملت وما تزال تعمل ونأمل أن تستمر في صناعة التحولات حتى يستعيد اليمن ريادته ويمتلك أسباب وعناصر النهوض.